PNGHunt-com-2

تباين حسن التصويرالشعري : الناقدكريم القاسم /العراق

(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تباين حُسن التصوير الشعري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن النقد يوماً منهجاً وافداً او دخيلاً على الساحة الادبية العربية، بل هو فعل يكاد يكون يومياً او لحظياً لشدة تعلقه بما يقال من قصيدٍ ونثرٍ على مَرِّ الساعات والايام.
وكيف لايكون للنقد مقاماً عند العرب وهم مَن يمتازون بالحِسّ الذوقي والبلاغة وحُسن البيان في التاليف والنظم الشعري.
فكان يعيب الشاعر فلان على الآخر إذا جاء بألفاظ لاتوافق معانيها ، أو نظم مفردات لا توافق مرتبتها، أو يأتي بقافية لاتناسب اهداف ومرامي القصيد.
وكلمة (يُعيب) لاتدخل في خانة الاستهزاء أو الإساءة أو الانتقاص أو التحقير ، بل هذا اللفظ يعني (النقيصة في الشيء أو الخلل أو القصور أو العِلّة)
اي ان هذا المعنى او تلك اللفظة غير صالحة لِما جُعِلَت من أجله في البيت الشعري او السطر النثري.
وكل هذا يدخل في باب النقد الادبي.

- لنتأمل هذا التباين النقدي الرائع في قياس جمالية النظم من خلال حُسن التلقي، وكيفية تفاعل الحس النقدي بأدلة وبراهين رغم تباين الآراء .

يقول الشاعر حسّان بن ثابت :

(لنا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلمَعْنَ بالضحى...

و أسيافنا يقطرنَ مِن نجدةٍ دَما)

- الشاعر حسّان يفتخر بهذا البيت، فهو يوزع الفخر في شطرين، الاول في الكَرم ، حيث يقول بأن جِفان الطعام(قصاع وقدور الطبخ) يلمعن وقت الضحى .
وقد شبّهها بـ (الغرّ) اي البيضاء لشدة لمعانها وقت الضحى ، وهذا التشبيه للدلالة على كثرتها وكثرة تحركها بفعل طبخ الطعام لاكرام الضيوف.

والشطر الثاني يفتخر فيه بشجاعة قومه حين يُصَوِرُ أسيافهم وهي تقطر دماً في نصرة المظلوم ونجدته.

- حين يقرأ المتلقي هذا البيت الشعري سيُعجب بهذه الصورة الشعرية المحبوكة، ويتصور بأنها صافية لاغبار عليها.

• لكن للنابغة الذبياني رأيّ نقديّ في ذلك:
فهو يُعيب على حسّان في استعماله لفظة (الغُرُّ) ويقول كان من الاجدر ان يقول (البيض)
والعِلَّة في ذلك ان (الغُرة) تدل على البياض القليل .
فحين نقول (غرّة الفرس)اي البقعة البيضاء في جبهته، وهي بقعة صغيرة مقارنة مع لون الجسم.
وغرّة الاسنان هي أول مايبدو من بياضها.
وغرّة الشهر هو أول بيان لبياض الهلال لأول ليلة من الشهر القمري.
وهذه البيانات كلها تدل على القِلّة لا الكثرة .

ويقول النابغة لو قال (البيض)لكان أكثر ، من باب ان الكثرة أجدى في تصوير الفخر، لأن (البيض) اكثر واعم من (بياض) قليل وهو (الغُر)

• ثم يعيب النابغة على عبارة حَسّان (يَلمَعْنَ بالضحى)
ويقول :
لو قال (يَلمَعنَ بالدُجى) لكان أحسن.

-لأن النابغة يتصور ان اللمعان في الضحى أمر طبيعي بفعل انعكاس الضوء، لكن اللمعان في الظلام له وقع آخر في النفس ، وفي حُسن التصوير الشعري.

-والآن لنتأمل مايقول الآخرون غير النابغة الذبياني في قول حسّان:

• يرى آخرون :
ان في قول حسان (و أسيافنا يقطرنَ مِن نَجدةٍ دَما) فيه ضعف .
ولوقال (يَجرينَ) بدل (يقطرن) لكان أحسن.

-فهم يرون بأن الجريان اكثر من التقطير ، وهذا يساعد في تشكيل صورة شعرية اكثر بلاغة تفيد الفخر.

- مما تقدم من البيان النقدي، نستطيع أن نقول بأن تشكيل الصور الشعرية يختلف بأختلاف استعمال المفردات، وبما يوازيها من معان.

فالنابغة يُحَبِّذ وينصرف نحو الغُلوّ والافراط  والاسراف والمبالغة في الفخر ، ويجد هكذا تصوير شعري سيكون أكثر إيغالاً في النفس وفي التاثير في المتلقي.

• وهنالك فريق آخر يتبنون مذهباً نقدياً مخالفاً، فهم يذهبون الى غير ماذهب اليه النابغة، ويجدون الشاعر (حسّان) مصيباً في تصويره الشعري، بل وقاصداً في استعمال هذه الالفاظ بعينها ، فهو يكتفي بالمعنى الحَرْفي للفظ وفي تشكيل صورته الشعرية في هذا البيت الشعري.
وهم يرون ان حسّاناً لم يُرِد الفخر بالكثرة ليقول (البيض) بل أراد الشهرة، فقال(الغُرّ) كقولنا :

يدٌ غَرّاء، أو يومٌ أغَرُّ .

-وهذا استعمال يفيد الشهرة كقولنا :

جريدةٌ غرّاء، أو مدينةٌ غَرّاء ، وغير ذلك من الاستعمالات المعتادة في انشائنا اليومي.

• ويرى هذا الفريق أيضاً ، إن قول حسّان (يلمعنَ بالضحى)أحسن من استعمال(الدجى) حيث ان اللمعان لايحدث الا بكثرة الضوء المنعكس وهو موافق مع(الضحى) بينما في الظلام (الدجى) لايأتي الانعكاس إلا بضوء حتى لوكان قليلا، ويختفي هذا الانعكاس ويتلاشى في النهار ،كإختفاء الكواكب عند شروق الشمس .
إذاً (الضحى) احسن في التصوير الشعري من (الدجى).

ويرون كذلك ان في قول النابغة (يجرين دما) احسن من (يقطرن) هو مغالاة وإسراف ، فحسّان كان يريد استعمال مامتعارف عليه في كلام الناس، وما اعتاده الفارس العربي في اللفظ عندما يقول سيفي يقطر دما.
وهذا ما اعتادت عليه العرب في وصف الشجاع.

-وهكذا اخي القاريء الكريم يتبين لنا تباين الآراء النقدية كلّ حسب مذهبه الذوقي ، وفي ذات الوقت يتبين لنا كذلك مدى عمق واهتمام الشاعر العربي في تبني الالفاظ المنتقاة بما يناسب معانيها ومرتبتها في الرصف والنظم .
ومتوهم مَن يتصور ان الشعر مجرد رصف مفردات لتشكيل عبارات سليمة نحويا وعروضياً وبقافية محددة ليأتي بالابتكار والابداع، فالامر اكبر من هذا التصور ، إنما هو فنٌ ودرس ومعرفة وخبرة ومِران.

-  والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.
- احترامي وتقديري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي