الطَّوَاف في عالم لاميّة الشاعر د.مهندع صقور بقلم الأديب د.عماد الدين عمار
الطّوَافُ في عَالَمِ لَامِيَّةِ الشَّاعرِ مُهَنَّد علي صَقُّور ( يَا صَاحِبَ الحَقِّ السَّليب )
.........................
عِنْدَمَا نَقْرَأُ قَصيْدَةً قَدْ يَأخُذُنا جَمَالُ الصَّوَرِ أَوْ لَطَافَةُ الْكَلِمَاتِ أَوْ حُسْنُ الدِّيبَاجَةِ أَوْ جَمَالُ المعاني وَالدَّلالاتِ أَوْ إِيحَاءَاتُهَا الْفِكْرِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ أَوْ ......
وَرُبَّمَا يُنْشَرُ الْكَثيْرُ عَلى الصَّفَحَاتِ ، وَمِنَ الطَّبِيْعِيِّ أَنْ يَكُوْنَ مُتَفَاوِتَ الجُوْدَةِ، أَمَّا أَنْ تَقْرَأَ قَصِيْدَةً حَيَّةً ( وَمِنَ الطَّبِيْعِيِّ أَيْضًا أَنْ تَكوْنَ القَصَائِدُ الْحَيَّةُ نَادِرَةَ الْوُجُوْدِ ) يَأْخُذُكَ كُلَّ مَا فِيْها وَتَشْعُرُ أّنَّ الْقَصِيْدَةَ نَابِضَةٌ بِالحَيَاةِ لَكَأَنَّها شَخْصٌ حَيٌّ يَتَمَازَجُ مَعَ كَيانِكَ وَأحاسِيْسِكَ فَلابُدَّ مِنَ الْوُقُوْفِ احْتِرَاماً وَتَعْظيْمًا، وَلابُدَّ مِنَ الْقَوْلِ : هَكَذَا يُخَلَّقُ الشِّعْرُ وَهَكَذا يَكُوْنُ الكاتِبُ شَاعِراً.
لَقَدْ قَرَأْتُ لَامِيَّةَ الشَّاعِرِ الْفَرِيْدِ مُهَنَّد علي صَقُّور، وَهُوَ كَعَادَتِهِ عِنْدَما يُخَلِّقُ الْقَصِيْدَةَ كَالنَّحْلِ يُعْطي الشَّهْدَ وَالْعَسَلَ وَالْعِكْبِرَ.....
وَلَسْتُ بِمَعرِض الحَديثِ عمَّا تَهَبُنا زَيتونَتُه مِنْ خَيرٍ وَبَركةٍ وَنُوْرٍ عَلى نُوْرٍ .
وَلَسْتُ بِمَعْرِض القَوْلِ بِكلامِ تَفنيدٍ أَو إطراءٍ أَو مَديحٍ .
وَإنَّما أُريدُ أَن أقولَ ما نَمَا في خَاطري ومشَاعري وأنا أقفُ عندَ هذِه الشَّجرةِ المبَاركةِ الّتي خَلَّقَتْها نَبضاتُه الصادِقةُ في يَومٍ لا يَعْلم أمَدَه إلا اللَّه.
فَقَد أخَذَني في هَذا الطَّوَافُ عَوَالِمٌ مِنَ الْجَمَالِ لا حَصْرَ لَها، وَلَكِنَّني سَوْفَ أُشْبِعُ بَاصِرَتي مِنْ بَعْضِهَا ....
أمَّا أَوَّلُ تِلْكَ الْعَوَالِمِ: فَهُوَ عُنْوَانُ اللَّامِيَّةِ ( يَا صَاحِبَ الحَقِّ السَّلِيْبِ ) بَدَأ الشَّاعِرُ بِأدَاةِ النِّداءِ لِلْمُنَادَى الْقَرِيْبِ في حِيْنِ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَادَى وُفْقَ الظُّهُوْرِ الزَّمَنِيِّ /1445 / عَاماً هِجْرِيًّا ، مَا يَعْنِي أَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ الْقَوْلَ أَنَّ الْمُنَادَى مَوْجُوْدٌ دَائِمًا ، وَهَذا مَا ظَهَرَ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ لِنَكِرَةٍ مُعَرَّفَةٍ بِالإضَافَةِ ( صَاحِبَ الحَقِّ) وَلَكِنَّ هَذَا تَعْرِيْفٌ نَحَوِيٌّ فَقَطْ، لابَلْ أَعْطانَا نَكِرَةً كَأَنَّهَا مَقْصُوْدَةٌ وَلَكِنَّهَا تُوْحِيْ إِلَى مَا لا يُحْصَى مِنَ الْمُنَادَى، وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ مُتَكَرِّرٌ مِنْذُ ذَلِكَ الْحِيْنِ وَحَتّى يَوْمِنا هَذَا، فَقَدْ يَكوْنُ صَاحِبَ الحَقِّ السَّلِيْبِ أَرِسْطُو أَوْ سُقْراط أَوْ يَعْقُوبَ أَو يُوسُفَ أَو...أَو سَافُوْنَا رُوْلا ... أَو سَنَاء محَيْدَلي أَوْ دَلالُ المغْرَبي أَو أطْفالُ فِلِسْطِيْنَ أو...
وفي كُلِّ بَيْتٍ تَجِدُ أَنَّ الحَدَثَ عِنْدَ الشَّاعِرِ مُتَمَظْهِرٌ عَبْرَ الزَّمَانِ ..
يَا يَومَ ( خُمٍّ ) أيّ يَومٍ لم يَكُنْ ........ فيهِ الوَلاءُ يُبَايِعُ المولَى العَلي.؟
وَبَعْدَ هَذَا الْكَثِيْرُ مِمَّا يُقَالُ هُنَا ، وَلَكِنَّنِي أَكْتَفِي بِهَذا الْقَدْرِ مِنْ هَذَا الْحَقْلِ.
.............................
وَثَاني تِلْكَ الْعَوَالِمِ: هُوَ أنَّ مَا نَظَمَ الشَّاعِرُ كانَ على البَحْرِ الكامِلِ التَّامِّ ، ومعلومٌ أنَّ هَذا البَحرَ سُمِّيَ بالكاملِ لأنَّ فيه ثلاثون حَرَكَةٍ لمْ تجتمع في غيره مِنَ الشِّعْرِ، فُهوَ كاملٌ لِكَمَالِ حَرَكاتِهِ، وهُو سهلُ الاسْتعمَالِ يَتَميَّزُ بإيقاعِهِ الواضِحِ الموسيقيٍّ الخلاَّبِ، كأنَّهُ يَقُولُ للقارئِ :
ــ أنَّ هذا اليومَ هو يومُ نِداءٍ وإعْلان ٍ ( يَا صَاحِبَ.... ) كيوْمِ النِّداءِ الأوَّلِ.
ــ أنَّ هذا اليومَ هو يومُ كمَالٍ وإتمامٍ، وَعَلى أَنَّ الرِّسَالَةَ المحَمَّدِيَّةَ المباركَةَ قَدْ بانَتْ أُصوْلُها وفُروعُها إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَاسَبَقَ لَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ مَا كَانَ في هَذا الْيَوْمِ ، وَلِهَذا نَزَلَ قَوْلُه تَبَارَكَ اسْمُهُ ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .... ) ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُه تَبَارَكَ اسْمُهُ ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي....)
ـــ وَالنِّعمَة الغَرَّاء تَمَّتْ وَانجَلَى ........ وَهجُ الصَّليبِ بِرُطبِ ( مَريَمَ ) يَا وَلي
ــ أنَّ هذا اليومَ هو يومُ حُبورٍ وسُرورٍ.
فَكَانَ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِ الشَّاعِرِ لِلْبَحْرِ إيْحَاءٌ إِلى هَذِهِ الْمَضَامِيْنِ فَضْلاً أَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْها تَصْريْحًا أًوْ تَلْميْحاً في السِّيَاق .
......................
وَثَالِثُ تِلْكَ الْعَوَالِمِ: هُوَ أنَّ كلَ شطرٍ يستحقُّ دراسَةً مُطَوَّلَةً وبَحْثاً مُعَمَّقاً في بياناتِهِ وجماليَّاتِهِ وَجَمْعِهِ لمفاهيمِ التَّكوينِ والتَّجَلِّي ، وَسَوْفَ أُحَاوِلُ رَسْمَ مَا تَبَصًّرْتُهُ في بَعْضِ الأَعْطَافِ .
( لاءُ ) الحُسَينِ أقَامَ فَرضَ صَلاتِهَا ........ جَدِّي ( الفَرَزدَقُ ) لِلعُفَاةِ بِمَحفِلِ
........
( لاءٌ ) تَقَحَّمَتِ المُحَالَ هُويَّةً ........ وَغَدَتْ وَصيَّةَ سَابِقينَ لِمنْ يَلي
مَعْلُوْمٌ أَنَّ كَرْبَلاءَ كَانَتْ بِسَبَبِ مُحَاوَلَةِ يَزيْد أَخْذَ البَيْعَةِ مِنَ الإمَامِ الحُسَيْن وَرَفْضِ الإمَامِ أَنْ يُعطِي البَيْعَةَ لِفَاسِقٍ عِرْبيْدٍ ، فَالشَاعِرُ اعْتَبَرَها دَعْوَةً مُسْتَمِرَّةً لِرَفْضِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيانِ وَلابُدَّ لِلدَّعْوَةِ مِنْ أُصُوْلٍ وَفُرُوْعٍ ؛ لِذَلِكَ قَالَ ( أقَامَ فَرضَ صَلاتِهَا) ، وَهَذا الْفَرْضُ مُسْتَمِرٌّ بِمَا ضَمَّنَهُ في الشَّطْرِ الثَّاني مِنْ قِصَّة الإمَامِ السَّجَّادِ في مَوْسِمٍ مِنْ مَواسِمِ الحَجِّ ، فَفي الشَّطْرِ الثَّاني يَأخُذُنا إلى قِصَّة قَصيْدَةِ الشَّاعِرِ الأمَوِيِّ ( الفَرَزْدَق ) في مَحْضَرِ الأمَوِيِّ هِشامِ بنِ عَبْد الملِكِ .
وَذَلِكَ أَنَّ هِشَاماً حَجَّ في خِلافَةِ أخِيْه الوَليْدِ ومَعَهُ الفَرَزْدَق وَوُجوْهُ أَهْلِ الشَّامِ، وكانَ البَيْتُ الحَرَامُ مُكْتَظّاً بِالحَجيْجِ في تِلْكَ السَّنَةِ وَلَم يُفْسَحْ لِهِشامَ لِيَسْتَقْبِلَ الحَجَرَ الأسْوَدَ، فَنُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ وَجَلَسَ عَلَيْهِ يَنْظُرُ إلى النَّاسِ، وأقْبَلَ عَليُّ بنُ الحُسَيْنِ بنُ عَلٍّي بنُ أَبي طَالِبَ( المعْرُوفُ بِزَيْنِ العَابِدِيْنْ ) وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهاً، وأَنْظَفَهُمْ ثَوْباً، وأطْيَبَهُمْ رائِحَةً، فَطَافَ في البَيْتِ، وَلَمَّا بَلَغَ الحَجَرَ الأسْوَدَ تَنَحَّى النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَأَخْلَوْا لَهُ الحَجَرَ لِيَسْتَلِمُهٌ، هَيْبَةً واحْتِراماً لَهُ، فَغَاظَ ذَلِكَ هِشَامَ وَبَلَغَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: مَنْ هَذَا أَصْلَحَ الله الأميْرَ؟ فَقَالَ: لا أَعْرِفُهُ، وكَانَ بِهِ عَارِفاً ، وَقَدْ خَافَ أَنْ يَرْغَبَ بِهِ أَهْلُ الشَّامِ وَيَسْمَعُوا مِنْهُ ، فَقَالَ الفَرَزْدَقُ ـــ وَكانَ لَذَلِكَ كُلِّهِ حاَضِراً ـــ : أَنَا أَعْرِفُهُ، فَسَلْني عَنْهُ يَا شَامِيُّ، قَالَ الشَّامِيُّ : وَمَنْ هُوَ يَا أبا فِراس ؟! فَأنْشَأ قَصِيْدَتَه الميْمِيَّةَ الشَّهِيْرَة. ، وَمِنْها قَوْله:
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ....... وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
لا يُنقِصُ العُسرُ بَسطاً من أكُفّهِمُ ..... سِيّانِ ذَلِكَ: إنْ أثَرَوْا وَإنْ عَدِمُوا
فَأَمَّا الفَرَزَدْقُ ( هُمَامُ بنُ غَالِبَ بنُ صَعْصَعَةَ ) فَقَدْ قِيْلَ فِيْه : لَوْلا شِعْرُ الفَرَزْدَقِ لَذَهَبَ ثُلُثُ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَوْلا شِعْرُهُ لَذَهَبَ نِصْفُ أَخْبَارِ النَّاسِ.
فَمَا أَبْدَعَ قَوْلُ شاعِرِنا : ( جَدِّي الفَرَزدَقُ ) فَهُوَ في هَذَا يُشِيْرُ إلى:
ــــ أَنَّهُ يُقَارِبُ بَيْنَ مُحَاوَلَةِ قَتْلِ الحَقِيْقَةِ يَوْمَ كَرْبُلاءَ وَمُحَاوَلَةِ هِشَام يَوْمَ الحَجِّ إِنْكَارَ هَوِيَّةِ السَّجَّادِ لِيُبْعِدَ النَّاسَ عَنْهُ قَتْلاً لِلْحَقِيْقَة ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ( جَدِّي الفَرَزدَقُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَارِبُ المسْأَلَةَ كَقَضِيَّةٍ إِنْسَانِيَّةٍ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةُ مِلَلٍ وَمَذَاهِبَ، واسْتِخْدامُهُ لِمُفْرَدَةِ ( جَدِّي ) فِيْها دَلالَتَانِ: الأُوْلى أَنَّهُ أَسْبَقَ مِنْهُ في إِظْهَارِ الحَقِيْقَةِ وَهُو يَنْتَمي إلَيْهِ في هَذَا، وَالثَّانِيَةُ أَنَّه يَنْتَمِي إلَيْهِ لِقُوَّةِ شِعْرِهِ وَبلاغَتِهِ ، وَفي هَذَا فَخْرُ لِلشَّاعِرَيْنْ .
ــــ أَنَّ مَظَاهِرَ الحَقِّ وَاحِدَةٌ في الحَقِيْقَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَظْهَرُ ( لَاءُ الإِمَامِ الحُسَيْنِ ، وَلاءُ الإمَامِ السَّجَّادِ ) .
ـــ أَنَّ مَظاهِرَ الإقْرَارِ بِالحَقِّ وَاحِدَةٌ في الحَقِيْقَةِ وَإِنِ اخَتَلَفَ الْمَظْهَرُ ( قَوْلُ الشّاعِرِ هُمامُ ، وَقَوْلُ الشّاعِرِ مُهَنَّدُ ) .
وفي اسْتِخْدامِ الشَّاعِرِ لِمُفْرَدَةِ ( الْعُفَاةُ : وَهُمْ طُلاّب المعْروفِ، وَهُمْ أيضاً الأضْيافُ) يؤُكِّدُ مِنْ خِلالِ ذَلِكَ مُحَاوَلَةَ الفَرَزْدَقِ إِظْهارَ الحقِيْقَةِ لِمَنْ أَرَادَ ، وَقَوْلَ الْحَقِيْقَةِ في جَمْعٍ غَرِيْبٍ عَنْهَا تَارِكٍ لَهَا، وَيُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُهُ بَعْدَ عِدَّةِ أَبْياتٍ :
( لاءٌ ) تَقَحَّمَتِ المُحَالَ هُويَّةً ....... وَغَدَتْ وَصيَّةَ سَابِقينَ لِمنْ يَلي
( المِحَالُ : الكَيْدُ ، القُوَّةُ ، التَّدبيرُ ، الْعَدَاوَةُ )
أَشْعُر أَنَّ الشَّاعِرَ يَقُوْلُ أَنَّ الإِمَامَ الحُسَيْنَ وَالإمَامَ السَّجَّادَ هُمَا فِكْرَةٌ وَنَهْجُ حَيَاةٍ ، وَكَذّلِكَ رَفَضُهَما لِلظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ فِكْرَةٌ أَيْضًا تَظْهَرُ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكانٍ مَهْمَا تَغَيَّرَتِ الصُّوَرُ والهَيْئَاتُ ، وَمَا جَرَى في مَواسِمِ الحَجِّ مَعَ الإمَامَيْنِ كَانَ قَدْ جَرَى مَعَ الإمَامِ عَلِيّ، فَيَوْمُ خُمّ كانَ في نِهَايَةِ مَوْسِمِ الحَجِّ أَيْضا حَيْثُ أَقَرَّ مَنْ أَقَرَّ وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ ثُمَّ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ نُكْرَانِ حَقِّهِ.
لِنَتَمَعَّنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ : (( فَالصَّلبُ عَينُ النَّحرِ شِفرَةُ خَالِقٍ )) وَقَوْلُهُ (( وَالنَّحرُ فَلسَفَةٌ تَعَذَّرَ كَشفُهَا..... وَبِهَا (أرسطُو) جُرحُهُ لم يُدمَلِ )) وَقَوْلُهُ (( مِنْ قَبلُ ( سُقرَاطٌ ) تَجَرَّعَ سُمَّهَا )) وَقَوْلُهُ (( وأنَا الوَضَعتُ عَلى جِرَاحي مِلحَهَا ))
وَرَابِعُ تِلْكَ الْعَوَالِمِ: هُوَ أنَّ جَوابَ النِّدَاءِ في نِهَايَةِ القَصِيْدَةِ كَانَ:
أمرَ الإمَامُ فَسِرتُ رُوحِي نَاقَتي ...... وَأتَيتُ صَرحَكَ يَا إمَامِي فَاقبَلِ
جَاءَ الجَوَابُ إِقْراراً وَتَصْدِيْقاً لِمَا تَرْجَمَهُ الإِمَامُ بِمَا وَرَدَ في أَوَّل القَصِيْدَةِ.
وَالْقَصيْدَةَ بالنِّسْبَةِ لِلشَّاعِرِ هِيَ الْبَيْتُ الأَوَّلُ وَالأَخِيْرُ :في الْبَيْتِ الأَوَّلِ نِدَاءٌ تَكْوِينِيٌّ، في الْبَيْتِ الأخِيْرِ إِجَابَةٌ وَإِقْرَارٌ، وَذلِكَ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صِرَاعِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّة بَيْنَ أَنْ تَهْبِطَ أَوْ تَرْتَقِي في سُلُوكِهَا، وَانْقِسَامِ النُّفُوْسِ إِلَى أَكْثَرِيَّةٍ تَرْفُضُ الإقْرَارَ وَالْحَقيْقَةَ وَأَقَلِّيَّةٍ تُصَارعِ ُمِنْ أَجْلِ الإقْرَارِ وَالْحَقيْقَةِ.
....................................................
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَهَلْ يَبْحَثُ كُلُّ شَاعِرٍ كُلَّ هَذِهِ المبَاحِثَ وُهُوَ يَكْتُبُ بَيْتَ شِعْرٍ ؟؟؟ وَهَلْ يَبْحَثُ كُلُّ قَارِئٍ كُلَّ هَذِهِ المبَاحِثَ وُهُوَ يَقْرأُ بَيْتَ شِعْرٍ ؟؟؟
أَقُولُ : لا ، أبَدًا ؛ لَكِنَّ المخْزُوْنَ الفِكْرِيَّ وَالفَلْسَفِيَّ وَالْمَعِرْفِيَّ وَالشِّعْرِيّ لَدَى كَاتِبِ الْقَصِيْدَةِ وَقارِئِهَا هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ يَقُوْلُ كُلَّ هَذَا في بَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ حَتَّى في شَطِرٍ وَاحِدٍ، وَإلاَّ فَلَيْسَ بِشَاعِرٍ مَهْمَا نَظَمَ مِنْ أَبْيَاتٍ وَلَيْسَ بِقَارِئٍ مَهْمَا قَرَأَ مِنْ شِعْرٍ.
إِنَّ القَصِيْدَةَ الَّتي بَيْنَ أَيْدِيْنا تُبْدِي مَسَألَةَ الحَقِّ وِالإنْسَانِ مُنْذُ مَا قَبْل فَلاسِفَةِ اليُونانِ وَحَتَّى لحْظَةِ كِتابَةِ القَصِيْدَةِ، وَتُؤكِّدُ أَنَّها وَاحِدَةٌ في الحقِيْقَةِ رُغْمَ اخْتِلافِ مَظاهِرِهَا ، وَلا أَشُكُّ أَنْ يَكوْنُ الشَّاعِرُ مِمَّنِ اطَّلَعَ عَلى فَلْسَفَةِ وَحْدَةِ الوُجُوْدِ وَتَشَبَّعَ مِنْها حَتَّى أَخْرَجَتْ زَيْتُونَتَهُ هَذا الزَّيْتُ المضِيءُ .
............................
سَأكْتَفِي بِهَذا الْقَدْرِ مِنَ الطَّوَافِ في حُقُوْلِ الْقَصِيْدَةِ وَبَيْنَ زَيْتُونِهَا .....
لعلَّ النَّاسَ عندما تقرأ بشيءٍ منَ الرَّويَّةِ تقولُ لنَفْسِها : قِفِي. قِفِي وَتعلَّمِي فَنَّ الخِطابِ والبيانِ.
فَليسَ الشِّعْرُ مجرَّدَ كلماتٍ لها وَزْنٌ وإيقاعٌ.....
وليسَ الشِّعْرُ مجرَّدَ قافيةٍ مُنضبِطَةٍ بالرَّويِّ والرّديْفِ والتَّأْسيسِ و........
وليسَ الشِّعْرُ مجرَّدَ استعاراتٍ وتشبِيهٍ و......
وليسَ الشِّعْرُ مجرَّدَ تشكيلِ صُوَرٍ بيانيَّةٍ تداعِبُ المشَاعِرَ والأحاسيسَ...
إنَّ الشِّعْرَ كُلُ هَذا وَفَوْقَ هَذا .......
إنَّ الشِّعْرَ هو عرْضُ قضايَا لايراها النَّاظرُ العادِيُّ وخَلْقُ صُوَرٍ لاتخَطُرُ إلا على بالِ رَسَّامٍ مُبْدِعٍ....
فَهو بهذا: فَلْسَفَةُ وُجوْدٍ وَتكوِيْنٍ ، هُوَ تَجِلِّي لِجَمَالِ الخَالِقِ وَجَلالِهِ بمَا لا يُعَدُّ مِنْ الصُوَر.
وَتَأَمَّلي النَّخلَ الشَّهيدَ وَهَدْهِدي
========== سَعَفَاتِهِ وَاستَنطِقيهَا وَاسأَلي
هُزِّي إليكِ الجَذعَ جَذعَ إمَامَةٍ
======== وَتَحَضَّني كَفَّ ( الوَصِيِّ) وَقَبِّلي
فَالصَّلبُ عَينُ النَّحرِ شِفرَةُ خَالِقٍ
========== طَرَفَا مُعَادَلَةٍ , وَسِفرُ تَأمُّلِ
فَقَارئُ هَذِه الكَلماتِ سوفَ يرى قضِيَّةَ الطَّفِّ وقضِيَّةَ الصَّلْبِ وقضِيَّةَ الوَصِيَّةِ قَضِيَّةً وَاحِدَةً ، وَسَيُدْرِكُ أنَّه أمامَ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ بمظاهِرَ مُختَلِفَةٍ حَسَبَ الزَّمان والمكانِ ومَا كانَ فِيْهِما مِنْ مخْلوقاتٍ.
..............................
آَمَنْتُ بِالنَّبَأِ الْعَظِيْمِ وَسِرِّهِ
====== وَالآيَةِ الْكُبْرَى وَنَارِ الْمُصْطَلِي
تحيتي واحترامي أيها الرّوح التّوّاقة للسّفر
تعليقات
إرسال تعليق