PNGHunt-com-2

من أعلام الأزهر الشريف الإمام محمد عبده : الإعلامية اللبنانية تغريد بو مرعي والباحث د. محمدفتحي عبد العال

من أعلام الأزهر الشريف
الحلقة الرابعة
الإمام محمد عبده
من المشايخ البارزين الذين كان لهم دورًا كبيرًا ومؤثرًا في مسيرة الإصلاح الديني بعد عقود من الجمود الفكري .
إنه الشيخ محمد عبده ابن قرية محلة نصر بالبحيرة لأب جده من التركمان وأم مصرية من قبيلة بني عدي العربية ..وكعادة أبناء القرى يطمح آباؤهم في إلحاقهم بالتعليم الشرعي طمعا في المنزلة والمكانة المستقبلية وعلى هذا المنوال ألحق صاحبنا بالجامع الأحمدي ( السيد البدوي ) ، لكن سرعان ما ضاق ذرعًا بصعوبة المناهج التي كانت تعتمد على الحفظ والتلقين للمتون، واستظهار الشروح دون فهم أو إعمال عقل أو تدبّر، فترك الدراسة لكن أحد أخوال والده ويدعى الشيخ درويش خضر كان له أبلغ الأثر في عودته مرة أخرى للدراسة إذ استطاع أن يشرح له في سلاسة ما استعصى عليه فهمه من متون وأن يجعله قريبًا من فكرة الإسلام المحورية ودعوته الأساسية في التوحيد الخالص ونبذ كل ما ينال من جوهر هذه العقيدة من بدع وخرافات ..
التحق محمد عبده بالجامع الأزهر عام ١٨٦٦م وحصل على شهادة العالمية عام ١٨٧٧م .
بدأ منهجه الإصلاحي يتخذ شكلًا أكثر وضوحًا وتأثيرًا  بعد ملازمته للشيخ جمال الدين الأفغاني، والذي أحدث ثورة فكرية وعلمية في مصر في كافة المجالات، ومنها الإصلاح الديني والسياسي وعلى الرغم مما أعلنه الأفغاني من معارضة صريحة لنظام الخديوي إسماعيل ومسؤوليته عن أزمة الديون في مصر، وترحيبه بالتغيير القادم مع الخديو توفيق الذي كان رفيقه في جماعة الماسونية،  ولكن الأخير لم يحفظ له هذه البشارات الحسنة بل أسرع بإخراجه ونفيه من البلاد لأنه من المفسدين في الأرض !!..
كان جمال الدين الأفغاني سببًا في تحول محمد عبده من الصوفية إلى الفلسفة، ودافعاً له إلى الإصلاح، لكنهما اختلفا في الأسلوب والوسيلة ومازال حديثهما ونقاشهما عن الإصلاح يثير الإعجاب والجدل معًا.
الرجل الثاني في حياة الشيخ محمد عبده هو الشيخ حسن الطويل والذي كان له باع كبير في الفلسفة والرياضيات والسياسة ..
في عهد وزارة رياض باشا ذات الميول الأوروبية اشترك محمد عبده في  تحرير مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية بالوقائع المصرية الصحيفة الأقدم في مصر والمعبرة عن لسان حال الحكومة المصرية منذ عهد محمد علي باشا الكبير ..
ومع انطلاق شرارات الثورة العرابية وتمرد عناصر الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي باشا ضد الخديو توفيق، أبدى الشيخ محمد عبده موقفًا متذبذبًا منها ما بين إقدام وتراجع، لكنه وفي النهاية حسم موقفه بالانضمام في صفوفها ودفع ثمن ذلك باهظًا مثل غيره بأن خسر مكانته لدى أولي الأمر والنهي بعد هزيمة عرابي والقضاء على ثورته عام ١٨٨٢م، فتم القبض عليه واعتقاله بشكل مهين ثم نفيه إلى بيروت ومنها سافر إلى باريس عام ١٨٨٤م للقاء الشيخ جمال الدين الأفغاني فأصدرا معًا صحيفة العروة الوثقى ومن ثم جمعية سرية حملت نفس الاسم عام ١٨٨٥م..في بيروت عمل بالمدرسة السلطانية كما تزوج بعد رحيل زوجته الأولى ..وبمساعي كبيرة بذلتها الأميرة نازلي فاضل سليلة أسرة محمد علي باشا وصاحبة أكبر صالون ثقافي في مصر وبمساعدة سعد زغلول باشا، حصل الشيخ محمد عبده على عفو من الخديو توفيق وسمح له بالعودة لمصر مجددًا شريطة عدم العمل بالسياسة، وتمتع بتقدير اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وإشادته..
في مصر انقلب الشيخ محمد عبده على الثورة العرابية ووضعها في قالب المطالب الفئوية التي يتحمل أحمد عرابي باشا مسؤوليتها لغيرته من حظوة العناصر الشركسية بالجيش، فضلًا عن مسؤوليته عن السقوط المدّي لهذه الثورة ونتائجها الكارثية في إضاعة استقلال مصر .
استعاد الشيخ بريقه الوظيفي في عهد توفيق باشا بعد عودته الى مصر عام ١٨٨٩م، فعُين قاضيًا بمحكمة بنها فالزقازيق فعابدين ثم مستشار في محكمة الاستئناف عام 1891م.
وفي عهد الخديو عباس حلمي الثاني عُين في منصب مفتي الديار المصرية، ولأول مرة يستقل منصب الإفتاء عن مشيخة الأزهر وكان للشيخ محمد عبده مجموعة إفتاءات جدلية كان لها صدى كبيرًا وواسعًا في مصر، منها تحليله التصوير والنحت و فوائد الأموال المودعة في مصلحة البريد، وهي الفتوى التي غلب فيها الشيخ مذهبه المعروف في تقرير المصلحة المجتمعية فيما يذهب البعض لنفي هذه الفتوى وإنكارها كليا .كما أكد الشيخ محمد عبده أنه لا وجود للجنسية في الإسلام، وهو مصطلح استحدثه الأوروبيين على غرار العصبيات لدى العرب الجاهليين القدامى، فلا امتياز بين مسلم ومسلم بدعوى الجنسية والبلد الذي يقطنه المسلم من بلاد المسلمين هو بلده .
وعلى الرغم من حالة الهدوء التي انتابت حياة الشيخ في هذه الآونة من الاستقرار المهني والوظيفي المشوب بالحذر، لكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين الخديو عباس حلمي الثاني رأس السلطة في البلاد وذلك لاشتراط الشيخ أن يدفع الخديو عشرين ألفًا لصالح استبدال أرض من الأوقاف بأخرى، مما أغضب الخديو وبدأت الصحف تشن هجومًا عنيفًا وساخرًا ضد الشيخ محمد عبده، والذي استدرج بحسن نية إلى مزيدًا من التلاسن والهجوم المضاد ، وصل لحد اتهام محمد علي باشا جد الخديو بالاستيلاء على أوقاف الجامع الأزهر وتخريب أخلاقيات الناس وقتل ملكة الشجاعة والمرؤوة في نفوسهم مستأسدًا بالجيش وبالأجانب وقوة الكرباج.. مما وسع من هوة الخلاف بين الطرفين وجعل من المحال إذابتها .
استقال الشيخ محمد عبده مضطرًا عام ١٩٠٥م واشتد به المرض حتى توفي في نفس العام .ومن كتبه :رسالة التوحيد، كتاب الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية(رد به على إرنست رينان سنة 1902م)،
تحقيق وشرح «البصائر القصيرية للطوسي»، تقرير إصلاح المحاكم الشرعية سنة 1899م، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب
العروة الوثقى مع معلمه جمال الدين الأفغاني.
وفي النهاية لا يسعنا إلا  أن نعتبر   الإمام محمد عبده هو التجسيد الحي  للضمير الديني المتمرد على جمود التراث المتطلع للعقلانية  المعتدلة وتحكيمها في وزن الأمور وإعادة تقديم الإسلام بأسلوب عصري جذاب
كل هذا اجتمع  مع نفس إنسانية  لا تخلو من قلق وتردد بحكم التحديات التي عاصرها والتقلبات السياسية التي سيطرت على الحياة في مصر بداية من عصر محمد علي باشا وتقليمه لأظافر العلماء بالنفي والإبعاد والحد من نفوذهم  مرورا  بعصر إسماعيل والتراجع الكبير لدور مصر مع ثقل الديون ثم من بعد ذلك الاحتلال البريطاني الذي حاول تغيير وجه الحياة في مصر بشكل جذري  .لذا تبقى قرارات الإمام وآرائه والتي انقسم حولها العلماء والمؤرخون رهنا بزمنه وقدراته واجتهاداته اتفقنا أو اختلفنا حولها إلا أنها لا تخلو في مجملها من محاولات نبيلة للإصلاح الديني وإخراجه من بؤرة المدارس التقليدية والجمود في الاجتهاد إلى مساحات أكثر سعة في التفكير البناء .

استاذة تغريد بو مرعي كاتبة،إعلامية ومترجمة لبنانية.
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي