/بلاغة التناص/ دراسة بقلم الناقد كريم القاسم في قصيدة /عقيلة كربلاء/ للشاعر مهندصقور
(بــلاغـة الـتـنـاص)
دراسة نقدية في بيت شعري من قصيدة (عقيلة كربلاء)
للشاعر / مهند ع صقور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· حينما أقرأ للشاعر (مهند الصقور) أجد تلك البصمة الشعرية المميزة ، ونكهة نظمه التي لاتفارقه ، وأكاد أميّز شعره من بين الكثير . وهذه السمة ضرورية جدا ، لايصلها الا مَن هذَّبَ وشذَّبَ نصوصه ليعينها على الوقوف منتصبة رشيقة القوام مشرقة الاركان .
· (مهند الصقور) يجيد انتقاء الفكرة ، ويجيد إحاطتها بما يعينها على تكوين الصور الشعرية الباذخة .
· تطلعتُ بإهتمام بالغ الى قصيدته الرائعة (عقيلة كربلاء) فوجدتُ فيها اكثر من محطة نقدية بسبب قوة ورصانة نضمها وصدق وجدانيتها ، وبلاغة فحواها .
· القصيدة :
(عقيلَةُ كربلاء )
الشاعر / مُهنّد ع صقّور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لِأن الجُرحَ هُو لُغةُ الأحرارِ الشّرفاءِ الثّائرين الأبلغ ...., ولِأنّ الجُرحَ هو الشّاهِدُ العَدلُ على رُزنامةِ التّاريخ .., كانَ مِنَ البدهيّ أن يكونَ هو / الجُرحُ / همزةَ الوصلِ بينَ " العذراءِ والحوراء " .., بينَ " المسيحِ والحُسين" وبينَ كلّ أحرارِ الوجود السّائرينَ على نهجِ " هيهاتِ منّا الذّلّة " .., لِتظلّ الهُويّةُ نبعَ كلّ قطرةِ دمٍ سُفِكتْ غدراً وظُلماً وكُفراً .., ولِأنّ ذلكَ كذلك كانَ الشّعرُ في أحدِ تجلياتهِ عملية انتقامٍ مِنَ التّاريخ .., وتعريةً لزورِ وزيفِ مَنْ كتبوهُ .., ولِذا كنتُ أنا وكانتْ هذهِ القصيدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَا بينَ " مريم والحُسينِ" حكايةٌ ..... فيها لـ" زينبَ والمسيحِ" صليبُ
خطّ الإلهُ فصولها بجراحهِ ..... فالرّملُ : مِنبرُ والنّخيلُ : خطيبُ.!
والنّزفُ لم يبرحْ يُهامِسُ جُرحَهُ ..... واللهُ : يسألُ تارةً ., ويُجيبُ .؟!
/ إيهٍ مُدلّلة الكرّار /
تيهي بِنزفكِ فوقَ الجُرحِ وانتَصبي ..... يا " زينبَ الطّفّ " يا المعصومةَ النّسبِ
إثنانِ كُنّا وكانَ الوحيُ ثالثنا ..... والجُرحُ يَرفلُ في مِعراجِهِ العَجَبِ
" ألستُ ربّاً " أتاني الصّوتُ فارتعدت ..... مِنّي الفرائصُ مِنْ هولٍ ومِنْ رَهَبِ
" بلى وحقّكَ " راح القلبُ يكتبها ..... شِعراً تحدّرَ مِنْ آهاتِ مُكتَئبِ.!
يَا " رَاهِبَ الدّيرِ" هلْ رأسُ " الحُسينِ" شكت ..... مِنْ نزفِ قافِلةٍ في فَدفَدٍ يَببِ .؟
أم أنّهُ الحقّ إمّا جاءَ مُلتبِساً ...... كيما يُعلّلَ سرّ البَعثِ في العَربِ
هذا " الوصيّ " أراهُ اليومَ مُعتلياً ...... متنَ المنابرِ يلوي النورَ عن كثبِ
*********
يا روعةَ العِشقِ حينَ النّزف يكتبهُ ..... وحيٌ يضمّد في الهيجاءِ جُرحَ " نبي"
ألفٌ مِنَ التّيهِ لم تبرحْ طلائعُها ...... تغتالُ صبحَ يقينٍ ., مُدنفٍ ., تَعِبِ .؟!
ألفٌ تقمّصها وحشُ الشّتاتِ ولم ..... يزلْ يُطاردنا جهراً بلا سببِ .؟!
بحرٌ مِنَ الرّملِ فوقَ الماءِ أبصرُهُ ..... يمتدّ ., يزحفُ طوفاناً مِنَ الكُثُبِ
وحيثُ " زينبُ " لم تترك أعنّتهُ ...... فالشّوطُ لمّا يزلْ في كفّها الحَدِبِ
أنا ابنكِ البِكرُ يَا أمّاهُ يَبعثني ...... أتونُ جرحكِ بُركاناً مِنَ اللهبِ
مُرّي بِكفّكِ فوقَ العينِ أبصرهُ ...... نزفَ " الحُسينَ " يُوثّق للمدى : نسبي
هيهات يُنكرهُ هيهات يجحدهُ ...... هيـهات يوفقهُ : " شِمرٌ " مِنَ الرّيبِ
هُنا " الطّفوفُ " هُنا مِعراجُ قافلةٍ ..... أسرى بِها اللهُ فوقَ الدّهرِ والحُقبِ
*********
إيهٍ " مُدلّلةَ الكَرّارِ" قُصّي لنا ...... ما زوّرَ الدّهرُ مِنْ تاريخكِ الذّهبي
هاتِ انثريها حكاياتِ الأُولى خلدوا ..... مِنْ " نرجسِ" الوردِ أو مِنْ " خولةِ" الحَسبِ
عَنْ " قِربةٍ " كُسِرتْ في كَفّ حامِلها ...... عنِ " الفراتِ " وعَنْ " عبّاسِنا " اللجِبِ
عنْ " قاسمٍ " عنْ " عليّ" طفلِ غربتنا ...... وَعَنْ " مُسلّمَ " ., عَنْ مُغتالِهِ القحِبِ .!
عنِ الخيامِ وقد شبّ الجحيمُ بِها ...... مِمّا جناهُ : عدو اللهِ والكتبِ .؟!!
وعنْ " سُكينة " عنْ آلامِ غربتها ...... عنْ رحلةٍ حبلتْ بالويلِ والكُرَبِ
هاتِ انثريها وقصّيها لذي خلَدٍ ...... آمالُهُ اختنقتْ مِنْ هولِ مُرتَقَبِ
**********
يَا زينبَ الرّوحِ ذكرى الطّفّ تؤلمني ...... و" كربلاءُ " تُقيتُ الجمرَ في العصبِ
هُناكٌ أسئلةٌ في القلبِ كامنةٌ ...... هُناكَ أسئلةٌ : تأتجُ مِنْ غضبِ ؟!
تركتها للغدِ الآتي عساهُ بها ...... يُعيدُ فلسفةَ الآلامِ ., والنّوبِ ؟!
أنا المُعتّقُ في إبريقِ خمرتها ...... نخباً يفسّرُ : سرّ الشّهدِ والحَبَبِ !
نخباً تناهبهُ الأحرارُ فانتفضوا ...... كالوقتِ يهزأُ بالفرسانِ بالقُضُبِ
*********
يَا "زينبَ" الصّبرِ لولا الصّبرُ مَا انتفضتْ ...... هذي القوافي ولم تنبضْ بسرّ أبي
ولا تفجّرَ مِنْ خُلجانِ مُقلتِها ..... دمعٌ لِأُمّي ولم ترعفْ بها خُطبي
لَكِنّهُ "النّهجُ" حيثُ "المُرتضى" أتلقتْ ..... آياتُهُ الغُرّ فوقَ الشّعرِ , والأدبِ
" نَهجُ البَلاغةِ " سِفرُ العابرينَ إلى ..... جنّاتِ عدنٍ مراقي السّادةِ النّجُبِ
" نَهجُ البَلاغةِ " قرآني ال بلغتُ بهِ ..... رُغمَ الصّعابِ زرابي الفوزِ والأربِ
وسوفَ يبقى وإنْ طالَ الزمانُ بنا ...... " توراةَ " باصرتي " إنجيليَ " الخَصِبِ
*********
يَا نخلةً فوقَ رملِ " الطّفّ " شَامِخةً ..... كانتْ لـ"مريمَ " : دِرياقاً مِنَ العَطَبِ
آوتْ إليكِ بليلٍ جُنّ سامِرهُ ...... ولامستْ جذعكِ المذخورَ لِلنّوبِ
وهامستكِ بسرٍّ بِتّ أعرِفهُ ...... وغِبتُ فيهِ بهِ عَنْ عالمِ الكذبِ .؟!
كذا المخاضُ خِضمٌّ هادرٌ عرمٌ ...... يُوحي إليكِ أيَا " عذراءُ " فارتقبي
صوتٌ مِنَ اللهِ جلّ اللهُ مُعتَصمَاً ...... ألّا تخافي وبالرّحمنِ فاحتسبي
" هُزّي إليكِ" حُسينٌ : سرّ آياتِها ...... هزّي إليكِ فسرُّ اللهُ في الرّطبِ
إنْ كذّبوكِ ف" عيسى " اليومَ مُعجزةٌ ..... أو صدّقوكِ فروحُ اللهِ : لم يَغبِ
" ميمانِ " بينهما هذا الوجودُ سجا ...... وراحَ يغرفُ مِنْ سلسالِها العَذِبِ
و" اليَاءُ والرّاءُ " مسرى كلّ نابضةٍ ...... يَا " مَريمَ " الرّطبِ يا المكنوزةِ السّحبِ
شَرِبتُ نخبَكِ عرّتني قداستُهُ ....... مِنْ خَمرةِ اللهِ ., لا مِنْ خَمرةِ العِنَبِ .؟!
.........................................................
· القصيدة رائعة وذكية النظم وجميلة التوظيف والمزج ، فهي تحيلك الى متلقٍ يكاد لا يرحل او يغفل عن قافلة السبيّ ، حيث تألق شاعرنا في انتقاء الصور الشعرية الرائعة النافذة الى الضمير ، ليعكس ذلك الشعاع الزينبي بصورة جاذبة ثاقبة مُحطِّمة كلّ الحواجز والسدود .
· بعد استطلاعي للنص الثري وقفتُ عند محطة بليغة بديعة رائعة تمثلت في البيت الشعري االتالي لخصوصية نظمه ولبلاغة معناه :
( "هُزّي إليكِ" حُسينٌ : سرّ آياتِها ..... هزّي إليكِ فسرُّ اللهُ في الرّطبِ )
· الان لنبحر في جمال وبلاغة هذا البيت الشعري :
استطاع الشاعر من توظيف (التناص القرآني) بأجمل توظيف وأنبل مرتبة ، فهو لم يستخدم اللفظ القرآني لتفخيم النص أولعرض واستعراض الجمل القرآنية المهيبة لغرض الإتكاء عليها ، بل جنحَ الى التناص بأجمل اسلوب ، فجعل اللفظ القرآني دليلاً للمعنى وهدفاً للصورة الشعرية في هذا البيت الشعري البليغ ليجعل الترابط بين الجرح الزينبي والمريمي ينتمي الى ذات البؤرة .
· مع إن الجرح هو همزة الوصل إلا إن النخلة هي بؤرة مشتركة للجرحين ، ومفهوم الصلب هو ذاته وإن اختلفتْ الأداة ، فعند المسيح خشبتان متعارضتان للصلب وعند الحسين رمح طويل فوقه الرأس يُدار ، والأداتان بينهما (نخلة) مشتركة الأداء ، وكريمة العطاء .
· الهدف ذاته ، والبغيّ ذاته ، والانتصار هو هو ، والخلود هو هو لايفارق المسيح والحسين عليهما السلام.
· لو تأملنا البيت الشعري لوجدنا الشاعر قد كرر عبارة (هُزّي إليكِ) في ابتداء الشطرين (صدر البيت الشعري وعجزه) حيث إن مرجعية هذه العبارة هو الاية 25 من سورة مريم :
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)
جاء هذا الإيحاء الى السيدة (مريم) عليها السلام كي يتساقط عليها الرطب الطيب الطعم والصالح للأجتناء ، لتقوية اركان البدن بعدما انتابه الوهن والضعف .
· هذا المعنى الذي تضمنته الاية الكريمة ؛ كذلك استفاد منه الشاعر كي يوظفه في ابلغ توظيف حين جعل (الرطب) شريك تناصي آخر ، فيقول في ختام البيت الشعري :
(سرُّ اللهُ في الرّطبِ)
· تكرار عبارة (هُزّي إليكِ) في ابتداء الشطرين لم يكن لضرورة وزنية او لغرض انظباط نظمي ، إنما جاء التكرار ليكون هدفاً مدروساً ولغاية مقصودة ، فجاء النظم ذكيا مدروسا بعناية وإتقان .
فلما كانت النخلة هي العامل المشترك ، والعنصر الانثوي الرسالي ذاته في قصة سيدنا المسيح وسيدنا الحسين عليهما السلام ، فلابد من فعل يستلزم الحركة بقوة ونشاط وهو فعل (الهزّ) .
· التوليفة المنسجمة بين الاهتزازين ؛ نجح الشاعر في رسم صورتين بارعتين مؤثرتين لها في وجدان المتلقي ، فقد جعل الصورة الاولى :
(هُزّي إليكِ" حُسينٌ : سرّ آياتِها)
وكأنما جاء الايحاء لسيدتنا (زينب) ليقول لها : هزّي اليك الرمح ليتساقط منه وحياً رساليا طيبا طاهرا سيتفوَّه بهِ الراس الشريف ، وسيكون مدعاة الى تقوية معنوياتها ليعينها على أكمال الرسالة الاعلامية لمعركة الانتصار الخالد ولمواجهة عروش البغي والطغاة .
· هذا التقارن الاعجازي اللطيف بين (الرطب) المعجزة في الجذع اليابس و(رأس الحسين) الذي تفوَّه بآيٍ من القرآن الكريم وهو معلق على رأس القناة هو ابداع يحسب للشاعر .
الغوص في المعاني ودراسة التاريخ وسعة الافق المعرفي والثقافي هو الذي يعين الشاعر والمؤلف على الاتيان بالابداع . وإن الحادثة الاعجازية التي رافقت رأس الحسين عليه السلام عندما قرأ آيٍ من القرآن الكريم قد أيدتهُ مصادر تاريخية كثيرة ليس الآن مجال الولوج فيها ونبشها ، نقتطف منها مايلي ، كي يركن اليها من أراد الفائدة والبحث :
ـ ما رواه ابن عساكر ت571 بسند متّصل عن الأعمش عن منهال بن عمرو.
ـ والمنهال بن عمرو هو الأسدي الكوفي الذي روى عنه البخاري ، ونقل ابن حجر توثيقه عن ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم.
ـ نقل هذه الرواية عن ابن عساكر كلّ من:
1- السيوطي ت911ﻫ في الخصائص الكبرى.
2- العلّامة المناوي في الكواكب الدرّية مع اختلاف طفيف لايؤثر على الحدث الاعجازي او صدق الحادثة. حيث قال: «فنطق الرأس بلسان عربي فصيح، وقال جهاراً...)
3- الصبّان في إسعاف الراغبين.
4- ابن منظور ت711ﻫ في مختصر تاريخ دمشق.
5- الصالحي الشامي ت942ﻫ في سُبل الهدى والرشاد.
6- العلّامة الشبلنجي في نور الأبصار.
7- المناوي في فيض القدير.
· التقارن الوظيفي والتأثيري في كلا العنصرين (مريم وزينب) عليهما السلام ، لهوّ من أجمل التوظيفات والاقتباسات الرائعة .
· ثم يختزل شاعرنا الرائع المعنى برمته حيث يجعل (سرُّ اللهُ في الرّطبِ) وكأنه يقول سر الله في (رأس الحسين) حين قرأ آيٍّ من القرآن .
ــ لله درك ايها الشاعر الذكي .
ــ احييك ايها الشاعر النبيل المبدع.
· هكذا نظم رصين هادف مدروس بعناية لابد من الاشارة اليه لإعمام الفائدة ولبث روح الثقة في قلم الابداع والابتكار .
· الشعر إن لم مُحرِّكاً ذاتيا فاعلا فعالاً في الذاتين (الشاعر والمتلقي) لايمكن ان نحسبه شعرا.
· القصيدة إن لم تكن متحركة في فضائها المرسوم لها ، خالدة الحضور عند كل لحظة زمنية مقروئة ، فلايمكن ركنها فوق رفوف مراتب الجودة والاثراء.
· الشاعر المقتدر هو من يستطيع احضار عتاده اللغوي المطلوب لينتقي منه مايشاء ، ثم يمزجه في بوتقة النظم محافظاً على سرِّ الكيمياء التي بعهدته ليكون الناتج نصّاَ لامعا مشرقاً براقاً يستهوي الجميع ، وتميل اليه قلوب المتذوقين .
· وافر الاحترام والتقدير ..
..................................................
تعليقات
إرسال تعليق