PNGHunt-com-2

رؤية الناقدعباس الصهبي وصرخة الشاعرعبد الباسط الغرابلي الشعرية يامحزمين الشمس

********
* رؤية    *
* ‏نقدية   *
********

      " صرخة" الشاعر الكبير/ عبد الباسط الغرابلي
          أنصت إليها "صندوق التنمية الثقافية"
فمنحه جائزة المركز الثاني على مستوى الجمهورية
          ***************************
          مع أنه لم تعد تلفت نظري الجوائز، ولا القصائد الفائزة؛ في هذه السنوات الأخيرة،  والمتقدمة من حياتي الشعرية، بعد أن "فاحت" روائح كثير من الجوائز، تماماً ككثير من قصائدها الفائزة؛ بما لم يعد "يثبت" أو "ينفي" شرعية من "يمنحها" أو حتى من "ينالها"؛ وبعد أن كثر عدد الشعراء وصار عدد الجوائز أكثر من عددهم!
          ‏غير أن ما استلفت نظري مؤخراً فوز شاعر مصر الكبير عبد الباسط الغرابلي بجائزة أراه يستحق ما هو أكثر منها من تكريم وتقدير، ولكن لما كنت أعرف عمق تجربته الشعرية كزجال مبدع وصادق؛ كان لا بد وأن أواجه جمال الإبداع عنده، وأعانق اجتهاده الواضح من أجل أجيالنا الشعرية الجديدة، على الأقل؛ وفيهم - والحمد لله - مواهب حقيقية فذة في الشعر والزجل، صادقة وحقيقية وجادة، تطمئننا على الإبداع الشعري المستقبلي القادم في مصر، وربما كانوا فقط يحتاجون إلى الاستنارة بإبداع أجيال رائدة سبقتهم تطمئنهم على هدى وصحة الطريق الذي يسلكونه، لا أكثر!
         من هنا تبرز أهمية قصيدة "صرخة" للغرابلي، باعتبارها قصيدة زجلية توضح نضوج حصاد معاناته الطويلة الصادقة مع الشعر الحقيقي عندما يكون هذا الشعر في خدمة المجتمع؛ فهو  شاعر قدير، رائد؛ أعتبره من أواخر جيل كبار الشعراء النبلاء؛ وإن كنت أول ما تشرفت بالتعارف معه، ومنذ ما يزيد قليلاً على 10 سنوات ب"قصر ثقافة مدينة السلام"؛ استرعتني في البداية غرابة لقبه "الغرابلي"، ثم اكتشفت بمرور الوقت من خلال الندوات وما ينشره على "الفيس" من أشعار متميزة المستوى المبتكر إبداعياً، سواء في  الصياغة والصور  الشعرية المجددة والمتجددة في إبداعه؛ فهو شاعر حقيقي وجاد؛ نجح وعلى مدار سنوات طويلة من إخلاصه في التعامل مع موهبته الفياضة وبثقافته الفكرية والأدبية الواسعة الواعية المنطلقة من واقعه المعاش؛ أن يجعل من اسم  "الغرابلي" ماركة "مسجلة" للزجل المتفرد والفائق الجودة بحق!
   إنه "شاعر فارس" بمعنى الكلمة، وكنت في غاية السعادة، بل ولم أتفاجأ عندما تشرفت بوجودي في حفل تكريم "رابطة الزجالين وكُتَّاب الأغاني" بقيادة رئيسها شاعرنا الرائع الكبير سعادة المستشار محمد بك سرور الذي شرَّفنا جميعاً نحن شعراء وزجالي الرابطة بتكريم "الغرابلي" ضمن أبطال "عظماء أبطال أكتوبر"؛ حيث اكتشفت من كل هذا العدد الضخم المكرَّم من شعراء وزجالي الرابطة العريقة الذين شاركوا بالفعل في حرب العبور المجيدة وما بعدها؛ ما وراء المفهوم العميق الذي قصده أستاذى الدكتور رمضان بك الحضري "شيخ نقاد العصر" في محاضراته لنا من أن "الكلمة شرف"، وليسمح لي أن أقول له الآن:
   ‏- حقاً معك حق أستاذي الرائد التنويري النبيل، فكلمتك تنطبق عملياً وبالفعل على "الغرابلي"؛ ذلك الشاعر المبدع الذي نجح في "غربلة" الكلمة الشاعرة في زجلنا المعاصر من "حووشي" الكلام، رغم عاميتها السهلة المرسلة؛ ليحافظ على "شرف الكلمة" لتقوم بدورها "الشريف" الفاعل والخالد الذي خُلقت أصلاً من أجله بإيقاظ "الوعي الجمعي" في الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال الاحتكاك بواقع المجتمع والتفاعل معه من أجل الاحتكاك بل الاشتباك مع الواقع، لكنه في الأول والآخر ليس اشتباكاً لمجرد إبراز أغراض الخصومة والاختلاف، مهما كانت مصادر هذا الاختلاف: سياسية، أو اقتصادية، أو عقائدية؛ فتوظيف "الكلمة" ينبغي أن يتجاوز حدود "الأفكار المتطرفة"، مهما كانت قيمتها الفكرية..
   ‏ من هنا يبدو شاعرنا الملتزم بقضايا وطنه عن إخلاص مضطراً، مثل "الغرابلي"؛ لا محالة للخوض في واقعه لينطلق من أرضية هذا  الواقع المأزوم بالضرورة ليحلق بنا في "هليكوبتر" إبداعه المبتكر في مدارات جديدة تستوعب الواقع ب"رؤية" إبداعية جديدة، تتم فيها إعادة تنظيم أولويات  منظومة الفكر المجتمعي ووعيه، وصولاً لحلول مبتكرة، من خارج الصندوق؛ كانت تبدو قبل ذلك شبه مستحيلة!
   ‏  وهذه "معجزة" الشعر والشعراء!
   ‏  فهليوكوبتر المبدع، وكما نرى في واقع حياتنا من طائرات مروحية؛  لا بد لها من مطار ترسو فيه على أرض الواقع الحقيقي لتنطلق منه، وتطير، لتعود لنفس الأرض والمطار أو لمطارات أخرى قريبة لتقدم لنا رؤية "راصدة" أكثر شمولاً ودقة للواقع الذي منه انطلقت..
   ‏ وما أسهل الطيران للتحليق بهليوكوبتر الإبداع  للشاعر الحقيقي الجاد؛ والذي هو في الحقيقة "طيَّار" بموهبته وثقافته؛ ليقدم لنا بتحليقه المبدع الراصد: الرؤية المبتكرة الجديدة التي تعيد أولويات فكر المجتمع وتركزه؛ وتنظمه؛ وصولاً للحل الصحيح من خلال تقبُّل الواقع، لا من أجل الانغماس فيه؛ بل من أجل تجاوزه أملاً في التحليق بالمجتمع وصولاً للأفضل..
   ‏    وحتى نتعرف مبدئياً على العالم الشعري ل "الغرابلي"، وقبل الانتقال لقصيدته موضوعنا في هذه الالتفاتة النقدية الانطباعية: "صرخة"؛ فلعل قصيدته "زمن نساي"، وبالرغم من سخريته الشديدة وإلى حد المرارة اللاذعة؛ تكشف لنا ارتباطه بالواقع الصعب، وهو ما يجسد من جانب آخر انتماءه الشديد، وتكشف عن أسلوبه الخاص - المتفائل جداً - في معالجته لقصائده، مهما كانت درجة مرارة السخرية ونقده اللاذع للواقع، والذي نجح في أن يكوِّن حتى من مفردات هذا الواقع " شديدة القبح" "أعلى مستويات الجمال" الإبداعي في الصور الشعرية المبتكرة والجديدة لقصيدته؛ وهو مارايناه يقدمه في معالجته المتفائلة، والتي تشيع التفاؤل حوله لتقبل الواقع الصعب، والتصالح معه؛ أملاً في ثقته بأن "الإنقاذ" لا بد وأن يأتي حتماً حتى عندما يصل شاعرنا المرهف الحس لأقصى درجات الحزن والمرارة في عتابه للزمن؛ حيث يقول بصراحته الشعرية التلقائية  الكاملة بقصيدته:
           زمن نساى
           *******
ومش عارف أجيبها ازاى
يازمنى وأنت ليه نساى
بتنسى ان احنا كنا أصحاب
وأفكرك تقول لى لأ كداب
أعيد الحسبة م الأول
تقولى قول كمان طول
ماهو أنت إيه غير شوية قول
وممكن تفضل ع الربابة تقول
لحد الديك ماحايشقشق
تجيب الخلطة تتنشق
وتدى عطسة ورا عطسة
تخاف القطة والعرسة
ويزعل بطِّنا فى الدار
يخاف يجرى على الدوار
ينهَّق جحشنا الأعرج
وتقف البقرة تتفرج
على عطسة وجاية م النخاشيش
بتفتح الإزاز والشيش
وكل الناس هنا تسمع
كإنها عطسة من مدفع
ياسيدى هدى عطساتك
سمعنا  معنى همساتك
يجوز نرجع نعيش تانى
فى ود وحب وأمانى
ونكتب للزعل باي باي
ولا يبقى الزمن نساي!

     حان الآن، إذن؛ لقاؤنا مع قصيدته الفائزة، وهي إحدى روائعه الأخيرة، سواء في الصياغة الشعرية، أو في المعالجة، أو حتى في استشرافه المتفائل بإمكانية إيجاد الحل..
     ‏حيث يبدؤها بهذه المقدمة السوداوية جداً، والعبثية للغاية؛ التي تنعي فيه قصيدته، ومن اللحظة الأولى فيها الواقع المر للحياة في عيون البسطاء غير القادرين حتى على البوح؛ فيقول معبراً عن لسان حالهم غير القادر حتى على البوح في مواجهة عملاء الفساد:
"يامحزمين الشمس بسحابة قلق
من جهلكم ٠٠
         دمى اتحرق
من غدركم ٠٠
       عمرى اتشنق
قلبي اللى م الحب أتخنق
سراً٠٠ رافضكوا وع الملأ
لساكوا واقفين فى المفارق
متحفزين ٠٠
       مستنيين مص العرق"؟!
    ويواصل الشاعر صرخته، بصوت أعلى ولهجة أقوى، قائلاً:
"شاغلين شعاع الغدر ٠٠
               فتاحة طريق
مايهمكوش ٠٠ مين  الغريق؟!
أنتوا الغيامة فى السكك
واحنا الضحايا فى الغبار!
يامعتمين الحلم ٠٠
        فى عيون الصغار
لِسَّالها قاعدين ع النواصى
ناسجين خيوط العنكبوت ع البوابات
وأنا من زمان نفسي أبات..
         من غير أنين
         ‏   يقلب ٠٠٠ بلادة
من غير ماأشوف الحلم مخنوق
           ع الوسادة!
ياهربانين م التقوى ودروس العبادة
فين الحكاوي الطيبة
       فى قلوب بتنطق بالشهادة"؟!!
   ويواصل شاعرنا صرخاته المتعالية، واصفاً ومشخصاً جرائم هؤلاء الفاسدين المفسدين لطعم حلاوة الحياة، وبجرأة تكشف للبسطاء قدراتهم على مواجهة هؤلاء الاشرار الفاسدين مهما فعلوا، فيقول:
"يامحجرين الدمع فى عيون الولد
            حلمي البريء فيكوا أنجلد
لساكوا لبدين فى الدره
           لكل فجر بيتولد
           ‏   لكل نهد بينطلق
متلفحين بالغدر وسنين الغضب
متعطشين للدم والريش والزغب
يامعششين فى القش وجنون التراب
متسلحين بالضلمة وقلوب الدياب
النبض هربان منكم والحس مات
مستنين لحظة سكات
تلقى الجبان عنتر زمانه
كل الفيران تصبح حيتان!
قرن الغزال فى الخوف مازال
يمشى بخطاوىالبطش والغدر الجبان
ياللى الغزال متبرى منكم
والدمعة فرت من جفونه
لو خيروه
        لاستغنى عنكم
وف كل يوم ٠٠ ياكل ٠٠ قرونه
يقطف جذور المر من صبر الغلابة
يغسل حطام القلب ويزيل الكآبة
والنار بتكوى فى جرحنا
والخوف ٠٠هزيمة
والعار يزفر دمنا ٠٠ فين العزيمة؟!
وأيش جاب لنا وفى أرضنا ٠٠٠
ندل ٠٠ وخسيس ٠٠ يزرع فى
سكة حلمنا ٠٠ حلمه الرخيص"!
   وبعد أن وصل صوت الصراخ لآخره، تتحول الصرخة الكاشفة لأروقة الفساد على آخره؛ إلى دعوة لمواجهة الخوف، والتمسك بجرأة الشجاعة في مواجهة الفاسدين، وبلحظة درامية فارقة في المواجهة؛ ربما لتؤدي القصيدة دورها في المواجهة الواعية المستنيرة، فيقول الشاعر الغرابلي مواصلاً صرخته بقوة، وحماس أكثر وأوقع:
"شيلوا البراقع ٠٠ ياحوش
    حتى الحيا ٠٠ فيكو اندفن!
فين الشهامة والضمير ياأهل العفن
    العدل بينا بينقتل وأنتوا ٠٠ الكفن!
العيب علينا كلنا مش بس فيكوا
لو تجرى ميه فى عرقنا ٠٠
نقضى ٠٠ عليكوا
الجبن نحَّس جلدكم ٠٠
‏     والنخوة ماتت ع الطريق
لكن بريء منك ٠٠ ياوحش الخوف
ياكاسر ٠٠ ياسارق الضحكاية
            من عمر السنين
  يافارش العتمايه
  ‏       فى قلب الجنين"!
  ‏وها هي القصيدة في نهايتها تبلور المشهد الختامي الأخير لمواجهة الفساد بدعوة الجميع، ومن كل أطياف المجتمع، لمواجهة الفساد والمفسدين بعد أن كشفتهم القصيدة الدرامية بصرختها المدوية في البداية، ثم بكشفها الفساد، ثم بتوصيف جرائم الفاسدين، ثم التبروء منهم؛ قبل الدعوة الجماعية لعدم الخوف؛ تمهيداً للمواجهة الجماعية بمنتهى الشجاعة؛ فيقول الشاعر بالمشهد الختامي - الرائع - لقصيدته:
"ياأهل الضباب ياملعونين
    فى كل ملة وكل  دين 
مش راح يموت فينا ٠٠ الأمل
ولا راح نعيش ٠٠ متفرقين"؟!
    ( كل هذا حدثتني به قصيدتك العصماء الرائعة، في ليلة واحدة؛ يا شاعرنا المبدع النبيل/ عبد الباسط بك الغرابلي.. وبانتظار المزيد من إبداعاتك المنتمية بحق وحب للوطن الغالي؛ لنتعلم منك ومنها شجاعة مواجهة كل مايعانيه واقعنا من رذائل في الداخل والخارج غير خائفين منه، ما دمت وصفت لنا بإبداعك "روشتة" العلاج، المختصرة في: الالتفاف حول وحدتنا  الوطنية، مؤمنين بحقوق المواطنة في عصر ثقافة جمهوريتنا الجديدة في مصر؛ والتي أرى قصيدتك الرائعة من أولى إرهاصاتها الحقيقية على أرض الواقع، ولك مني، ومن أصدقائي عشاق الشعر الحقيقي الجاد على صفحتي؛ كل التحية والتقدير لك يا"أيها المبدع والبطل المقاوم" حتى وأنت تصرخ في كبرياء من أجل أن توقظنا في "نوبة صحيان"حازمة ولازمة! ).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي