غزة مدينة الصمود الأسطوري في وجه الغزاة والطواغيت بقلم الأديبة تغريد بو مرعي
غزة ، المدينة الأسطورة التي صمدت في وجه الغزاة والطواغيت
غزة ملهمة الشعراء
كتبت تغريد بو مرعي/ لبنان/ البرازيل
مدينة غزة في فلسطين تتميز بتاريخ طويل وحافل بالأحداث، فهي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط وتحدها الحدود الشمالية لإسرائيل والحدود الشرقية مع الضفة الغربية. يعود التاريخ الإنساني للمنطقة إلى آلاف السنين، حيث شهدت غزة حضارات متعاقبة من الكنعانيين إلى الفلسطينيين الحاليين، وقلّ أن شهدت مدينة من المدن ذلك القدر من المكابدات والنجاحات والتحولات المصيرية الذي شهدته غزة عبر عصورها المختلفة، فقد قُدّر لهذه المدينة التي بُنيت قبل أربعة آلاف عام، و بسبب موقعها الجغرافي المميز أن تكون موقعًا هامًا للطرق التجارية والثقافية في المنطقة ، وملتقى القوافل والهجرات من قدماء المصريين والبابليين واليونان والفرس والرومان , وصولاً الى العرب والفتح الاسلامي .
اسم "غزة" يعود إلى اللغة الكنعانية، حيث كانت المنطقة جزءًا من مملكة غزة القديمة. وفي العصور القديمة، تمت تسمية المدينة بأسماء مختلفة، وقد ورد اسمها في سِفر التكوين. في العهد الفلسطيني القديم، كانت تُعرف باسم "عزة"، وفي العهد الآشوري باسم "غزاتو"، أما في العهد المصري القديم كانت تسمى "هانيت"، كما سماها الفرس " غازا " وتعني الكنز الملكي , وأطلق عليها اليونان إسمًا مماثلًا ويعني الخزينة أو الثروة، كما تعددت أسماؤها بتعدد غزاتها فسُمّيت إيوني ومينووا وقسطنديا وغاريس..
ومن بين أسمائها أيضًا "غزة هاشم" , تيمنًا بجد الرسول الأكرم، الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها. شهدت مدينة غزة صمودًا استثنائيًا منذ الاحتلال عام 1948، حيث أصبحت مركزًا للمقاومة الفلسطينية ومحطة للأحداث الهامة في النضال الفلسطيني. الحصار الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، وخاصة بعد انسحاب المستوطنين الإسرائيليين عام 2005، فرض تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة على سكان المدينة.
لقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة على مقاومة غُزاتها الطامعين عبر الزمن، تمامًا كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية، فيما كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب، يزدادون صلابة وقوة ومنعة والحفاظ على الهوية والحقوق.
وليس غريبًا أن تحظى غزة منذ القدم باهتمام الشعراء، وأن تكون مصدر إلهام وإبداع، فعبروا عن حبهم لها وعن معاناتها ، خاصة أنها أصبحت محط أنظار المجتمع الدولي بسبب التحديات الإنسانية التي يواجهها سكانها وصمودهم الأسطوري وتضحياتهم التي لا تُحصى..
فها هو نزار قباني يكتب عن غزة وأطفال غزة الأقوياء وصلابتهم أمام الأعداء:
"يا تلاميذ غزةٍ علّمونا
بعض ما عندكم فنحن نسينا
علّمونا بأن نكون رجالًا
فلدينا الرجال صاروا عجينًا
علّمونا كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفال ماسًا ثمينا"
غزة الأبية، قدمت وتقدم في سبيل الحريات والكرامة الدماء والأرواح والتضحيات الجسام، وقد تحوّل تاريخها الى سلسلة من المجازر والأهوال والمواجهات اليومية مع العدو المحتل، فقال محمود درويش فيها:
"أتيتُ أتيتُ
سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا
وغزة لا تبيع البرتقال
لأنه دمها المعلّبُ
كنت أهرب من أزقته
وأكتب باسمها موتي على جميزة
إن الوضوح جريمةُ
وغموض موتاكم هو الحق الحقيقةُ ,
آه لا تتحرك الأحجار
إلا حين لا يتحرك الأحياء
فالتفّوا على أسطورتي"
كما كتب في أحد نصوصه النثرية:
"الزمن في غزة لا يدفع الناس الى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم الى الانفجار والارتطام بالحقيقة.
الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة الى الشيخوخة ، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو. ليس الزمن في غزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة ".
ولم يكن تميم البرغوثي أقل احتفاء لمدينة غزة ، فقد استلهم صمودها وتضحياتها في قصائده لا سيما قصيدة" نفسي الفداء لكل منتصر حزين"
نفسي فداء للسماء قنابل الفوسفور تملؤها كشعر الغول
ألف جديلة بيضاء نحو الأرض تسعى
والسماء تريد ان تنقضّ كالمبنى القديم
فنرفع الأيدي لنعدل ميلها
وتكاد أن تنهار لولا ما توفر من أكفّ الطيبين
يا أهل غزة ما عليكم بعدها
والله لولاكم لما بقيت سماء ما تظل العالمين
غازي القصيبي في مقطع من قصيدته "غزة":
"غزةُ وشتاءُ الطيرِ وعيد الركعِ والسيفِ
لم أفهم قطُّ كيف كنا ننام"
أما سميح القاسم فكتب يخاطبها في قصيدة "غزة" :
ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحه؟
يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ
تفاح جرحكِ
هل سيثمر للغزاة الفاتحين ؟
يتفقّد الأغراب جرحكِ :
"قد تموتْ في الفجر غزة , قد تموتْ"
وتعود في الفجر الحزينْ
صيحات حبكِ والحياة
أقوى وأعلى
يا صباح الخير
أختَ المعجزاتْ
تلك القصائد تعكس مختلف جوانب الحياة والتحديات في غزة، وتبرز الروح الصامدة والفنية للشعراء في التعبير عن واقعهم، ورغم كثرة الشعراء الذين واكبوا بقصائدهم ونصوصهم سيرة المدينة الصامدة، التي ما تزال تتعرض لحصار خانق منذ عقد ونصف من الزمن , فقد اتسمت قصائد معين بسيسو بنكهة خاصة عن مدينتهم غزة الذي ولد فيها عام 1926 , وعاش بين ظهرانيه فترة طفولته وصباه.
معظم كتابات معين بسيسو استلهمها من مخيمات اللجوء ومنازل الصفيح والأماكن اللصيقة بقلبه وذاكرته ووجدانه، فكتب قصيدته "إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الاسرائيلي" التي يقول فيها:
"يُفرد القلبُ جناحيه بعيداً ويطيرْ
لبساتينكِ يا غزّتيَ الخضراء
في ليل الجحيمْ
ولجدرانكِ تغلي كالصدورْ
غزّتي أنا لم يصدأ دمي
في الظلُماتْ
فدمي النيرانُ في قشّ الغزاةْ
وشراراتُ دمي في الريحِ
طارت كلماتْ"
وحين يصمّ العالم مسامعه عن أنين البشر المكلومين، لا يتوانى بسيسو عن تحويل شعره الى أهازيج وأغنيات ترددها من بعده الأجيال المتعاقبة، ويتخذ بعضها شكل الوصايا، كقوله في قصيدة " المعركة " :
"أنا إن سقطتُ فخذ مكاني
يا رفيقي في الكفاحْ
واحملْ سلاحي لا يُخفكَ
دمي يسيل على السلاحْ
وانظرْ الى شفتيّ أُطبقتا
على هوُج الرياحْ
وانظرْ الى عينيّ أُغمضتا
على نور الصباحْ
أنا لم أمتْ ، أنا لم أزل أدعوك
من خلف الجراح
ولأن غزة أسطورة بتاريخها وصمودها وشعبها، ولأننا نعيش في عالم مليء بالتحديات والظروف الصعبة، وفي غياب العدالة والإنسانية، يجب أن نعبر عن تضامننا مع غزة وأهلها، ونعمل جميعًا نحو تحقيق السلام وتوفير الدعم للمحتاجين وإعلاء الكرامة الإنسانية التي يستبيحها الطغاة والغزاة والمستعمرين..
ولأن الألم بلغ مداه,، أنا تغريد بو مرعي، كتبتُ غزة بحبر الانتماء العروبي فقلت:
"ياغرّة العز الأبيّ المُجتبى
لله درّك للكرامة سؤددا
في كل زاوية شهيد ضاحك
درب الشهادة باب عدن قاصدا
أمسيتِ مجدًا من ضياء سرمد
فكانّما حلّ النهار وتسرمدا
يا غزة الأبطال يا سيف الهدى
ضاقت بك السبل ولم تخشي ردى
فيك النضال وفيك دعوة عابد
لتصير حصنًا آمنًا مخلّدا
آن الأوان لكي نخط كتابنا
ونعيذ قدسك من شرور العدا
فعسى بدربك غزّة الأحرار يط
لع فجر نصر للحياة ومولدا
بقلم تغريد بو مرعي
تعليقات
إرسال تعليق