PNGHunt-com-2

الفن ونكهة السرمدية : بقلم الأديبة أ. وفاء كمال

الفن ونكهة السرمدية
********************
تروي الأساطير أن الآلهة أرادت أن تُنزل بأهاسوريس أمرَّ عقاب ينزل بإنسان .فحكمت عليه بعدم الموت .وتجسد هذه الأسطورة اهتمام المفكرين بمسألتيّ الموت والخلود .حيث يبدو الموت انتصاباً لامفر منه .يفرض سطوته على الأحياء.
فالإنسان الذي يحرك الكون بالخوارق ويصنع العجب ،يتهاوى بالنهاية .
لذا لابد من الإذعان مع " هايدجر "  بان كنه الانسان وشخصيته الفردية تتمثل بالموت ..فالإنسان خُلق ليموت .
الكاتب الفرنسي الشهير "اناتول فرانس "ببلوغه الثمانين من عمره وقبل أن تحضره الوفاة قال :"إن الصعوبة ليست في الموت بل في الحياة "..لأنه كان يدرك في قرارة نفسه ان الموت أمر لامفر منه .لذا كان ينتابه قلق الوجود.
ولما كان الموت هو النهاية المحتومة التي لايستطيع أن يتحكم فيها أحد، كان الفكر البشري يبتدع أساطيره حول الخلود. ليتجاوز ضعفه أمام الموت ، ذلك المارد الجبار الذي يشكل صفعة عنيفة تهزأ من غرورنا .فنحاول نفيه بالبحث عن الخلود . وقدلجأ الكثيرون لتجسيد الخلود بأشكال عديدة ..كادعاء وجود أكسير الحياة أو الشباب. وهو عقار أو مشروب أسطوريّ يضمن لشاربه حياة أبدية أو شباباً أبدياَ، وقد سعى إليه العديد من ممارسي الخيمياء قديمًا. وكثرت الأساطير والقصص والأشعار التي تبحث في الخلود والفناء كقصة النبي " ذي الكفل "  الذي طلب منه قومه أن يجعل ربه يطيل حياتهم . وملحمة (كلكامش )ا لتي مثّلت أسطورة الملك الذي يمتلك جسماً ثلثيه من الآلهة الخالدة ، وثلثه الآخر بشري فانٍ .فأسطورة كلكامش تمثل ذلك الصراع الأزليّ بين فناء الإنسان وبين إرادته  على التشبّت بالوجود . وبروي جرفاسيوس  أن الاسكندر الكبير كان يبحث عن ماء الحياة فعثر على تفاح في الهند يطيل عمر الكهنة. كما تروي بعض الأساطير الاسكندنافية أن  التفاح يجدد الحياة لذا تأكله الآلهة .وفي التراث الإيراني يتحدثون عن عشب الهوما الذي يجعل الإنسان خالداَ
كثيرة هي القصص والروايات والأساطير التي تحدثت عن السعي الدؤوب للبشر للوصول إلى سرّ الخلود   ولم تتوانَ التكنولوجيا الحديثة  في الغوص عميقًا في تلك الرغبة. وماروجت له الأساطير فيما مضى تسعى السينما الحديثة إلى تجذيره من خلال شخصيات خالدة لاتموت من خلال بعض التقنيات التي تسعى لنقل الوعي من شخص لآخر للحفاظ عليه مدى الحياة  وقد كثرت الأحداث التي تؤكد اهتمام البشرية بالسعي للخلود من خلال بعض الديانات أو العلوم .
ونرى كيف تمنى الشاعر "جان كوكتو"أن يكون من اهالي مصر تلك التي كان فيها الموت رحلة ، حيث كانوا يعتقدون أن الإنسان سيبعث ثانية بعد موته ليحيا حياة الخلود، إذ تصعد روحه إلى السماء وصوروها على شكل طائر، وأن جسم الإنسان إذا ظل سليماً بعد الدفن عادت إليه الروح من السماء, فالموت فى نظر المصريين القدماء لم يكن هو النهاية، فبعده يحيا الإنسان حياة جديدة.وماالتحنيط الذي اخترعه الفراعنة سوى محاولة من محاولات تخليد الجسد والإنسان ..وكذلك اكتشاف العقاقير الطبية وظاهرة التجميد والاستنساخ وخارطة الجينات والتصوير والكاميرات والأفلام كلها محاولات لم تفلح بحماية الانسان من الشيخوخة ومرور الزمن ..فهاهو "مارسكالين "يصور حالته في إحدى مسرحيات "هوفمانشتال الشعرية قائلاً:
"الزمن شيء غريب ,إنك تعيش دون ان تفكر فيه..وهو لاشيء مجرد لاشيء ..ثم بغتة يصبح الزمن كل ماتحس به من حولك وفي داخلك ..إنه يتحرك   حول صدغيَّ ويتدفق بصمت بيني وبينك صامتاً كالرمل في الزجاج
انصت ..أسمعه يتدفق بشكل لايقاوم ..وانهض احياناً في منتصف الليل لأوقف كل الساعات "
إن "مارسكالين "يتذكر هنا أنه آيل الى الزوال,لانه لن يتمكن من إيقاف الزمن لحظة واحدة ..لذلك نراه شقياً مع مرور الزمن هذا الزمن الذي يحاصرنا أينما كنا ,رغم اننا نحن من أضفينا عليه هذه التسمية
فالزمن يتحرك باستمرار والموت يلاحقنا وهاهو الشاعر والمغني الفرنسي الشهير "جورج براسنز"يصور حالته في اغنية الوصية حين يلاحقه الموت في كل مكان وهو يهرب منه :
"إذا كان علي الذهاب إلى المقبرة
فسأسلك اطول طريق .
سأترك الحياة وأنا أتراجع القهقرى .
حتى لوتذمر حفار القبور ,
حتى لواعتقد أني مجنون ,
فإني في الطريق الى العالم الآخر
أريد أن أسلك طريق التلاميذ .
فهذا الزمن الذي لابد لنا من الوقوع في شركه ,يختلف بمفهومه ونسبته حسب نسبة الشر والفساد ,أو حسب نسبة الخير والإبداع في انفسنا ..
فالأنديرا غاندي كانت تقول :"لاتراهنوا على الريح فإنها لاتستطيع ان تكسر الزمن "
وهذا الزمن لايمكنه ان يتوقف بالنسبة لها لأن الأمة الهندية هي زمنها  أما "ميلينيا ميركوري "فقالت عندما كانت وزيرة الثقافة في اليونان :لاأقبل أن يتوقف زمني عند نقطة معينة ..بينما "جاكلين كندي "كانت تخشى مرور الزمن والشيخوخة التي ستداهمها ..لأنها كانت تعتقدبأنها لابد أن تدفع ثمناً باهظاً للزهو الذي عاشته خلال حياتها دون أن تبدع شيئاً ..إذاً الزمن الذي نخضع له زمنان ..زمن يقاس بحجم الإنتاج ونسبة الإبداع في حياتنا ..وزمن عادي يقاس بالثواني والساعات
وكثيرون هم الذين ينفلتون من رتابة الزمن ليخلقوا زمناً جديداً يختلف بخصائصه عن الزمن العادي وهو غير محدد مطلقاً ولايمتلك ماضياً ولا حاضراً ولامستقبلاً وهذا هو الذي يكسب الفنان الملهم طبيعة صوفية وقتية وهو زمن الغيبوبة بالنسبة للمتصوفة ..وبوساطته يمكنهم الخوض في جوهر الأشياء وعمقها ويمكن انتهاك عوالم "التابو" .
وأصحاب المواهب هم الذين يعون حقيقة التغلب على الفناء والخروج من أنياب الزمن الوحشي ..فبالشعر والموسيقا والرقص والرسم وكل الفنون يستطيع الفنان ان يستحضر طفولته ليستمد منها نكهة السرمدية والديمومة التي لاتحصل إلا بتدمير الزمن على حد تعبير "رينييه ماشار" وقد قال بودلير :"إن العبقرية هي الطفولة المستعادة قصداً " .ولعل الفن كان ضرورة تكثف الحياة في لحظات أبدية تجعل الفنان يقاوم خواء الدنيا باكسير الخلود
وقد خلق "نيتشة "بلحظات جنونه الإنسان السوبر ماني الكلي المطلق ليخلد بتعاليمه وكذلك "شبنكلر الذي خلد عن طريق كتابه "سقوط الغرب "الذي احدث ضجة بعد مماته بمئة عام وربما كانت سرمدية العمل الفني هي السبب في تأبين روما التي روعت لموت فنَّانها"رافائيل"بالكلمة الخالدة :"لقد خشيت الطبيعة التي قدسها ان يتفوق عليها وهو حي ..ولكنها عادت تخشى ان تموت من بعده".
وفاءكمال
اللوحة للفنان المبدع إحسان الشمندي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي