تهافت النقد والتأليف : الناقد كريم القاسم _ العراق
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( تـهـافـت الـنــقـد والـتـألـيـف )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المعلوم إن مائدة الادب بكل فنونها وصُحونها ، ولذيذ زادها وفاكهة مدادها ، كانت عبارة عن كتاب يُقرَأ ، وآخر يُؤَلَف ، ومَعارِض كتابٍ ، ومكتبات تغص بانواع التآليف والمؤلفات ، وجمهور غفير مُحِب للأدب ومُتابعين لِما يُنشَر ، وإعلام أدبي متمثل بالتلفزة والمذياع والصحف والمجلات المتخصصة بهذا الشأن ، ومنتديات أدبية منتشرة ، يرتادها روادها للنقد والنشر ، وتلاقح للافكار والآراء .
النتيجة المثمرة من كلِّ ما تَقدم ، هو ظهور نخبة لايُشقّ لهم غبار من الكتاّب والنقّاد ، ممن حفروا بصمة تاريخية خالدة وإرثاً علمياً ادبياً عريضاً على صخرة الادب ، رغم تسييس الادب في بلادنا العربية ، وانتشار سلاسل التقييد ومقص الرقابة ومقصلة الوشاية والحسد .
الصورة التاريخية اعلاه ، لابد ان نعترف بأنها تغيرتْ تماماً ، كتغير احوال العالم أجمع، ضمن مفهوم الحداثة والتطور .
فـ (الكتاب) الذي كنا نبحث عنه ونجوب الاسواق والمكتبات للحضوة بعناقه ، يمكننا الآن أن نحتضنه بلمسة زر ، ونأتي به من أية بقعة في العالم، وبأية لغة كانت . وكأن (مصباح علاء الدين) وخادمه المارد الجِنّي قد اصبح واقعا ملموساً بين ايدينا ، بل اسرع وأنجع ، مع اختلاف الشكل ومادة التصنيع .
هذا التطور العابر للحدود ، جعل من الأدب والأديب مائدة تتسع للعالم اجمع كمّاً ونوعاً ، وبأنواعها المرئي والمقروء والمسموع في آنٍ واحد ، مما جعل الادب يعيش حرية الانتشاء والانتشار الغير منضبط، عابراً لكل قيود السياسة ومقص الرقيب، حتى بَرزتْ لنا ظواهر تستحق النقد والبحث والدراسة لكل المختصين وكلّ حسب اختصاصه .
ــ وما يهمنا هنا هو الادب بفنيه (النثر والشعر) وإن كل مايجول ويدب في هذا العالم الادبي يقع تحت هذين الفَنَّين .
لذلك تَحرَّكتْ أنامل المحترفين والهواة وعشّاق الادب ، فأخذ كلّ قلمٍ يُدلِى بدلوهِ في هذا الجُبّ البعيد الغور ، حتى اختلَطتْ المياه سائغها بآسنها ، وزلالها بأُجاجها .
ــ ومن هنا نَشأتْ ظاهرتان :
الظاهرة الاولى /
ــــــــــــــــــــــــــــ
متابعة المتلقين الآنية للنصوص المنشورة على صفحات (الفيس بوك) و(المنتديات الادبية) وهي تخترق المكان والزمان ، لوضع علامات إعجاب او تعليقات متباينة الآراء والاسطر . هذه التعليقات اختلطت بين آراء الهواة والمعجبين واصحاب الرأي والاختصاص ، حتى اختلط الحابل بالنابل ، واختلطت عبارة الناقد بعبارة المعجب الطاريء الذي لايفقه من الادب الا بما يتسع بهِ دَلوه .
الظاهرة الثانية /
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تصوّرَ البعض بأن كثرة المعجبين ، وتراكم جثث الارقام ، وزُحام الاطراءات وتشابك مفردات المديح دليل على جودة النص وكفاءة مؤلفه .
ــ مِن هاتين الظاهرتين ننطلق الى جوهر )التهافت النقدي والتأليفي) في هذا المعترك الادبي ، الذي لايمكن التنصل منه .
ففي كل صناعات الادب ، لايمكن أن تصل الصنعة الى مرحلة الابداع والاختراع والابتكار إلا إذا رافقها النقد الرصين والناقد الملتزم .
ولانريد الولوج في آداب ومزايا وأركان العملية النقدية هنا ، بل نريد أن نكشف حال الادب الحالي، وما وصل اليه من تشوّه وانحسار، وهو يعيش حالة مَـدّ وجَزْر.
ــ كل أرباب الصنعة وأهل الخبرة قديما وحديثا ، قد تَحوَطوا بقاعدتين :
1- نفسية ..... ( الكاتب مفتون بما يكتب) .
2- اخلاقية ..... (أدب النفس قبل أدب الدرس).
ــ القاعدة الاولى ، هي بيت القصيد ، وهي المشكلة التي نعيشها في هذا المعترك الادبي الشاسع .
وهي القاعدة القاصمة لظهر الكاتب ، والتي تقوده الى مرحلة الغرور والزَهو، والذي مآله بالنتيجه هو الانعزال والاضمحلال حد التلاشي . في الوقت الذي تُعتبر هذه القاعدة حقّ شخصي لكل مَن يكتب. فالأرهاصات ولحظة القدح الوجداني هي حق مشروع لكل فرد ، والتأليف هو نتاج جهد وتعب وكد حتى لو استهلك فترة زمنية وجيزة لاتتعدى الثانية الواحدة ، وهو حق امتلاك لاينبغي للآخرين التطفل عليه أو سرقته .
إذا السؤال الوارد هو :
• أين تكمن المشكلة ؟
• المشكلة هي إن مَن يكتب يتصور بأنه اصبح ناثراً أو شاعراً، وقد تمكَّن من الصنعة .
ليست كل الاقلام المقروءة تحمل مواصفات الابداع والاحتراف ، بل إن الكثير منها لايتعدى مجرد رصف حروف، وحشو عبارات لاتتسم بأبسط أسس الكتابة وأركان الانشاء . والبعض لايعرف ماهو شعر العمود والتفعيلة ، والبعض لايفرق بين الومضة الشعرية والخاطرة ، وهلم جرا.
وهذا الخلل يندرج تحت أسباب خمسة :
الاول /
ــــــــــــ
ظهور مايسمى بـ (القصيدة النثرية) والتي يتصور الكثير بأنها سهلة التناول والابتلاع .
وكانت هي السبب الكبير في تفشي ظاهرة الكتابة الغير منضبطة ، ونحن لسنا ضدَّ ظاهرة تفشي الكتابة والتأليف ، بل على العكس نعتبرها ظاهرة صحية ـ والذي يعارضها لايفقه بمباديء التطور والدرس ـ بشرط أن تكون هذه الكتابات والتأليفات المبتدئة ضمن مراتب الدرس والنقد والتقييم والتقويم لا بمراتب الاسراف والغرور والتسلّق، وعلى صاحبها ان لايقع بمصيدة النفخ والانتفاخ كتلك (الضفدعة) وعلى المبتدي والهاوي ان يقرأ ويتعلم ويجتهد كي يصل الى مبتغاه.
• فهل يُعقل لقلمٍ متدربٍ هاوٍ يقف امام منصات الادب الرصين في مهرجانات الوطن العربي، وهو مازال لايفقه بأبسط اركان الانشاء ، فكيف بالشعر؟
• وهل يُعقل لهكذا قلم أن يزاحم رموز أدبية بارزة في الوطن ؟
الثاني /
ـــــــــــــــ
زخم التفاعلات والمجاملات المتبادلة في الاعجاب والتعليق . والتي مازالت تخضع الى آداب (الأتيكيت) التفاعلي الاجتماعي ليس إلّا، وكأن الادب يعمل وفق قاعدة( ردّ الفضل) بل ومازالت هذه التعليقات تخضع للمزاجية والذائقة الفردية ، والتي يفترض أن يحتل (التفاعل النقدي) بدلاً عنها في معظم هذه المساحة .
الثالث /
ــــــــــــــ
تواجد منتديات الادب التي لاحصر لها ، والتي أُسِّسَ الكثير منها وهي تستند على ركائز رخوة، حيث لاهَمَّ لها سوى النشر لكثير من النصوص البعيدة كل البعد عن روح الادب وجوهره ، ومَنْ أسَّسَ هذه المنتديات قد لايفقه من الادب إلا حواشيه . الّلهم إلا البعض التي مازالت تكابد وتصارع مِن أجل البقاء ، لأن المنتدى إن كان رصيناً، فسيتهافت ضمن فترة زمنية لايُحسد عليها بسبب التزامه بالضوابط النقدية .
فالكل يرغب في منتدىً يقلّد الاوسمة والنياشين والرُتَب والشهادات التي ما انزل الله بها من سلطان، ودون وجه حق ، حتى وصل الحال ببعض المنتديات يهب مرتبة ( سفير ).
- ألا سحقاً لهكذا منتديات .
الرابع /
ـــــــــــــــ
عندما يقبل الكاتب بعرض نصوصه تحت عدسة النقد ، نراه لايتقيد بما ورد من آراء نقدية تصويبية وتقويميه ليصحح ما يحتاج الى تصحيحه وتبديل وتعويض ماهو غير جيد، وغيرها من المؤشرات النقدية ، كي يخرج النص بأحلى حلّة وأزهى إشراق ، بل يبقى مجاملاً للناقد لرفع الحرَج بين الطرفين ويبقى متقمصاً دور الكاتب النحرير والقلم الخبير ، وكأن تغيير مواضع الركّة والضعف أمام انظار المعجبين ماهو الا علامة ضعف شخصية .
وما درى بأن النقد لايعني التجريح ، والنصيحة لاتعني الفضيحة ، والتصريح بالحق والصواب لايعني التحامل .
الخامس /
ــــــــــــــ
بروز لافتات وعناوين نقدية على صفحات العالم الالكتروني و(الفيسبوك) بعـيدة عن هذا الاختصاص.
حيث نجد إن مَنْ لديه مَلَكَة كبيرة في حياكة ونسج انشاء نقدي مُمطِر بزُخرُفِ القول ، يجعل الكاتب والقاريء والمتلقي، يتوهم بأنه أمام قلم مُفوَّه ، وقد أتى بكل سلطان مبين .
المتمعّن المتفحص بعين الخبير ، يجد إن هذا ماهو بالكلام النقدي الرصين، بل هو قول فَريّ ، والفاظ مقوسة وأخرى محدبة ، وكل المحتوى عبارة عن الفاظ مُزَوَّقه ، وعبارات مُنَمَّقه ، وسيلان قلم دافق بعبارات الخطابة القوية ، التي لاتحوي من النقد ومن شروطه شيئا ، وخالية من كل برهان ودليل . انما جاء حشواً ، لا يُسمن ولا يغني من جوع . ونصّه النقدي عبارة عن تمثال من قَصَبٍ وخرقة بالية ، أو فَزَّاعة صُنِعَت من قشٍ وصوف .
ـــ من هنا نجد إن هذا (السوس) قد وصل الى قوائم الصحف الورقية ايضاً ، كون قيادة هذه الصفحات الادبية قد تبوَّأها أناس طارئين على المهنه ، فاصبح التعامل مع النص يقع في كفة ميزان الشخصانية لا الإنتقاء والعقلانية.
وهذا من دواعي الاسراف والغفلة وعدم الدراية ، مما يُحَدِد ويُجَمِّد دور الناقد الموضوعي ، وتصبح عمليته النقدية كالضيف الثقيل ، او كالجالس بلا دعوة . لان الكاتب تَعَوَدَ على تسلّق عتبات الاعجاب وهضم عبارات الزهو والخيلاء ، والتي مصدرها اصدقاء معظمهم بعيد عن الحرفة والاحتراف والاختصاص ، بحيث نجد (الكاتب) يمتعض ويتفاجأ ، بل وينكفيء بمجرد عرض نصهُ الادبي على طاولة الفحص والنقد والتحليل والتقويم ، والكشف عن مواطن الخلل وثغرات في التأليف .
وهذا من دواعي الخسارة وضياع الجهد ، وعدم ايمان ودراية الكاتب بعمق التجربة وريادة العملية النقدية في التطور والصقل لمختلف جوانب وحيثيات الحياة .
ـــ وليعلم الكاتب بأن كل الادباء الكبار ومحترفي صنعة الكتابة قديما وحديثاً يمارسون عملية النقد والتقويم والتقييم.
فمن يُصدّق إن المتنبي وهو مّن هو في الشعر والبلاغة ، قد عيبَ عليه عندما قال :
" لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي ..... وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي "
يقول ابن الأثير :
( إن هذا معنى سوء يُقصّر بالممدوح ، ويغضُّ من حَسَبهِ ، ويُحقّر من شأنِ سلفهِ)
ــ وهكذا كانوا يتعاملون فيما بينهم لبيان جودة السبك ومواطن الفصاحة والجزل والبلاغة ، ليستفيد منها مَن ينظِم شعرا بعده .
ــ المفروش على ساحة الفيسبوك ــ وهو العالم الادبي البديل والذي سيتصدر عولمة النشر ــ كثير من النتاجات الأدبية والتي جلّها تحتاج الى رعاية واهتمام ، وفرز وتمحيص ، وإشارة بصدق وحيادية خالية من المجاملات والتسويف ، لتقويم العمل وتعديل الانحرافات في السبك والتأليف ، ونشر ثقافة تقبل النقد ، ومد جسور الثقة بين الكاتب والناقد ، كي يتعرف المتلقي الحصيف والمتذوق الصادق على مواطن الادب النظيف ، ومحطات الابداع ، التي لاتخلو من المتعة والريادة والاشراق ، ولينحسر المد الأميبي للادب الغير مُتزِن ، والذي جاء ضيفاً طارئاً لايملك صفات اللياقة والرزانة والثبات ، وإلا ستبقى العملية النقدية والكتابية الابداعية في وضع التهافت والذبول .
ـــ احترامي وتقديري .
• والى بيانات قادمة بعون الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق