PNGHunt-com-2

قصيدة صاحبة القطيفة للشاعرة سلوى محمود ورؤية الناقد الجزائري عامر شارف

قراءة أخرى من ناقد الجزائر الشاعر الكبير الدكتور / عامر شارف طوقتني بجميل آخر وحملتني سعادة أخرى بوركت ناقدنا الكبير الدكتور عامر على هذا المجهود الرائع وهذا الإبداع الموازي الذي ألقى الضوء على كلماتي المتواضعة ....رفع الله قدركم ورقاكم ظاهرًا وباطنًا

جمالية الصورة البصرية وتاثيرها في المتلقّي
قصيدة ( صاحبة القطيفة) الشاعرة سلوى محمود
*
مقاربة الدكتور عامر شارف / جامعة محمد خيضر ،بسكرة/ الجزائر .
تمهيد :
تعدُّ الصورة البصرية عنصرا هاما في نقل الحدث بكيفية ما، وذلك للتأثير في المتلقّي، من خلال ألوانها، حركاتها، حجمها، والهدف منها بصفة عامة إعلامي، لكن في المجال الأدبي  انتقلت  إلى الشعر بهدف الإثارة والدهشة في المتلقِّي النوعي النخبوي مؤديةً رسالاتها، وترامت محملة بفجوات يملأها المتلقي، محملة بخيبة الانتظار، منافحة بفتح جديد لنظرية القراءة والتلقّي، وهي أداة في النّصّ الشعري لقراءته بشكل يقارب ويحاور تلك المعاني للوصول إلى دلالاتها، لأنها تلبس النص ثوبًا مغايرًا في تجلياتها، بالإضافة إلى أنها عملية تنميق وتزيين، كما تؤسس إلى معجم خاص بالأسلوب، ووشيجته الذهنية، معبِّرة موحية أكثر، وبحثي لا يتطرق إلى جدلية البياض والسواد في الصفحة، التي تعتري القصيدة تشكيلا مرئيًّا، ولا أقصد سُمْكَ رسمِ الخطّ على الورقة، ولا أقصد علامات الترقيم، والتعجّب أو الاستفهام، وخريطة الطباعة والنقاط ... وغيرها إنما أقصد اللفظ داخل المركّب اللغوي، حيث سأحاور المنجز اللغوي البصري في تمثيله المرئي من خلال وجوده في العبارة التي تضع أمامنا صورا تعانق البصر، من خلال استقدام المرئي المادي بدل اللامرئي المعنوي.
الجمال والجمالية:
يعرِّف أرسطو الجمال أنه تقليد للطبيعة ومحاكاتها، ولا يتحقق إلا في العالم المثالي، ويرى الجمال قسمين؛ أولهما حسي في أدنى درجاته، والثاني جمال الروح " العقلي" وهو أرقى درجاته، و( يتجلّى في التناسق والانسجام والوضوح ) ، وهي عناصر تحقق جمالية النصّ، لكن سقراط يشير أن ( كل شيء ذا فائدة، هو رائع وجميل )  ، أي هي نظرة براغماتية، المهمّ فيها وجود الفائدة، بينما يرى أفلاطون الجمال( يكمن في الدين، والقوّة الإلهية..) ، أما ما أعلن الفارابي إنه ( عملية إنسانية عند الفنان بفعل بناء شخصيته وإمكاناته الفكرية، وقدرته على إضافة جمال أكثر إلى الطبيعة بفعل العقل والمعرفة)  ، وهكذا تتجلى صفة الجمالية نسبة له في المقام الكلامي .
الصورة لغةً :
جاء في المعجم الوسيط ( الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته )  ، ولكن يبقى تحديد الصورة بصغة أخرى حيث ذكر الأصفهاني ( ما ينتقش به الأعيان، ويتميّز بها غيرها، وذلك ضربان: أحدُهما محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركه الإنسان وكثيرٌ من الحيوان، كصورة الإنسان، والفرس والصّقر بالمعاينة، والثاني معقول يدركه الخاصة، دون العامة، كالصورة التي اختصَّ الإنسان بها من العقل والرؤية والمعاني وصور الفكرة وصياغتها )  ، وهذا الجزء الثاني من خلاله نحاول فتك ضفائر قصيدة "صاحبة القطيفة " مقاربةً .
الصور البصرية :
أقصد بها كل الجمل التي تُوحِي لنا بصورة نراها بأم أعيننا، ثم تذهب إلى الذهن ليقرأها، متجاوزا القراءة الوصفية، إذ تفتح لنا أفاقًا واسعةً، وتعطي المتلقي حرية التأويل، من خلال اللغة البصرية مجسَّدة في ألفاظها الدّالّة، في ألوانها، في أشكالها، وتفاتح المتلقِّي بدلالات متعددة بعد استخلاص معانيها مستندًا إلى ضبط العلاقة مع العنوان، ورصد الحالة، السياق، وفك رموز الشفرات المُحَمَّلة بالمعاني، ومراعاة المستوى الإبداعي لتوظيف الصورة البصرية، ثمّ تركيبها ووضعها في شأنها المجازي، بالعودة إلى اختلاف مرجعية المبدع، والمستوى العلمي، المعرفي، الثقافي، الخبرة، المعايشة، ومراعاة الجانب الوجداني، والنفسي والذهني، والفكري، ومن جهة ثانية مراعاة كل هذه العناصر في المتلقي أيضا، لأن الشاعر لا يبدع إلا ما يعرف ويدرك، والمتلقي لا يدرك إلا ما يعرف، ويبدو أفق الكتابة الأدبية الإبداعية، والقراءة في أمداء ممارستيهما .
جمالية الصورة البصرية :
تتجلى جمالية الصورة البصرية ببهائها، وبتصريحها الإيحائي، في صورة تفتح حضنها للمتلقّي، محمَّلة بقيم فكرية، ثقافية، نفسية، من خلال عناصر ونظام وتراكيب، والجمالية تكمن في نفسية المبدع " الحالة النفسية والتوتّر" ، التي تنتج النّصّ لحظتها، وما مدى قيمة التأثير في الآخر، من خلال الصورة المحسَّسة المتخيّلة في المعنى الذهني، وقد حفلت الدراسات الأدبية النقدية والبلاغية منذ القدم بالصورة الشعرية، واحتلت مكانة هامة ومهمة على رأي( الشعر صناعة وضرب من النسيج وحسن من التصوير )  بحيث انقسمت صور إيقاعية، وصور سمعية، وأخرى صورة حركية، وهكذا البيت الشعري مبني على مثل هذه الصور المختلفة .
بدءًا بقراءة العنوان " صاحبة القطيفة" نلاحظ الأنسنة المتمثلة في "صاحبة" ؛ لأنّ معناها الإنسان في أقرب حالة للإنسان، دلالة كافية وافية في هذا المضمار، ثم إضافة المرئي المتمثّل في القطيفة بمعنى البردة، وما لها من دلالات تاريخية دينية، وأدبية في الشعر العربي، ويبرز لنا اقتران الإنسان بالشيء، حيث جمعت الشاعرة سلوى محمود بين عالمين متناقضين" الإنسان/ الأشياء"، ونسجت عالمًا آخر نتيجة المزج، يؤدّي إلى تآلف ضمني " ميعاد الامتلاك" بصورة مرئية بصفتها من متعاليات العنوان .  
مع مطلع القصيدة :
تقول الشاعرة في مطلع قصيدتها صاحبة القطيفة :
مهلاً أبا أيُّوبَ قد طالَ العَناءْ.. / واللحنُ أتْعبَهُ الْغِناءْ
ضاقت شِعابُ البيدِ بِالنُّوقِ الَّتي
تبغي القصاصَ لحقِّها
مِنْ بَعدِ صبرٍ واحتواءْ ..
وقفت الشاعرة على صورة بصرية، صورة إنسان، "أيوب" وما لها من دلالات في تاريخنا الإنساني المحمَّلة بالصبر، والقوة النفسية، وهي تحاوره ، مصوِّرةً العناء وسنوات الهمِّ والأسى في بلاد العرب، وهذا التمثيل المرئي البصري بالإنسان للفت انتباه المتلقي، وربط الجدث التاريخي القديم بالأني للتأثير في المتلقِّي، ونلاحظ تمثيل اللفظة يخضع إلى مقدرة الشاعرة الفردية لاستدعاء لفظة أيُّوب، ودلالته، ولتقرّب الدلالة تقول:
ضاقت شِعابُ البيدِ بِالنُّوقِ الَّتي .....
وتبدأُ مسارات التمثيل في شعر سلوى محمود من هنا على ضفة البيد الصورة البصرية التي تحدد مكانا جغرافيا شاسعًا، شاعثًا، وهي تتأمل النوق "الصورة البصرية الثانية" التي أحسّت بالضيق في البيد الشاسعة التي ألفتها، لكن هذه النوق نظرًا لظروف صعبة، ضاقت بها الحال، وإن أوّلناها ربما قد تكون هي حالة الأمة العربية بذاتها صفة وموصوفًا، التي تعرف الآن عيشًا ضنكا، استجابةً لهذا الموقف، وتعبيرا عن حالها، تقول: 
والشَّمْسُ قد كُسِفَتْ جَوانِحُها أسىً..
والنَّجْمُ قدْ زَهد السَّمَاءْ..
تعتمد الشاعرة على الصور البصرية كمعمارية للقصيدة، التي تعبر مِن أساسيات بناء الشعر بصورة عامة من خلال الشمس، هذا الكوكب الضخم، الكريم مضيء العالم، والنجم، والسماء، تتراوح على فضاء واسع كما هو معروف، لكن هذا العالم لم يعد على طبيعته المعهودة، وهذا من خلال " رؤية العالم"رؤية الشاعر انطلاقا من العالم الاجتماعي النفسي الذي تعيشه، مؤكّدةً هذا الضياع في قولها:
أطلالُ داري
قد أضاعت بينَ عينيَّ الطريقْ..
ما عدتُ أمتَلِكُ الرفيقْ..
وفي حالة فزع وضياع، والإحساس بالأوجاع تقف الشاعرة عند " أطلال الدار"، " الطريق" ، و" الرفيق "، تتعانق هذه العناصر في المكوّن الصوري البصري، " أطلال الدار" الدّالة على الكارثة التي وقعت، فقدان النزل والرحيل، والعودة لرؤية الأطلال، وإعادة الذكريات ، و" الطريق"  الذي ضاع لم يعد يعيدها إلى منزل الوالد العتيق، ولم يبق مآلها إلا التيهان، وغاب " الرفيق " المؤانس الذي سيساعدها على الحياة، وهكذا تبدو اسوداوية العيش كظاهرة في الصور البصرية، وهي تردّد:
طال المَدى.. / شاخَتْ جيادُ العُمرِ عَدْوًا كُلَّما /   صَفَعَتْ بِهَامَتِها الرَّدى..
نجد هنا ثلاثة ألفاظ تلازمت في انسجام "طال المدى" دالة على التيهان في غياهب اللاستقرار، و"الجياد" التي شاخت، وعندها سيتوقف الدفاع عن النفس، عن الأرض، عن العقيدة؛ " لأن من عادة العربي ملازمة جياده الأصيلة في الحرب"، وقد كانت تصفع بهامتها الأعداء بقيادة الصحابة، والفاتحين، وصلاح الدين الأيوبي، أمَّا اليوم فقد تغيَّر الأمر إلى ما يعيشه العربُ، وهم في حالة استسلام، وسكت كثيرُهم طوعًا وخوفًا، فشاعرتنا سلوى محمود تميل إلى اختزال الواقع، وتصوير المعيش، فالمدى، والجياد، والهامة قاسمها المشترك متمثلا في الهزيمة، ومن هذه المرئيات تتضافر صور شعرية معبّرة عن حقيقة المرارة ، ومن هذا واقع تشكّل بنية قصيدتها :
قُلْ للمليحاتِ اللواتي/بِتْنَ في حِضن الخواءْ../الآنَ قد حانَ التباكي بالغِناءْ../الآن قد حان النحيبْ.
يمكننا إدراك الأشياء التي كانت مجرّد معطيات لا قيمة لها خارج السياق، أو دالة على أمر آخر، وعلينا محاولة التّأمّل في معناها المشكَّل ثم في صداها الدلالي داخل السياق، وهنا نقف على الجملة بتمامها ومع مراعاة لفظ " المليحات" لنجد أن الصورة دالة على تدنِّي الحياة إلى أسوإ " فقدان الشرف"، والمليحات اللواتي كن في رفاهية، أصبحن في همٍّ وغمٍّ، ولم يُتَحْ إلا التباكي بالغِناءْ" وهو "الشعر والنحيب" بأعلى صوت، ومن هنا نلاحظ أنّ الشاعرة سلوى محمود من الذين يستخدمون الصورة المرئية، ومن المبدعين الذين (لا يعترفون إلا بالصورة المرئية المجسّمة أو ما يسمَّى بالبلاستيكية التي تشغل مظاهر الصُّورة الكلية للأشياء بعيدًا عن نطاق الذات الفردية ) ، فالشاعرة منطلقة من الوجود الحسّي الواقعي إلى تشكيل الصورة الشعرية، والبصرية بخاصة، وللتأثير في المتلقِّي بالجمالية، وتصوير الحالة النفسية الغارقة في الحزن والأسى، المتضايقة بأجواء العيش، حيث تصف الذّات بنفسها لنفسها :
القلبُ أتعَبَهُ التّمنّي حائراً..
والعقلُ أفناهُ الشَّقاءْ..
وضفيرتي السَّوداءُ أشْعَلَها الذُّبولْ..
والبابُ يَنتَظِرُ الرسولْ..
وعيونيَ السَّوداءُ بيَّضَها البكاءْ..
شَقَّتْ خُيوطُ العُمرِ حُمرةَ وجنتي..
عامر
عامر شارف
تتشكّل هنا الدلالاتُ من معان عامة، وقد تتشكّل المعاني من دلالاتٍ عامة، وهذا يعود إلى خاصية الشعر، وقدرة البسط السردي، واستدراج المجسّد في مواضع من التشكيل البصري، وكأن الشاعرة تستند في معراجها الشعري إلى مدرسة" imagine"  التي ظهرت على يد "هيوم " و " أوباوند" ؛ التي تعتبر( الصورة كل ما ينقل عقدة فكرية أو عاطفية، أو لحظة زمنية)  ، المتمثل في  العقدة العاطفية في عبارة ( القلبُ أتعَبَهُ التّمنّي حائراً.. والعقدة الفكرية في عبارة (العقلُ أفناهُ الشَّقاءْ..) ، واللحظة الزمنية في قولها: وضفيرتي السَّوداءُ أشْعَلَها الذُّبولْ.. تحاول الشاعرة تشكيل الصورة البصرية لتؤكّد أنّ ما بين مسافاتِ الوجعِ وَجَعًا، وجميع حروف القصيدة تقطرُ أَلَمًا، فكان القلب والعقل والضفيرة شهود المشهد البصري العربي في هذا الزمن، لتقيم خيمة الوجع بالقرب من خيمة النابغة الذبياني قائلةً :
قدَّت طيورُ البينِ من دُبُرٍ سُطورَ رسالتي..
والآن ….تاهت في القفارْ..
كان الخيال من أهمّ الركائز التي انبنت عليها القصيدة، من خلال  الاستعارات المكنية "قدّت طيور البين"، كذلك في " طيورُ البينِ" و" دُبُرٍ سُطورَ" و"  سُطورَ رسالتي" ، وعليه فإن هذه الألفاظ : " الطيور، سطور، رسالتي، القفار " هي مجسّدة صور بصرية ، دالة على ما فعله البين والبعد في ذات الشاعرة، ( يتضمّن من حسن التخييل له، ومحاكة مستقلة بنفسها أو مقصورة بحسن هيأة تأليف الكلام) ، هذه الاستعارات جنوح من الواقع إلى فضاءات خيال، وتواصل هذا التشكيل :
وتفتّتَتْ أشلاءُ ظنّي / إذ يهوِّلُهَا السّقوطْ!
تُلقَى بجهلِ الجاهلينَ على منابرِ الازْدراءْ..
قَيحَ الحروفِ إذا يسيلُ من الشفاهِ الأعقَمِ..
استغلت الشاعرة ملكتها التخييلية وتوظيف التشخيص والتجنيس ما بين( التشخيص" نسبة صفة البشر إلى  أفكار مجرّدة، أو إلى أشياء لا تتّصف بالحياة "، والتجسيد " إلباس المعنويات صفات المحسوسات") ، فهذا التشخيص والتجسيد عملية إبداعية نقلت الشاعرة فكرتها وعواطفها، وتقديم الكامن في عمقها بأسلوب إيحائي من خلال الرسم بالمجسَّد "أشلاء ظنّي" ، "منابر الازدراء"  و" قيح احروف" والمشخَّص " الشفاه" لتحقق رسوماتها من المعنوي إلى المادي، وتقريب الدلالة من المتقِّي:
وقصيدتي اغتيلت وقد كان المخاضُ / بدمعِ قلبي والدمِ ..
ونلاحظ هنا "دمع" و" قلبي" و" الدم"  ألفاظًا على جناح خيال تحقّق الشاعرة بها لامكانية التحليق بالمتلقّي إلى فضاءات وآفاق بعيدة عن الواقع، برغم اغتيال القصيدة، وعملية المخاض التي ترسمها بخيال بعيدًا الواقع العربي، لكن مستندة على الرسم البصري  من خلال "دمعِ، قلبي، والدمِ"، المجسّدة للواقع  الغارق في الحزن، والموت .
كيفَ الفطيمُ أسنَّ لكنْ لم يَزَلْ / لميوعةٍ لم يُفطَمِ؟
أولى بهم / أنْ يمنعوا تلك الفواطمَ / أن يُدلّلْنَ الرضيعَ بمَبسمِ..
أولى بهم / أن يمنعوه من الخَطابةِ والكرامةِ / يصفعوه على الفمِ ..
اعتمدت الشاعرة على استدعاء الأنسان الفطيم، الفواطم، الرضيع، هذه القطعة سيمفونية حزينة جدًّا، تجعل المتلقي يبحر في حزن عميق، أسبابه الأوجاع العربية، والحاكم العربي، وهي تتفرج الإذلال، والموت اليومي يأتي على اليابس والأخضر، على خريطة تمنع فيها  الابتسامة والخطابة، وتعيش الإشباح في وهمها، وتكبر الوحوش، وتتسع الوحشية في أرض تكمّم الأفواه، والحقيقة أنّ ( الشعر لا يهدف إلى نفع مباشر، ولا يقصد به توجيه سلوك المُتلقي ومواقفه بقدر ما يقصد به تحقيق نوع من المتعة الشكليّة، وهي غاية ذاتها، وليست وسيلة لأيّ شيء آخر) ، تجاوبت الشاعرة مع الأجواء المزاجية النفسية، وترجمت أحاسيسها بقوة خيالها مستوحية من البيئة العربية وأجوائها، وأحوالها :
لا تَحسَبنَّ البيدَ يُزهِرُ وَردُها..
والظبيَ يوماً قَدْ تدلّلُهُ الأُسُودْ..
والحيةَ الرقطاءَ قد تبغي السلامَ بلَدغِها /  وفحيحِها..
فعبيدُ شُهرتِهم أناخوا في مضاربِ حيِّنا
الإشارة إلى المدلول من المعنى، وتقريبه إلى الذهن، كي تتعلق معانيه به، فلفظ البيد دالة على الشساعة، والضبي دالة على الذل، الأسود دالة على القوة والعنف، والحية الرقطاء دالة على الموت والفناء، والعبيد هم الجماعة المطبِّعة، وعين المتلقي مبصرة شاهدة على رسم هذه الخريطة من مشاهد على الأرض العربية، والعروبة المفقودة في زمن يحرم فيه الدعاء في مضارب الحجاز :
ولاّدةٌ … قَطَعَتْ طموحَ أبي الوليدْ..
والقومُ من عَبسٍ أداروا كأسَهمْ /  وتعاهدوا في سُكرِهمْ
ألا يكونَ العنترُ المقدامُ كفواً
للأماجدِ - آلِ عبلةَ- في الخلودْ..
تبدو عملية الإسقاط التاريخي على الواقعي اليومي في هذا المقطع متمثّلا في ( تشكيل لغوي يكونها خيال الفنان من معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدّمتها، فأغلب الصور مستمدة من الحواس إلى جانب ما لا يمكن إغفاله من الصور النفسية والعقلية) ، إنّ "ولاّدة، الوليد، القوم،عبس، كأسهم، العنتر المقدام، الأماجد، آل عبلة"، تريد كشف المضمر، محاورة الماضي بالحاضر، والإفصاح عن الواقع المعيش بهذه التماثيل البصرية الحيَّة المكتنزة بسيماتها الأدبية، والمحمَّلة بانشغالاتها التاريخية في نسيج أدبي يحاضر أمام عبيد الصّمت والخضوع، وهو ما يضيف إيضاحًا:
رغِمَت أنوفُ الحاقدين من القبيلةِ
فالفتى العبسيُّ نالَ مرادَه ببطولةٍ
والقلبُ حرَّكه الصدودْ../ وبسيفهِ وبشِعرهِ لَمَسَ الأماني السامقاتِ
وضاق بالوصفِ النشيدْ../ لكنَّما / شيبوبُ تعشقُه القيودْ...!
الأنوف، الحاقدين، القبيلة، الفتى العبسي، السيف، شيبوب، تحرّك المشاعر لغاية في ذاتها، فتحت آفاقا واسعة أمام رؤية المتلقي من خلال التأثير فيه باعتبار الصورة البصرية من أهم وظائفها لإثارة والشحن والتشنُّج، بالإضافة جمالية "تناص تاريخي أدبي" التي تجنبتُ دراستها لأنني لسنا بصددها. 
ما عاد يَفْقدُنا أَحدْ..
علِّقْ حبالَ الموتِ في أعلى السقيفةْ..
لم تَدْعُ صاحبةَ القطيفةْ..
إلا بحبلٍ من مَسَدْ..
تتكسّر الأبعاد الزمنية، وتكبر مساحات اليأس، يتمُّ اختزال عناصر الحياة، وتمضي الشاعرة بأصابعها العشرة على صحيفة الاستشهاد بإعلان صريح، وما فعل الأمر النحوي في وظيفته البلاغية التماس يائس من الحياة الدنيوية إلى الحياة الدائمة، لم تَدْعُ صاحبةَ القطيفةْ.. / إلا بحبلٍ من مَسَدْ..، وكم هو أرى هذا التناص مع القرآن، الذي يفيض جمالية وإيحاء دلالي مفعم بقوّة، لاستدراج مفردات البوح، وحرف الحياة، وتجلّي الوعي، وهي تحمل راية الأمّة العربية بيمينها، معلنة بقلمها، وقصيدها، وبصوتها الجهوري.
الخاتمة :
قصيدة مرفوعة على بهاء إبداعي، محملة بكثير من الرؤيا والخيال والرؤية، بالتمثيل المرئي المجسَّد، لواقع معيش، بلغةٍ مجنَّحة، محملة بأحاسيس شاعرة، وبوعي حكيمة، وهذا التمثيل الشكلي يعود إلى منابع نفسية الشاعرة ، وبموازاة إلى المنجز الرّامز، و المبنى المعرفي، والموحي المثقَّف، حيث ترسم توتُّرات شعرية كمعادل موضوعي للواقع العربي الجريح، وهكذا تبدو اسوداوية العيش، وتأسّي القصيدة كظاهرة في الصور البصرية .
جامعة بسكرة/ الجزائر  24 فيفري 2024

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي