القفلة المباغتة في ق.ق.ج للناقد العراقي كريم القاسم
إلى المتلقي الفطن:
إنّنا في هذا الجزء لا نقتفي أثر نص مكتمل، بل ندخل إلى المختبر البلاغي للـ (ق.ق.ج).
هذه القفلة المباغتة التي نختبرها ليست مجرد نهاية، بل هي تغيير كيميائي في بنية النص، يستوجب منكم، أيها المتلقون، التزام دور الشريك الفاعل.
الـ (ق.ق.ج) فن يتعمّد إخفاء جزء من الحقيقة ليجبر العقل على إعادة قراءة كل ما سبق.
لذا، ندعوكم إلى تفكيك هذه الآليات، لتكتشفوا كيف يُدار التناقض بين النفي والإثبات، وكيف يُهندَس الغموض لتتحول لحظة القراءة الأخيرة إلى كشف دلالي يُبقِي النص حياً خارج صفحاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(القصة القصيرة جداً هندسة القفلة المباغتة)
(الجزء الرابع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّ فن الـ (ق.ق.ج) يتجاوز مفهوم الإيجاز ليبلغ مرتبة التأثير المُحكَم، وتحويل الإيجاز إلى دهشة فنية.
إنَّ النص هنا ليس مجرد سرد مكثف، بل هو بنية تُصمَّم بأكملها لتخدم اللحظة الأخيرة، حيث يتحول متن السرد إلى لغم بلاغي ينفجر في وعي القارئ.
الخاتمة والقفلة المباغتة هي لحظة التنوير الفجائي التي لا تُنهي القصة وحسب، بل تعيد إضاءتها كاملة بأثر رجعي، وهي الفارق الحاسم الذي يجعل القصة خالدة، أو مجرد عبارة عابرة.
في هذا الجزء، ندخل إلى دهاليز الصنعة الخفية، حيث نُشَرِّح تقنيات أساسية لبناء هذه القفلة، والتي تجعل النهاية أكثر من مجرد سطر.
بالإضافة إلى تحليل قوة التضاد بين (النفي والإثبات) في السرد، لنؤكد أن نهاية النص هي مركز الجاذبية الذي يجب أن يشد القارئ إلى أعماقه:
أولاً /
الهندسة البلاغية للقفلة المباغتة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعتبر دلالة (تغيير زاوية الرؤية).
تعتمد الخاتمة (القفلة) الناجحة على تقنيات بلاغية تهدف إلى إحداث صدمة معرفية أو مفارقة عميقة في الوعي.
إن القفلة المباغتة ليست مجرد معلومة ختامية، بل هي تغيير جذري في زاوية النظر للحدث المسرود بأكمله، وتعنمد على تقنيات عدّة.
لنتعرف الآن على هذه التقنيات:
1- تقنية التأويل المفتوح (القفلة الشاملة):
• الوظيفة:
تقديم قفلة تحتمل دلالات متعددة ومتباينة، مما يُحوِّل القارئ إلى شريك فاعل في عملية بناء المعنى.
وهي قفلة تزرع الأسئلة بدلاً من أن تحصد الإجابات النهائية.
• مثال إثرائي :
(أعاد الجندي الحقيبة إلى مكانها، ثم نظر إلى طفلته النائمة، وتذكر الأوامر. كان قد وعدها بلعبة، لكن المال لم يكن يكفي لشراء الطعام والدواء. في النهاية، قرر أن يترك مقر عمله ويعود للمنزل، لكنه لم ينس وعده القديم لها.)
ـ والآن نأتي بالقفلة التأويلية المباغتة:
(وفي صباح اليوم التالي، وجد على الباب حقيبة أخرى مطابقة للأولى.)
• الشرح والتحليل:
تكمن قوة القفلة في المعلومة المفقودة المتعمدة التي تمثل جوهر التكثيف الرمزي.
إن (الحقيبة) هنا ليست مفقودة، بل هي رمز للاختبار الأخلاقي أو الإغراء المالي المتاح للجندي في مقر عمله، خاصة وأنه يعاني من ضائقة مادية شديدة .
المال لديه لم يكن يكفي لشراء الطعام والدواء.
إن قراره بإعادة الحقيبة وترك مقر العمل هو فعل تضحية نبيل.
وهنا يجب الانتباه إلى أن عبارة (نظر إلى طفلته النائمة) لا تعني وجودها جسدياً معه، بل هي تقنية تقطيع وتكثيف تُستخدم لاستدعاء صورتها ذهنياً في لحظة الصراع الأخلاقي، لتكون الحافز الذي يوجه قراره ويزيد من وطأة تضحيته.
إن القفلة النهائية (وجد على الباب حقيبة أخرى مطابقة للأولى) هي لغم دلالي يُفجّر التأويل المفتوح.
هكذا ختام يُجبر القاريء على طرح تساؤلات متعددة:
ـ هل هي مكافأة سرية من القيادة تقديراً لأمانته رغم حاجته؟
ـ هل هو تضامن من زميل له؟
ـ أم أن هذا التصرف كان متوقعاً ومخططاً له من قِبَل الجندي نفسه (فكرة التضحية لاستقبال مكافأة)؟
هذا الغموض المُتَعَمَّد هو جوهر التأويل، حيث يصبح النص ملكاً للقارئ ليقرر مصير الجندي، وهذا يضمن بقاء القصة حية ومفتوحة في الذاكرة.
2- تقنية القفلة المزدوجة (التناقض الآسر):
• الوظيفة:
تقديم قفلتين متضادتين في جملة واحدة (أو جملتين متتاليتين)، إحداهما تؤكد النجاح المادي، والأخرى تنسف هذا النجاح عبر إثبات الفشل النفسي أو المعنوي.
هذا التناقض يولّد صدمة مزدوجة ومكثفة.
• مثال إثرائي :
(ظل يُعلّق الآمال على العودة للمنزل طيلة سنوات الغربة، جمع المال، واشترى كل ما حلمت به العائلة. عاد أخيراً، يحمل مفاتيح بيته الجديد في يده.)
ثم نأتي بالقفلة المزدوجة فنقول :
(أعاد المفاتيح إلى جيبه، ثم أدرك أنه لم يَعُد يعرف أي طريق إلى هنا، أو إلى أي مكان.)
• التحليل والشرح:
القفلة المزدوجة هنا تستثمر المفارقة الوجودية الساخرة.
لقد نجح البطل في المهمة الخارجية (العودة وامتلاك المفاتيح) لكن القفلة الثانية تنسف هذا النجاح عبر إظهار فشل العودة الداخلية والمعنوية.
هذا التضاد بين الامتلاك المادي (المفاتيح) والضياع الوجودي (نسيان الطريق) هو ما يخلق الصدمة المزدوجة.
إن القفلة تنقلنا من ضياع الطريق إلى المنزل (هنا) إلى ضياع الهدف في الحياة (أو أي طريق يقود إلى أي مكان).
إن حرف (أو) هنا لا يعني الاختيار، بل يُستخدم لتوسيع دائرة المأساة، مبيناً أن الرحلة الخارجية كانت أسهل من الرحلة الداخلية التي لم يتهيأ لها.
هذا التضاد بين الامتلاك والضياع هو جوهر الصدمة التي تؤكد أن العودة إلى الذات أصعب من العودة إلى المكان.
هذه الجملة البديلة تلخص التكرار الأخير بأسلوب مختلف.
ثانياً /
قوة النفي والإثبات في بناء القفلة (البلاغة المُعاكِسة):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أقوى الأساليب البلاغية التي تخدم القفلة المباغتة هي استخدام (النفي والإثبات) بطريقة معكوسة تخدم المفارقة الدرامية وتفجِّر التوقعات المسبقة للقارئ:
1- النفي (الاستئصال الدلالي):
• الوظيفة:
استخدام أدوات النفي (لم، لا، ليس) في الجملة الأخيرة لإلغاء الافتراض الجوهري أو الدلالة الكلية التي بُنِيَت عليها القصة بالكامل.
• مثال اثرائي:
(كان يحدّق في صورة السيدة العجوز على الحائط طوال العشاء. الصمت الثقيل والتوتر الواضح هما ما دفعاه ليواجهها بالحقيقة أخيراً، ويتحدث عن الماضي.)
ثم نأتي بقفلة النفي فنقول:
( في اللحظة التي أراد أن يتحدث فيها، أدرك أنه لم يَعُد يذكر من هي هذه السيدة العجوز.)
• الشرح والتحليل:
النفي في هذه القفلة هو مفتاح العبقرية.
يكمن النفي في عبارة (لم يَعُد يذكر) وهو ليس مجرد نسيان عابر، بل هو استئصال للذاكرة والهدف معاً.
هنا القصة بأكملها مبنية على دافع المواجهة والتذكر، لكن القفلة تنسف وجود هذا الأساس الدلالي بالكامل.
هذا النفي لا يلغي حدثاً عادياً، بل يلغي الضرورة أو السبب الجوهري وراء الأحداث، مما يترك القارئ أمام عبثية الموقف وعمقه النفسي الهائل، مؤكداً أن الصراع الأكبر هو صراع الإنسان مع ذاكرته الضائعة.
2- الإثبات (التأكيد المُعاكِس):
• الوظيفة:
استخدام فعل أو عبارة إثباتية قوية تؤكد شيئاً لم يكن متوقعاً على الإطلاق، أو تتعارض بشكل جذري مع جوهر السعي الظاهر في القصة.
• مثال إثرائي :
(كانت ليلتها الأخيرة في المدينة. جمعتْ كل ممتلكاتها، ووضعتها في الصندوق الخشبي القديم. كانت تتطلع إلى حياة جديدة بعيدة عن هذا المكان البارد.)
ثم نأتي بقفلة الإثبات:
(عندما أغلقت الصندوق، عرفتْ أنها لن تفتحه أبداً، وأنها ستدفن نفسها معه في هذا المكان.)
• الشرح والتحليل:
الإثبات هنا يكمن في تأكيد قرار الاستسلام الأخير القاطع.
الأداة الرئيسة لهذا الإثبات هي فعل اليقين (عرفتْ) الذي يؤكد التحول الداخلي للشخصية إلى إدراك حاسم ومُبطل لكل محاولات الهروب.
هذا التأكيد يلغي كل السعي السابق للهروب والتطلع إلى الحياة الجديدة (التي بُنيت عليها القصة) ويقفل النص بقرار حاسم ومفاجئ يخدم نغمة مصيرية مروعة.
التأكيد على الدفن في هذا المكان يعيد تعريف الصندوق بأنه تابوت مُرتَجَل، وهذا هو الانفجار العاطفي والمفارقة المطلوبة.
أقول:
ـــــــــــــــــ
ـ إن القفلة المباغتة في القصة القصيرة جداً ليست نتاج الصدفة أو الحظ، بل هي حصيلة بناء منهجي صارم يهدف إلى توجيه القارئ بدقة نحو نقطة الانفجار.
ـ القاص الماهر هو الذي لا يكتفي بإخبارنا بما حدث، بل يُجبرنا على إعادة تقييم ما اعتقدنا أنه حدث.
ـ فن القصة القصيرة جداً هو فن الهندسة العكسية، حيث تُكتَبُ القصة فعلياً من القفلة إلى المقدمة، لضمان أن كل مفردة تخدم ذلك الانفجار النهائي.
ـ هذا التركيز هو ما يجعل هذا الفن مطلباً للكاتب الرصين القادر على تحويل الإيجاز إلى لحظة تنوير مفاجيء، ويتطلب تحقيق هذا الانفجار النهائي شرطين أساسيين:
1- المنطق الخلفي:
يجب أن تكون القفلة مباغتة، لكن غير غريبة تماماً، بل ينبغي أن يكون هناك تلميح خفي أو مفردة سابقة تبرر القفلة في اللاوعي، مما يجعل المفاجأة مُقنعة فنياً.
2- البعد الإنساني المباغت:
يجب أن تتجاوز القفلة المفاجأة الحدثية إلى مفاجأة تتعلق بمصير الشخصية، أو تحول عميق في وعيها، أو صدمة في العاطفة الإنسانية الكامنة وراء السرد.
ـ هذا التركيز هو ما يجعل هذا الفن مطلباً للكاتب الرصين القادر على تحويل الإيجاز إلى تأثير عميق.
• والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.
• احترامي وتقديري.
(كريم القاسم / بغداد)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق