هكذا يجب أن يقرأ الشعر ... وهكذا إقرؤوا الجواهري : تعقيب بقلم الشاعر مهند صقر على قراءة الناقد كريم القاسم
هكذا يجبْ أنْ يُقرأ الشّعر .
........................... وهكذا اقرؤوا الجواهريّ
...
بهذا ابتدأ الأديبُ الكبير النّاقِدُ الحصيف الكريمُ وقفتهُ النّقديّة : عندما يتصدى الناقد او الشارح لشعر الجواهري عليه ان يكون مُلماً بأصول النقد والتحليل ، مع عتاد وثروة لغوية لايستهان بها ، فالجواهري لايرصف لفظاً كيفما اتفق ، ولاينظم شعرا من غير دراية . فهو ربيب مدارس العلم وتلميذها النهم المتعطش الى الادب واللغة./
لِذا سأقولُ بكلّ شَفافيةٍ وجرأةٍ : إنّ أديباً كبيراً ., وشاعراً مُبدِعاً ., وناقِداً جهبذاً ., حصيفاً ذوّاقاً ., كالأستاذ كريم قاسم ., اعتادَ أنْ يغرفَ مِنَ النّبعِ لا الفرع ., وأنْ يقرأ بصوتهِ العالي لا الصّامت .., أطلّ علينا كما النّجم وقد مزّقَ سُدفَ غيمٍ خُلبيّ لطالما أدمنهُ الكثيرُ مِنَ النّقّاد ., وظلّوا أسارى مطرهِ المُنتظر ., أطلّ علينا بِهيئةِ الجواهِريّ ليقولَ لنا : هكذا قلتُ ., وبذا شدوتُ ., وما عليكم سوى الإنشاد خلفي ., لا تتأوّلوا ., ولا تُفسّروا ما لا تمتلكونَ مقوماتِ تفسيرهِ ., وشروطَ تأويله .., حسبكم الإنشاد وفقط ., أمّا المَعاني والمقاصِد فاتركوها لأهلها .., وورثتها .., يكفيكم علم الألفاظِ أمّا المَعاني .., فدعوها لأربابِها .., لا تُشوّهوا الشّعر كي لا تغدونَ سُبّتهُ ولعنته .! دعوا ما لقيصرَ لقيصر .
إذاً وبناءً على ما تفضّلَ بهِ أُستاذنا الكريم " كريم " يُمكنني القول - ولن أكونَ مُخطئاً أو مُحابياً أو مُغالياً إذا ما قُلتُ - أنّ هذهِ القصيدة تُعتبرُ النّموذج الأرقى والأبلغ بينَ نماذجِ هندسةِ القصيدة العربيّة .., والإسراء الألحب نحو أبي الأحرارِ ورمز الشّهداء .., والمِعراجَ الولائي الأصدق حيثُ الإمام الحُسين " ع" مُلهم ألبابِ المُبدعينَ الفلاسِفة .., ومِشكاة وادي طواهم الأزليّة .., والجواهِريّ ليس إلّا أحد أولئكَ العَباقرة الرّاؤون المُبدِعون الذينَ تقصّوا وتقفّوا آثارَ أبي عبد الله .., فكانَ محطّ رحالِهم .., ومجلى عبقريّهتم .
وشاعرٌ بَحرٌ كالجواهري لا يرضى لِنفسهِ الدّخول على الإمام الحُسين "ع" إلّا بحروفٍ مُترفَةٍ فخمةٍ تليقُ بالمدخولِ عليه ., كالمطلعِ / المدخل السّداسيّ الكلمات وكأنّهُ اختزل جهات الوجودِ السّت ., وليس بالغريبِ عليهِ ذلك .
وشاعِرٌ فحلٌ كأبي فرات تأبى نفسهُ الشّفيفةُ ., وقريحتهُ المطبوعة إلّا والاغتراف من فراتِ الحُسينِ " ع " الأعذب والأشهى ., وهُنا تكمُنُ قداسةُ المُناجاة والابتهال .., وشفافيةُ الإقبالِ على المُقدّس والمعصوم .
وشاعرٌ فقيهٌ كمتنبي القرنِ العشرين لا يُطلِقُ كلامهُ هكذا ., وإلّا فالقصيدَةُ ستخذلهُ وتجمحُ بهِ ., ولأنّهُ الفارسُ المِقدامُ ., والواثقُ الكرّارُ عرفَ ببداهةِ الشّاعرِ الخلّاقِ كيفَ يبدأ الشّوط .., وكيفَ يتركُ العنان لشواردِ شعرهِ المُطهّمةِ أن تصولَ وتجولَ في معمعانٍ هو الأصعبُ والأعتى .., وكيفَ لا والمعمعانُ يتوّسّدهُ الإمامُ الشّهيدُ ولو مجازاً .؟!
وشَاعرٌ ذربٌ كابنِ الرّافدينِ يَعلمُ أكثرَ مِنْ غيرهِ أنْ ليس أيّ كلامٍ يليقُ بِالحُسين " ع" ., وليستْ أيّ بلاغةٍ تفيهِ بعضَ حقّهِ ., وليسَ لأيّ كانَ الوقوفَ أمامَ الإمامِ عليهِ السّلام ., أو أهلاً لمُخاطبتهِ ., فأعدّ العُدّةَ ., والوقتَ ., وأسرجَ مُطهماتِ بيانهِ ., ومُحكماتِ بلاغتهِ ., ودَخلَ دخولاً فرزدقيّاً بكلّ ثقةٍ واطمئنان .
وشَاعِرٌ كابنِ الحُسينِ عليهِ السّلام " الجواهِريّ" لا يُلامُ على حُبّ والدهِ ., ومهما قالَ في إمامهِ ووالدهِ يَبقى دونَ عظمةِ الوالِدِ ., ودونَ قداستهِ ., ومهما أبدعَ يبقى على الضّفافِ .., وهذا سرّ عظمةِ الجواهريّ كشاعرٍ تسنّمَ عرشَ القرنِ العشرين بكلّ جدارة ., ولذا استحقَ أنْ تُرفعَ قُبعاتُ الإكبارِ والإعظامِ له .
فللهِ درّكَ يا أبا الفُراتُ على هذا البوح القدسيّ .., وللهِ درّكَ أيّها الكريمُ على هذهِ الوقفة المَنارة ., وعلى هذهِ الإطلالة الكاشِفة ., فقلقد غُصّتَ حيثُ وضع أبو الفرات محارته .., وانتزعتَ القشرةَ التي أعيت الكثير مِنَ النّقّاد ., وخادعتهم فتجاوزوها .., زادكَ الله زادكَ ., وأدامَ تسكابَ فيضِ نورهِ عليك .
لا أجدُ ما أبثّكَ إيّاهُ سوى
انحنائي وأحرفي إكباراً وإعظاماً لكَ أيّها المُجلّي
بِقلمي
مُهنّد ع صقّور
سوريا .. جبلة
...................................
وقـفـةٌ نـقـديـةٌ في مطلع قصيدة
آمنتُ بالحسينِ / الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عينية الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) رحمه الله (آمنت بالحسين) والتي القاها في كربلاء في ذكرى استشهاد الحسين ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ هي من ابلغ وأروع قصائده ، بل أروع ما نُظِمَ في تلك الفترة وحتى وقتنا الحاضر ، حتى كُتِبَ منها خمسة عشر بيتاً شعرياً بماء الذهب طرزتْ الباب الكبير لضريح الامام الحسين .
عندما يتصدى الناقد او الشارح لشعر الجواهري عليه ان يكون مُلماً بأصول النقد والتحليل ، مع عتاد وثروة لغوية لايستهان بها ، فالجواهري لايرصف لفظاً كيفما اتفق ، ولاينظم شعرا من غير دراية . فهو ربيب مدارس العلم وتلميذها النهم المتعطش الى الادب واللغة.
كيف لا وقد درج في احضان العلم وبين اركان بيت علم وعالم ، حتى درس الفقه والبلاغة والبيان والفصاحة . وكان لايلقط في اذنه إلا الجزل الفصيح البليغ من اللفظ .
إذاً نحن امام قامة ادبية رفيعة المقام سامية الاهداف راقية الفكر شاسعة المعرفة خبيرة النوَل.
ــ القصد من التعريف الموجز أعلاه هو أن ماينظمه الجواهري ليس بالهين او التقليدي او المعتاد ، ولذلك نجد شعره قد نفذَ الى قلوب عشاق الادب ومريديه دون استئذان .
• مطلع قصيدته العينية (آمنتُ بالحسين) :
فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ **** تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ **** رُوْحَاً ومن مِسْكِهاأَضْـوَعِ
وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف" **** وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ
وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس **** على نَهْجِكَ النَّيِّـرِالمَهْيَـعِ
وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال **** بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ
...................................
• للاسف ؛ الكثير من الاخوة النقاد والشارحين تناولوا شرح البيت الشعري الاول من مطلع القصيدة تناولاً سطحياً دون الولوج الى اعماق النص وارتباطات أواصره فيما بينها .
• السؤال / وهل يكتب الجواهري هكذا قصيدة عصماء في رثاء الامام (الحسين) رضي الله عنه وارضاه ، يشار اليها ليجعل مطلعها بيتا شعريا مبتور الاساس ، أو يتيم المتابعة والبّعدية ؟
ــ لنتناول معاني البيت الشعري في مطلع القصيدة بشيءٍ من التكثيف والايضاح :
الشاعر يخاطب الحسين ـ رضي الله عنه وارضاه ـ وهو يستقبل قبره الطاهر الشريف فيقول :
( فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ **** تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ )
ــ في الشطر الاول :
(فداءٌ لِمثواك مِن مَضجعِ)
*في المعاني الجامع /
الفداء / واضحة المعنى وهو مايقدم لله تعالى او فداء وتضحية بالنفس من اجل شيء مقدس عالي المقام .
المثوى / وهو المكان الذي يُنزلُ فيه ، ولذلك نقول للمنزل (مثوى) وهو اسم مفعول من الفعل أثوى ، اي (نَزلَ)
المَضجَع : مكان النوم .
ــ وبهذا يأتلف معنى الشطر الاول من ثلاثة الفاظ متناسقة الرصف ، حيث كان الشاعر ذكياً في خطابه ، فهو يخاطب جثماناً قد اضطجع على تراب كربلاء ، فيقول له نفسي فداء لصاحب هذا المثوى والمضجع ، كونه اهل قدسية متراكبة ومتراكمة تستحق الفداء والتضحية .
ثم يُكمل البيت الشعري بشطر آخر قد تناوله الاخوة النقاد والشارحين بتسرع وعبور سطحي بغية الوصول الى عمق النص دون الالتفات الى هذه المقدمات الرائعة والتي لايمكن ان يكمل شاعر مثل الجواهري قصيدته دون هذه الثوابت والاسس .
ـ الشطر الثاني :
(تنوَّر بالأبلجِ الأروعِ )
ـ لنتأمل الآن معاني مفردات الشطر الثلاث :
* في (لسان العرب)
" الأَبْلَجُ : الأَبيضُ الحسَنُ الواسعُ الوجه ، يكون في الطول والقصر."
الرائع : أيْ الحَسَنٍ ، الرَائِقٍ ، الجَمِيلٍ ، وكل ما يُثِيرُ الإِعْجَابَ وَيَشُدُّ الانْتِبَاهَ
الان نأتي الى هذه المفردة :
تنوَّرَ : هذه المفردة بالذات قد بَنَى النقاد عليها معنىً غير مُصيب ، فتناولوا معناها منفصلاً دون تأمل الرابط بين معناها ومغزاها وأجزاء ماتلاها من نظم ونسج .
لذلك فالكثير منهم جاء بمعناها العام وهو : الاستضاءة والتنوير ، ليكون المعنى هو :
(ان هذا القبر وهذا المثوى قد تنور واستضاء بالأبلج الجميل الحسن الوجه )
وهذا يلائم جدا مواطن المعاني الوجدانية لمفردات البيت الشعري ومرجعية الصفات الى الامام الحسين رضي الله عنه وارضاه .
ــ لكن مثل الجواهري عندما يصف الحسين فهو يأتي بما يُدهش الذات ، ويجعلك تعيش في فضاءات ومساحات كونية أخرى ، فمثلاً يقول في ذات القصيدة :
(فيابنَ البتـولِ وحَسْبِي بِهَا **** ضَمَاناً على كُلِّ ما أَدَّعِـي
ويابنَ التي لم يَضَعْ مِثْلُها **** كمِثْلِكِ حَمْـلاً ولم تُرْضِـعِ
ويابنَ البَطِيـنِ بلا بِطْنَـةٍ **** ويابنَ الفتى الحاسـرِالأنْـزَعِ
ويا غُصْنَ "هاشِـمَ" لم يَنْفَتِحْ **** بأزْهَـرَ منـكَ ولم يُفْـرِعِ
ويا واصِلاً من نشيدِ الخُلود **** خِتَـامَ القصيـدةِ بالمَطْلَـعِ)
ــ نعم هكذا يخاطب الجواهري حسينا بهذه السمات المشرقات المزهرات الشامخات .
ــ لذلك نجدهم وبعد أن ينتهوا من تحليليل وشرح بيت المطلع يمرون مرور الكرام على البيت الثاني :
(بأعبقِ مِن نفحاتِ الجِنان ***** رَوّحاً و مِن مِسكِها أضوَعِ )
*في لسان العرب/
عبِق المكانُ بالطِّيب : انتشرت رائحةُ الطِّيب فيه.
النَّفْحَةُ : الطَّيبُ الذي ترتاح له النَّفْس.
الرُّوح : (معنويَّاً) الجوّ أو الحالة النَّفسية التي تؤثِّر في النفس وهي الراحة .
ضَاعَ العِطْرُ : فَاحَ و اِنْتَشَرَ .
ــ فيتناولون المعنى (بأن المكان عَطِرٌ وفيه نفحات جنان .)
وهو تفسير مجازي يناسب عادة شروحات النقاد للقبور والاثار المقدسة .
• لكن المتأمل الحذق يجد الجواهري قد حمَّل الشطر الثاني من البيت الشعري الاول (تنوَّرَ بالأبلجِ الأروعِ ) معنىً يحمل تأويلا آخراً ، كي يكون الشرح ويكون التناسب عالي المقام .
ـ إن مفردة (تنوَّرَ) يقصد الشاعر بها ان المكان اصبح مزهرَّا بـ (الابيض من الزهر)
و(النَور) هو الورد الابيض .
ــ برهان ذلك هو ماتلاه من نظم :
(بأعبقِ مِن نفحاتِ الجِنان ***** رَوّحاً و مِن مِسكِها أضوَعِ )
ــ فهل يأتي عبق العطور وراحة النفس وضوع المسك من الضوء والتنوير؟
ــ بالتأكيد لا .
إذاً ؛ فالمعنى يكون :
(إن المثوى والمضجع قد تعطَّرَ وانتشرتْ فيه الروائح الزكية كالمسك ، كونه مُزهرَّا بـ الورد الابيض ، فتشعر النفس بالراحة والدَعَةِ والانشراح .)
ــ فقد جاء في المعاني الجامع :
النَّوْرُ :الزّهْرُ، أو الأبيض منه واحدته: نَوْرَةٌ
• لاشك ان مثل الجواهري يفهم النظم واسراره . لذلك قال اهل الصنعة :
" بأن الالفاظ لها خصائص وهيئات "
ونظم ابيات الشعر كنظم خرز القلادة أو حبات المسبحة ، الواحدة تسند الاخرى ، فإن كان البيت الشعري منفصلا عما سبقه فستكون الفكرة متشظية ومشوشة الارسال والاسترسال . والجواهري قد أبحر في هذه الصنعة وهو غضٌ طريّ العود ، فكيف وقد شاخ مع الشعر حتى تمازجا روحا وبلاغة ؟
• وافر الاحترام والتقدير ...
تعليقات
إرسال تعليق