PNGHunt-com-2

بعض من حال : بقلم الأديب كريم القاسم _ العراق

(بعضٌ مِن حال )
___________________
الى حبيبٍ مازَجَتْ روحهُ روحي، ودم رُعاف عاشق لجروحي .
حنينٌ أمين، ذكيٌّ فطين .
وفيٌّ عَطوف، فاكهةٌ قُطوف .
صَقَلَهُ الدهر حتى لَمَعَ معدنهُ، وخالَطَهُ الحزن حتى بَرَقَ شَجَنه ُ.
خَطا فوق الارضِ خُطى الواثقِ، وحَفرَ على الصخور الشواهقِ.
رسمتُ طيفه أمامي، وبَعثرتُ غابرات الزُحام ِ، فَدَمَعَتْ مقلةُ العينِ بحَبّاتِ اللُجَّينِ ،لطفولةٍ في النفوسِ تَجَذَّرَتْ، وذكرياتٍ مع الدموعِ تَحدَّرَتْ، وتذكرتُ ما أدبرَ  ومات ، وكلّ ما خَلا وفَات، فصرتُ ضاحكاً بعد نَحيب، وغدوتُ صبياً بعد مَشيب.
طرقات تملأها القهقهات، وكراتٌ أتعَبَتْها الرَكلاتْ .
سيقاننا تُسابق الريح، وكأننا خيلٌ سريح.
صادقون السريرة ... فقراء الجريرة. عيوننا لاتعرف الزيغ، جباهنا لاتفارق الرَيغ .
كهولٌ في صِغَرْ ، نجومٌ في سَحَرْ . دَرَجْنا في حُجُور ٍ طاهرة، ونشأنا في رياض ٍ ناضرة، حتى باعدَتَ ْ بيننا فواقر السنين، وضاع صراخنا بين لواعج الأنين، وفارقَ كلّ خليلٍ خليلَهُ، وفارق الفرسُ صهيلَهُ، فأوحشتْ نفوسنا الغُربة، وعَشعَشَتْ في دارنا السُرْبَة، ومَحا المشيبُ طريقَ الشباب، وصارتْ آمالنا كالسراب، وبَعُدَتْ الآمال كقعر ِ السِهاب، ورُجِمَتْ الأماني بقِطَعِ الشِهاب، فأستحال الوطنُ ثوباً مُهلهلا،  وغدا الشعبُ موتاً مُعجَّلا، فجُرِّدَت الحِراب، وكَشَّرَت الأنياب، وتقطّعَت الاسباب، وكثر العتاب، وقال قائلهم:
ماباله قد صَمَت؟ 
هَفَتَ حَرفهُ أم  خَفَت؟
لستُ أستجدي حروفي مِن أحَد... كلماتي كحبلٍ من مَسَد.
كلّ السلاطينِ طُغاة ، بطانةُ القصر بُغاة.
إستأسدَ الجربوعُ في وسط الفلاة، وأنتحرَ العدلُ على بابِ القُضاة، وحوكِمَ السيّابُ من جديد، لأنهُ لَعَنَ القيودَ والحديد، ولأنهُ وصفَ عينيها:

"غابتا نخيل أو شرفتان راح َ ينأى عنهما القمرْ "...*

ولأنه أَحَبَ (جيكور)*  وصاحَ :

" مطرٌ مطرٌ مطرْ"

ولأنهُ جعلَ الأضواء ترقصُ في النهر ، ولأنَّ الشَمس أجملُ في بلادي من سواها، وحتى الظلمة أجمل مِن عَداها، فأصبَحَتْ حروفنا قضيّة، ومدادنا ضائعا بلا هوية، وشيخنا المُبَجَّل ِ" يمشي على ثلاثةٍ كَمَشيَةِ العَرَنْجل ِ" *
فحَلَّلَ قَتل النفس الزكية، وجَعَلَ الحُرَّة سَبيّة، وأفتى بجعل الرشوة هدية. أَفتى على كل النِحَل ْ:

قَتْلٌ مُباح واستَشهـِدوا على عَجَلْ.

والخائنون يهتفون بغباء:

أجَلٌ أجَل ْ.

فانتُهـِكَتْ الأوطان،وزالت العقول عن الأبدان .

ياسيدي...

لي وطنٌ قد ضاع .
لقمتنا تنهشها الضباع .
سفينتي جانحةٌ وانكسَرَ الشراع.
راحلتي ضامرة .
لفقرها شاهرة .
عظامها ناخرة .
قد أضَّلَتْ طريقها،
ونَفَرَتْ فريقها،
وخَفَتَ نهيقها.
فاقدةٌ  قَـفَرَ  الأثر،
لطولِ السَفر، وبُعد الَمقَر.
فما فائدة الصياح في وطن الاشباح، والارض قَفْر، والعطاء نَزْر ، والنظر شَزْر
فَحَبسَتْ السماء قطـْرها، ولَفظَتْ الارض طُهْرها، فاستحالتْ النفوس البشرية، ضواري بربرية ، وصار الدين لـُعقة، والصِّدْقُ شُرقة، وغارَتْ القيم، وتلاشت الهِمَم .
فاصبح الأسياد تابعين صغارا ، والعبيد أسياداً شِرارا ، وقُسِّمَت البلاد، واستيقظ الجلاد، ومُزِقَت الاجساد، وكُرِّمَ الفُجّار ، وذُلَّ الاخيار ، وجاعت بطون الأنام، كأيتامٍ في مائدةِ اللئام، واختلفَ الحال، وتشابكت النصال، واصبح اللَّعنُ سِجالا، وتفرَقتْ أرواحنا أوصالا، ودَمرْنا الحرثَ والنَسلا، فحَصَدْنا بَدَلَ العِلم جَهلا، وما غَيـّرنا مابنفوسنا، فلم يُغير الله حالنا، فسلَّط علينا سوط العذابِ مَرّات مَرّات ، وأبتلانا بخوفٍ ونقصِ في الأنفسِ والثمرات ...

﴿ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ  ﴾
...........................................................
*(غابتا نخيل أو شرفتان راح َ ينأى عنهما القمرْ) : من قصيدة (أنشودة المطر) للشاعر بدر شاكر السَيّاب

*جيكور  : مدينة جنوب العراق، ولد فيها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب.

*(يمشي على ثلاثةٍ كمشيةِ العَرَنْجَلِ) : بيتٌ شعريٍّ من قصيدة (صوت صفير البلبل ) للأصمعي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي