تولستوي وصراع الذات : الناقد كريم القاسم _العراق
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق ، إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تولستوي وصراع الذات)
________________________
بطبشورةٍ بيضاء صغيرة كَتبَ على سبورة الصف الدراسيّ؛
(ماجدوى الحرب؟
ان الرعب الذي يعيشه الرجل في ميدان القتال يُدمّر كرامة الانسان)
ثم إلتفتَ الينا استاذ اللغة العربية وقال :
-هذا ماكَتبَه (تولستوي) عملاق الادب العالمي في إحدى رواياته.
-اكتبوا موضوعاً إنشائياً حول هذه العبارة.
- عند عودتي الى البيت قرَّرتُ البحث عن (تولستوي)
•مَن هو ؟
•كيف، وبماذا يفكر ؟
-أسعَفَني في هذا البحث والتقصّي مدير المكتبة المركزية التي كنت لا افارقها ، وكنتُ آنذاك في مرحلة المتوسطة دراسياً.
• تولستوي هو ابن عائلة واسعة الثراء ايام روسيا القيصرية .
كان والده من نبلاء روسيا، وكان جَدّه هو الوزير الاول لدى قيصر روسيا بطرس الاكبر ، وجده لأمّه هو القائد العام لجيوش الامبراطورة (كاترين) العظمى.
تملك عائلته ضَيعة شاسعة جداً ، يخدم فيها عدد كبير من الفلاحين والعمال .
هذه الضَيعة، وهذا الثراء المتزاحم المتراكم، وهذا القصر الفخم ينتظر سيداً يدير الشؤون كلها، مُتسَيداً على مئات العاملين مِن طباخين وسوّاس خيل وفلاحين ومنظفين وغيرهم من البسطاء التُعساء.
كان الفتى لم تعجبه مائدة الأمراء، ولا وسائدهم الوثيرة، ولا كؤوس الذهب ولا أطباق الفضة .
فهو يرى العالم من خلال هذه العيون البائسة ، ويستلذّ بطعم الطعام من بين شفاههم الذابلة، كما وصفَ حياتهم في كتابه( قوة الظلام) فهو في هجومٍ وتصدٍّ دائمٍ لظلم واضطهاد الفلاحين .
وكانت افكاره تشكّل عائقاً وصَدّاً أمام السلطة القيصرية آنذاك، فلم تستطع السلطة كَبح جماحه، لأنه كان محمياً ذاتياً، كونه ينتمي الى اسرة ارستقراطية عريقة .
في سن التاسعة، حين فقد والده بعد أمه ليصبح يتيماً، أَحَسَّتْ عمته التي ترعاه بتمردهِ على تقاليد الاسرة، وعلى الوصيّة التي تجعل منه رأساً فاحش الثراء ، لكن الزهد كان يحيط به ويملأ كل كيانه، بل يشكّل صورة حقيقية لشخصيته الاجتماعية.
وصُدِمَتْ عمّته ذاتَ يومٍ عندما صرخ في وجهها :
- لاتمنعيني من اللعب مع ابناء الفلاحين، وإن وجهي لايقول غير ذلك، فهو وجه فلاح عادي .
ترك المَزارع، وترك الجامعة، ليلتحق بأخيه الذي كان ضابطاً، ليشاركه في قتال التتار في القوقاز.
غاصَتْ عيناه بمشاهدة مصارع الرجال، وأُرهِقَتْ أذناه من سماع قعقعة السيوف وهي تقطر دماً، وزاحمت أنفاسه سُحب الدخان المنتشرة في كل مكان، ورائحة الموت التي تتدافع مع موجات الموت.
وتحسَّسَ حجم الألم والخوف والرعب الذي بَلَغَ الحناجر .
فهو لم يعِشْ تلك اللحظة كمقاتل او محارب فقط ، بل كان مُتفَحّصاً مُدَقّقاً في كل دولابِ عجلةٍ يدور، وفي سنابك الخيل وحَمحَمَتها وصهيلها، ويغوص في انفاس المحاربين مِن كلا الطرفين، ويهتز وجدانه مع دوي المدافع، وحتى البارود لم يغادر عدسة تولستوي الفاحصة الدقيقة، وكلّ مايخالف السِلم الانساني كان يشكل صراعياً ذاتياًفي داخله.
كان يرى غير مايرى الذين مِن حوله ، لذلك لم يستطع التعايش مع هذا السلوك الدموي، ورفض ان يكون مقاتلا يزهق ارواحاً، او يخدم عرشاً لايمت الى الانسانية بصلة إلا من خلال المقصلة والحرب والدم واستعباد الناس، فخلع بزته العسكرية ليطلق تلك المقولة الشهيرة :
(ماجدوى الحرب ؟
ان الرعب الذي يعيشه الرجل في ميدان القتال يدمر كرامة الانسان)
هذه الميزة المتفحصّة الكاشفة الدقيقة صارت بصمة وسِمة في معظم كتاباته، فهو يجيد وصف الاشياء عند التوقف عندها ليصيب القاريء بالذهول لقوة الوصف الدقيق لجزئيات الموصوف، وكأنه يُجسِّده امامك تجسيدا.
تولستوي صاحب اللحية الطويلة الكثَّة والانف العريض والعينين الرماديتين الصغيرتين، والذي طالما لم تعجبه قَسَمات وجهه حين يتطلَّع في المرآة.
وحتى مع هذا التطلّع كان يعيش صراعاً ذاتياً ، فهو لم يكن مقتنعاً بجمال تلك القسَمات والاجزاء ، فأطال لحيته كثيراً ليجعل الناظر مُهتَمّا بلحيته عن باقي أجزاء وجهه.
يندهش الكثيرون مِمَّن أرادوا التطلّع الى وجههه، معتقدين انه جميل كجمال افكاره، ولكن سرعان ماتزول الدهشة عند سريان الحديث على لسانه، والاستماع الى جميل افكاره.
وحين اقتربتْ رحلة حياته من النهاية، حَقَّقَ (تولستوي) اعظم احلامه حين وزّع الاراضي والمزارع، وكلّ مايملك، على اصدقائه واحبائه الفلاحين، وعاش بينهم كأحدهم.
هذا الرجل الذي صار أحد عباقرة الادب العالمي، والذي احتفل العالم كله في السبعينات بمناسبة مرور مائة وخمسين سنة على مولده، تركَ لنا إرثاً ادبياً وفكرياً خالداً قلَّ نظيره على الساحة الادبية والفكرية العالمية، فكان يُجسِّد في كل كتبه (صراعه الذاتي) مع النفس، ومع الحياة بكل جزئياتها، فلقد كان يبحث دوماً عن الحقيقة.
ولذلك كان يكرر سؤالا:
• لماذا اعيش ؟
ـ لم نقل بأن تولستوي كان يمثل الكمال الآدمي، بل حاله كحال غيره من البشر بكل تناقضاته وسلبياته وإيجابياته ، لكننا نقدّم جانباً من ارهاصاته، والذي استطاع توظيف صراعه الذاتي في رسم عوالم فكرية وفلسفية استقطبت الكثير من القراء والمفكرين، لايمكن تناولها في هذا الفضاء المحدود.
فهو صاحب (الحرب والسلام)
وصاحب (آنا كارنينا)
ولو كتب هذين الكتابين فقط لكفى ، فكيف وقد كتب مايُثري الافكار والعقول؟
إنه تولستوي العملاق.
* احترامي وتقديري.
(كريم القاسم)
............................................
تعليقات
إرسال تعليق