انتقام : ق.ق بقلم الأديب الروائي أحمد محمد الحامدي
انتقام
..........
التوبة ليست قراراً أتخذه لقدرتي على اتخاذه ، بل هي شعور يفرض نفسه من خلال تأنيب الضمير ، والندم ..... ندمت.
أيها السادة الأكارم ، سألني أحد الأصدقاء عن سبب مجيئي الى ألمانيا.
فأجبته : أنا أبحث عن نفسي.
لكن الحقيقة... سأعترف بها لكم .
كنا خمسة أصدقاء ثلاثة شباب وفتاتان ، نجتمع كثيراً ، نتحدث ونتسامر ، عرفت طباعهم جيداً وألفتها من العشرة والمعاملة ، حيث كان كل واحد منهم لديه اهتماماته التي تختلف عن اهتمامات الآخر .
لكن ما جمعهم في إطار واحد ، رغم اختلاف تلك الاهتمامات ، هي المصلحة... أربعتهم يبحثون عن مصالحهم .. محطمين أي اعتبار اخلاقي ، واحترام ، داهسين على برتوكولات علاقاتهم مع الآخر . مصلحتهم فقط ، هي الأهم .
مرّت الأيام.. و تركوني وحيدا..
أو بعبارة أدق ، مصلحتهم معي انتهت .
واقتضى الأمر أن يتطفلوا كالفايروسات على غيري .
قررت أن أنتقم منهم ... ليس لأنني أحبهم وتركوني... بل لأنهم أصبحوا في نظري عبارة عن مصالح مجردة بعيدة عن الجسد والفكر .
هل تعلمون أن الفايروسات تعيش متطفلة على أجسام الكائنات المضيفة ...
بينما لوحدها تتكور بشكل بلوري غباري وتبقى على هذا الشكل إلى أن تجد المضيف المناسب وتتطفل عليه... ألا ترون معي أن حياتها كلها مصالح ؟ .
المهم... استأجرت بيتاً ، وقمت بالتجهيزات التي تتطلبها الخطة للانتقام...
فكرت كثيراً في طريقة انتقام لا تدينني ولا أدخل فيها كطرف منتقِم . في حال تم التحقيق في الجريمة.
كان جل تفكيري يصب ، في أن أجعل مصالحهم ذاتها ، هي التي تقضي عليهم .
فكان.
البيت اخترته مكون من صالة فيها ستة ابواب تفضي الى غرف .
منها باب للمطبخ و آخر للحمام .
و علقت لافتة على باب كل غرفة من الأبواب الأربعة الباقية مكتوب عليها ( لا تفتح الباب دون اذني )
وكتبت على أحد الأبواب تحت اللافتة ( غرفة المال ) ،
والباب الثاني ( غرفة الحب ) ،
والثالث ( غرفة الكتب ) ،
والرابع ( غرفة العبادة ) .
ملأت جو الغرف الأربعة بفايروس متطفل على بكتيريا الخنّاق ( الدفتيريا ) ....
هذه البكتيريا ، تصيب الجهاز التنفسي العلوي للإنسان ، وموجودة في انوف كل البشر ، لكن غير مفعلة ، لأن الجهاز المناعي لدى الإنسان مسيطر عليها بشكل جيد ، لكن ، حين يتطفل فايروس عليها ، تبدأ عملها وتنشط ، وتسبب التهاب في الحلق ثم تضخم تضخم ، و تتطور حالاته لتسبب اختناق ومن بعده وفاة.
بالتأكيد ، ستتساءلون : من أين أتيت بالفيروسات ؟.
هل تعلمون ، أن اللقاحات التطعيمية هي عبارة عن فايروسات ؟
يتم تلقيح الطفل بها بكميات قليلة لها تأثير بسيط ، بحيث يستطيع الجهاز المناعي تشكيل مستضد لها .
جميع لقاحات الأمراض هي عبارة عن فايروسات لكن بكميات قليلة ، ليتعرف الجهاز المناعي عليها كالكزاز والانفلونزا والكوليرا وحتى الخنّاق .
سافرت خصيصاً من اجل احضارها على انها للتلقيح فقط .
ولكنني ، استخدمتها لتخليص البشر من المصالح .
ألم أقل لكم أنهم أصبحوا بنظري مصالح مجردة .
الفيروسات تأتي بلورية لا تتفعل الا بوضعها في سائل ، واثناء اللقاحات ، يخلطونها بسوائل معينة ، لتتحرك بسرعة اكثر في الجسم .
ملأت الجو بكل حذر وحيطة ، مع مادة سائلة صنعتها من ماء و عصير الفجل والبصل ، لتكون برائحة كريهة ، واغلقت المنافذ الهوائية عن تلك الغرف حتى تبقى الفايروسات بنسبة كبيرة في الداخل .
ولأتأكد أكثر من ان الفيروسات ستصل لانوفهم ، وضعت كمية كبيرة جدا منها بحالتها البلورية على مقابض الابواب الأربعة فحين يفتحونها ستمتلئ أياديهم بها ، وحين يشتمون الرائحة الكريهة ، سيضطرون لإغلاق انوفهم بايديهم . فتختلط الفايروسات بالسائل المخاطي ، وتقوم بعملها.
وهكذا أضمن نجاح الخطة . دعوتهم للعشاء ، و بعد الترحيب ، تركتهم ، ودخلت للمطبخ ، واعلمتهم بطريقة غير مباشرة وباعتذار وهمي ، انني سأتأخر قليلا لإعداد العشاء .
كنت متأكد أنهم سيفتحون الباب دون اذني... أنا أصلا وضعت تلك الجملة من أجل ضميري في حال أنبني في المستقبل .
هل تعرفون غوبلز : ( وزير الدعاية الألماني ) ، وسياسته في السيطرة على العقول ، وفق نظرية التأطير ، التي تتمثل في ايهام الآخر بقلة الخيارات المتاحة .
كصديقك مثلاً ، حين تزوره ويسألك هل أصنع لك شاي ام قهوة ؟
هو بنفس الوقت لا يضع لك خياراً آخر كالعصير مثلاً ، لذلك قام بتأطير فكرك ضمن إطار هو اختاره .
والمصالح كذلك ايضاً تستخدم سياسة التأطير مع الشخص... فتقلل خياراته ، بل ربما تجعلها خياراً واحداًً ، وبالتالي تفرض عليه ان يكون تبع لها .
اخترت تلك التسميات التي وضعتها على الأبواب ، لأنني كما أخبرتكم أعرفهم جيداً وأعرف كل واحد منهم أي مصلحة متمثلة به .
فاحدى الفتاتان ، كانت تحاول إمالتي وإثارة اعجابي ، لأنها كانت تظن أنني أملك مالاً كثيراً ..
ثيابي واناقتي توحي حقاً بذلك. وحين علمت أنني لا املكه ، فأنا غني النفس والعفة وهي تريد المال فقط .
ابتعدت عني ، حبها للمال جعلها رخيصة جداً ..
لذلك كان يجب ان تدفع ثمن حبها له .
المال نعم أنه مهم جداً لكنه حقاً ليس غاية ، إنما وسيلة كأي وسيلة ، نقل مثلاً .
أما أحد الشابان فكان يجد من وجهة نظره هو ، انه محبوب من قبل الفتيات ، فكان يتنقل من واحدة لأخرى ،
يقضي منهن وطره وبعدها يبتعد عنهن .
فكانت مصلحته معي ، من اجل زميلة لي ، يحاول ان يصطادها ، ليس حباً ، انما ليزيد من أعدادهن ، ويتفاخر أمام زملائه.
كان يستجدي ابتسامة من الفتيات ، كالجندب ، يطير حولهن ويحط بقرف بالقرب منهن ، و في حال علمت احداهن بنواياه الدنيئة ، وابتعدت عنه ، يبدأ هو بالحديث عنها ، ويختلق أحداثاً كاذبة وملفقة ويدعي الدونجوانية .
الحب علاقة مقدسة ، تستمر بالإحترام ، وتتغذى على الوصال ، وأساسها الثقة ، وحارسها الضمير .
أما الشاب الآخر ، كان يدعي الثقافة ، وحب الاستطلاع والكتب...
إن من أبشع المخربين للفكر هم الدخلاء عليه...
يملكون اسلوب لطيف في الحديث ، وطريقة لبقة في التعامل مع البشر ، لكن ، معلوماتهم دون المستوى وفكرهم تهديمي .
قال جبران خليل جبران ( إن نصف العلم أخطر من الجهل )
وهذا كذلك ،
هو فقط يستخدم اسلوبه الجميل في الحوارات ، لكنه ينشر معلومات خاطئة لا أساس لها من الصحة ، ويستقطب جمهور حوله ، بكتابة الشعر والقصة ، والأخطاء الأدبية كثيرة في كتاباته ، لكن عامة الناس لا يعرفون قواعد الأدب ، لذلك يجدوه مميزاً في كل شيء.
ويكلمهم عن علوم كثيرة ، ويوهمهم أنه يعرفها ، وأن له علاقة بالثقافة بكل مجالاتها ، وهم يصدقونه للأسف.
مصلحته معي ، كانت لأنني أملك مكتبة ، وإعتقد انه سيحصل على كتاب ، او اكثر ، مني و حين لم يحصل عليه ، تركني وبحث عن مكاتب لأشخاص ، ربما يعطونه ذلك الكتاب .
الكتاب صلاة ، يجب قراءته بخشوع .. والدخيل على القراءة هو كالمنافق الذي يصلي بلا وضوء .
والفتاة الأخرى... تلك كانت تدعي حب الدين والعبادة ، وحين تحدثك في أمور الدين ، تجدها تجارية الفكر ، بالتأكيد لأن مصلحتها تقتضي ذلك .
فإما أن ترهبك من النار ، وإما أن تحببك بالجنة .
وقانونها : اعبد تدخل الجنة. اكفر تدخل النار ، مصلحة تجارية بحتة.
أما سر العبادة ، وهي محبة الله محبة خالصة ، لا ريب ولا شك فيها بعيدة عن الجنة ، والنار ، فلا شأن لها بها ، رغم انك حين تصارحها بذلك تدعي محبة الله .
بالله عليكم ، أليس هناك أسخف من تلك الفكرة التي تقول أنه اذا كنت تحب الله قم بكل العبادات المطلوبة منه .
متى كان للحب قواعد ، وطريقة ؟
يفرضون طريقتهم في الحب وكأنها الأصح .
فعلاً كما قال ابن سينا ( بلينا بقوم يظنون أن الله لم يخلق سواهم ) .
وهي تقوم بكل العبادات... لكنها تنم وتغتب وتحقد.... عباداتها مصلحة .
علاقة العبد بربه علاقة خاصة لا شأن لأي شخص بها... ، عبادتك لله دعها لنفسك ، ودعني أعبده على طريقتي ، دعني أحبه باسلوبي .
المهم دخلت الى المطبخ ، ودخلوا الغرف بالفعل ، و دون اذني ، وخرجوا قبل قدومي ، وأنا أخرت نفسي أكثر ، لأجعلهم يستنشقون الفايروسات بكميات أكبر .
وهكذا.
بالفعل مرت أيام على الحادثة ،
تملصت منهم ، وابتعدت عنهم ، وأخذت اراقبهم عن بعد ،
بدأت أعراض المرض تظهر بشكل بسيط . سعال ، وحرقة في،الحلق ، وتغير في طبقات الصوت.
الحرب في بلدي جعلت الأدوية الوقائية شبه معدومة ولا تصل بسهولة
رأيت عذابهم أمام عيني ... مات ثلاثة منهم خنقاً ، واختفى الرابع عني . وظننته مات هو ايضاً
بعد عدة أشهر وصلتني رسالة ، من ذلك المتثاقف ، الذي مصلحته في القراءة والكتب ، يشرح لي فيها كل شيء قمت به ، وبالتفصيل .
وقال بأنه كان يشك بي منذ البداية . وبأنه لم يدخل للغرفة ، وتأكدت شكوكه ، بعد موت أصدقائه .
هددني بأنه سيعلن جريمتي على الملأ .
بحثت عنه كثيراً لأقتله ، وأدفن سري معه ، لكنني لم اعثر عليه ، بدأ القلق يحرمني النوم ، تعبت جداً وأرهقني التفكير .
سمعت بعد فترة أنه سافر الى ألمانيا. ارتحت قليلاً لذلك.
لكنه أرسل رسالة اخرى يقول فيها أعدك أن أنشر جريمتك على الفيسبوك ، وانتقم لأصدقائي بفضحك ، لكن حين يقتلك الملل في بحثك عني .
فجئت الى ألمانيا ابحث فيها عنه .
...................
قال هذه القصة لمجموعة من اصدقائه في (الكامب) ، حين سألوه عن سبب مجيئه الى ألمانيا .
اعترف لهم بجريمته... يبدو أن الملل قتله.
لذلك ها أنا ذا أنتقم لأصدقائي وأنشر جريمته لكم و أفي بوعدي له .
......
بقلمي
أحمد محمد الحامدي
تعليقات
إرسال تعليق