ملاحظات ودراسة لنص (الوصية) للشاعرة سعاد محمد بقلم الناقدالعراقي جمال قيسي
ملاحظات عن قصيدة النثر ، مع دراسة لنص ( الوصية ) للشاعرة سعاد محمد
منذ مدة لم أحسبها توقفت عن الكتابة ، الا شذرات هنا وهناك ، مجرد خربشات ، ربما بسبب العتب من البعض عن كوني انتقي نصوص دون اخرى ، بالاضافة الى الحالة الصحية ، وارتباك في العمل ، لكن الأدهى شعوري بعدم جدوى الامر ، انا بالكلية أشعر بعدم التقدير ، لأَنِّي عندما اكتب انشر سني عمري وايامي ومنظومة مشاعري على حبل البحث عن المعنى ، انتظر من يراها ، لست اطلب تشجيعًا او مؤازرة ، بقدر ما أبحث عن مساحة مشتركة مع الآخرين ، ليشد بعضنا بعض في مواجهة هذا الزوال المتوحش ، ومع إصابتي بالاحباط الوجودي وهذا امر طبيعي بحكم تقدم العمر ، الا ان تقدير هذا الممكن واقصد فعل الكتابة ، هو أمر مزاجي مر ، وبالتالي الكلل والملل وكل مترادفات السجع لاتجدي نفعًا ، الخوف من الكتابة أشبه بالخوف من تحول اللحظات الراهنة الى ذكريات وهو أمر حتمي شئنا أم أبينا ، اذًا القضية كلها متعلقة بالحزن النرجسي في أفق بالكاد نتلمس عتبته ،هكذا عندما أنجو من الفعل الكتابي متوهمًا بمساحة سلام داخلي كهروب من الفعل التاريخي فالإنسان وحده كائن تاريخي ،الا ان هناك نصوص عندما تقرأها ،،تصفعك ،،ومن ثم تسحقك ولكي تنجو من هذا الفائض القهري تستنجد بالكتابة والا ستموت قسرًا والنص الذي سأتناوله. لا اقول أنه صفعني او سحقني إنما طحن روحي و وعيي ،،أنه نص للشاعرة الكبيرة سعاد محمد ، لكن لابد ان اعرج قبل خوض. غمار الابحار في نص الشاعرة على بعض الملاحظات بما يخص قصيدة النثر الزمني بها تعليق للاستاذ الناقد شاكر الخياط ،وأول هذه
الملاحظات
هو قناعتي التامة بما ذهب اليه الدكتور مهدي المخزومي في محاولته الثورية في تجديد دراسة اللغة وبالذات الدرس النحوي لما لاحظه من سطوة الدرس الكلامي والمنطق الصوري الأرسطي المتمثل بمدرسة البصرة الذي أفضى الى ان تخترق الفلسفة دروس اللغة العربية وبالتالي تحولت الى تأويلات واستدلالات ابتعدت عن هدفها واتخذت من ( العامل ) و ( القياس ) اهدافًا مبتعدةً عن نهج الفراهيدي والفراء في الدرس النحوي عن غرضه من أجل الحفاظ على النص الأم (القرأن ) بعد عملية التثاقف مع الحضارات المحاذية والتي انضوت شعوبها تحت الرسالة المحمدية ،والأساس الذي نتكلم فيه هو ماذهب اليه المخزومي عندما قال ( أن اللغة ظاهرة أجتماعية تخضع لما يخضع له المجتمع من احكام تستند الى عقل المجتمع نفسه ، وقد لايتفق مع ما يعرفه منطق العقل والفلسفة ) ،وما اريد ان أذهب إليه ان الفلسفة الكلامية ومنطقها الأرسطي قد هيمن بالكلية على اللغة العربية وبالتالي صاغ محددات معيارية على مجمل نظام الوعي وهنا نقصد ( اللغة ) وكان من جراء ذلك إهمال قضية الصوت من خلال قولبته ،الذي انعكس لاحقًا بظاهرة العروض في الشعر ،
والملاحظة الثانية هي قضية اللغة وكونها نظام وعي وفق ما ذكره نورثرب فراي في دراسته الفذة عن الكتاب المقدس ، معتبرًا ان هذا نظام الوعي ( اللغة ) قد مر بثلاث مراحل تاريخية الاولى المرحلة الاستعارية والثانية المرحلة الكنائية والثالثة المرحلة الوصفية وهذه المراحل هي محايثة لتطور المجتمعات البشرية فالأخيرة مثلاً هي نتاج عصر الكشوفات العلمية ، من ما تقدم نقدر ان نحكم ان الشعر الموزون والمقفى لايخرج من دائرة الاستعارية والكنائية ، فيما تمثل قصيدة النثر الوصفية مع احتوائها على الاستعارة والكناية لكن لغرض تعزيز الوصفية
، الملاحظة الثالثة ، لم يتسنى العمر. ل نورثرب فراي ، ان يشهد المرحلة الرابعة والمهمة الا وهي المعلوماتية والتواصلية حيث تحول نظام الوعي ( اللغة ) الى الواقع المفرط والافتراضي الذي يعتمد الاختزال والسرعة على حساب البلاغة والإطناب. بل حتى على كل قواعد اللغة وها نحن على اعتاب مرحلة جديدة في غاية الخطورة وهي مرحلة الذكاء الاصطناعي ، هي مرحلة ستدخلنا في أزمة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ،
خلاصة القول ان قصيدة النثر هي الخطاب الشعري الاخير للتاريخ الذي يلفظ أنفاسه ، وهو في طوره الزوالي من ناحية الإبداع والخلق البشري ، علينا ان نتصور الانسان القادم بلا مخيلة او احلام ومجتمعات بشرية بلا عواطف او مقننة في أعلى حساب ممكن ان نتصوره ، أشبه بأجواء رواية ( بلاد الأشياء الاخيرة ) ل بول اوستر ،
وسنتناول قصيدة الوصية للشاعرة السورية الكبيرة سعاد محمد
ملاحظات عن قصيدة النثر ، مع دراسة لنص ( الوصية ) للشاعرة سعاد محمد
(التلة والغريب .. والتيه)
في نص موجع ، تلسعنا سياطه،،تطل علينا سعاد محمد،،
تتلبس الأراضي الشموس في النهارات وتنسدل الليالي بنجومها المرصعة ، بمتوالية ،نجمعها بنقطتين ولادة وموت ، وتعاد الكرة تلو الاخرى ، في كون فسيح لدرجة تتصاغر دورتنا البايلوجية لدرجة لاتذكر زمنيًا امام زمنه ، مثلما ننظر نحن كبشر الى تفاهة دورة حياة البعوض التي لا تتخطى الاسبوع ، وربما تنظر الى تفاهتنا بعض قناديل البحر التي لا تفنى لانها تمتلك خلايا جذعية دائمة التجدد، لكن هل يجب علينا نستسلم ؟ ، الجواب طبعًا ،،لا .
فقط لاننا نتوهم باننا نمتلك الشجاعة لمواجهة الطبيعة بفرية العلم ،،اقول فرية لاننا سخرناه بأبشع طريقة بتقانة متفردة ومروعة في سفك ارواح الملايين من ابناء الجنس البشري والاجناس الحيوانية والنباتية ، شركائنا في الكوكب ، حتى تصاعد الخط البياني للانقراض لكثير من الشعب الحياتية ، بل ان هناك شعوب أبيدت بالكامل ، وهذا لخط البياني لايزال في تصاعد ونهايته المؤكدة انقراض الجنس البشري ،
مع ان هذه المقدمة ربما يحسبها البعض ان لا علاقة لها بما سنتناوله ، عندما نتكلم عن الاستطيقا ( الجمال ) وبما يخص ( الرائع ) في الفن على مختلف تنوعه ومنه الشعر ، وفق هذا سيكون لنا قراءة لقصيدة الوصية للشاعرة السورية ( سعاد محمد ) ، هنا انا اتكلم بشكل دقيق عن (الشعور الحيوي ) هذا المصطلح الذي اطلقه( كانت ) وهو الشعور باللذة والالم وهو في جوهره حرية محضه اي بمعنى ما ينبثق من الطاقة الحيوية الكثيفة للشعور ، فهو في أصله الحياة ، حيث يذهب ( كانت ) : إننا من أجل نميز الشيء إذا كان جميلاً أو غير جميل فإننا لانعيد تمثل الشيء إلى الذهن من أجل المعرفة بل إننا نعيده الى الذات والى الشعور باللذة والالم الخاصين بها ،في نصه الفارق نقد ملكة الحكم الذي صدر سنة ١٧٩٠ أنزل العظيم من حقل كل ما يفوق ملكات البشر و وضعه في الذات الانسانية بوصفها المشروع الوحيد لكل القيم التي تخص الانسانية سواء تعلق الامر بالقيم الاخلاقية أو الجمالية او السياسية او الدينية نفسها ، خلاصة القول ( أن الفن قد أخذ يلعب من كانت وعلى نحو مطرد ، يزداد حدة وخطورة وثراء مفهوميًا ، أدوارًا نظرية خطيرة ،اطلق عليها أدورنو صفة (( المهام الفلسفية العليا )) ولم يكن الرائع غير العنوان العام لنوع جديد من (( الجماليات )) التي تكمن المفارقة فيها أنها لم تعد محصورة في نطاق الجميل ، بل خرجت عن طوره وصارت تجد في القبيح والمرعب والفضيع ، ليس فقط شرط إمكانها بل و حقلاً واسعاً لإثرائها ) *
بشكل عام الاستاطيقا (الجمال ) الكانتية اتخذت من الحس المشترك للانسانية أفقًا .
صور لنا كانت الحياة الانسانية ، عبارة عن هاوية سحيقة يحدها حدين وكلاهما يمثلان فشلاً إنسانيًا ذريعًا ، فشل حد الكلي المنطقي الذي يقف عند الظواهر ويستحيل عليه مجال الشعور اي الاعتراف فقط بكل ماهو مادي وإنكار كل ماهو خارج الطبيعة والحد الآخر الميتافيزيقي الذي يرغب في إدراك المطلق فلا يظفر منه بغير الاوهام ،من هنا تطالب الاستطيقا ومنها الادب او اي نوع آخر من الفنون بتدبير شأن الهاوية السحيقة التي مر ذكرها اي إنجاز قنطرة العبور فوقها مرتين هنا يقودنا كانت الى ان نغادر مجال الحقيقة من أجل أن ندشن أفق الحرية ، اننا ملزمون باختراع ( المشترك الاستطيقي ) من خلال الأدب ، مشترك ملكات البشر من أجل التوحيد بينها وكذلك مشترك مشاعر البشر من أجل تدبير الغيرية والكونية معًا .بمعنى المغادرة من مجال الحقيقة الى مجال الحرية ،حتى تتحقق الصلاحية المشتركة للجميع في صحبة الآخرين ، هذه الصحبة عندما يخلق النص مساحة للتعبير عن الالم او اللذة على حد سواء ، ولكي لا اشتط بعيدًا
اقول ان الزخم الاستعاري او الكتلة الشعورية او فائض المعنى المتحقق في قصيدة الوصية للشاعرة سعاد محمد هو التطبيق المعياري لما اوردت من او النزر القليل من فكر عمانويل كانت ، سنذهب ونذوي ونموت ، لكن من يخلد هي الكتلة الشعورية فقط ، لحظات الالم واللذة بصورتها الاستعارية ،
( بحسنِ نيَّةِ..
يميلُ الإلهُ على الأرضِ ليحتضنَ وجعَها..
فيكسرُ أضلاعَها في مجزرةٍ عاطفيّة!
وبمنتهى الوداعةِ..
يخرجُ الزّمانُ من عزلتِهِ التّجريديّةِ..
ليغسلَ أسماءنا من دماءِ رموزها..
فيتسمَّمُ النهرُ، وتغرقُ الأسماءُ جميعُها..
إلّا من قطعَ السَّابلة مع الله،
أو لحقَ بسفينةِ الفنتازيا!)
من يستطيع ان يدون هذه اللحظة المؤلمة للزلزال المروع الذي ضرب شمال سوريا ، والذي شكل سببًا اضافيًا للموت الجماعي لأسباب اخرى ، ليس غير النص الرائع للكبيرة سعاد محمد وهنا الرائع مشتق من الترويع او المروع .
(ضاقُ العمرُ على نذورِهِ أيُّها الغريب..
يا من انضوى فيه كلُّ الأولياءِ والقصصُ المستحيلة
يا نديمي في الرّيقِ العنيدِ
ويا شريكي في حرقِ جلبابِ الحكمةِ الوحيد
أنا التّلةُ الّتي تطلُّ على ما لا تريد
آهٍ ما أكملَ البعيدَ أيُّها الغريبِ!
أيُّها الواقفُ في أعالي الزِّمان كعرّابِ الرّعدِ،
ترمي لي حبلَ عمرِكَ لأصعدَ إليك، وتُعيرني يديك!
تَشرقُ بي الحياةُ كثيراً يا صديقي..
وأنا إن بكيتُ..
لا أبكي من الموتِ؛ أنا أبكي على الحياةِ
أبكي على بلدٍ تجلسُ في حضنِ حراميها
وتخبّئ في جيوبه حليّها..
وتقدّمُه لنا على أنّه محامينا..
بينما تحدجُنا، نحن، بسوطِ الاشتراكية!
أبكي على عمرٍ أجبرَ على بيعِ (اليانصيبِ)،
وهو يعرفُ أنَّ الجائزة الكبرى هي الموت!
وأبكي على نرجسٍ ساديٍّ احتلّني..
يحملُ رشّاشَ (اللا) ويحرسُ بحيرةَ نيراني!)
وفي استحظار لا شعوري تنادي الغريب ، في بعد ميثولوجي حيث الغريب هو النبي موسى ،الذي شكل بارقة امل لبقايا قومه بعد التيه ، والغريب بصورة اخرى هو من تحب وتتمنى ، لكنه بعيد ،وفي جملة استعارية لانظير لها عندما تقول ( انا التلة التي تطل على ما لاتريد ) ، اقول الحق هذه الجملة أخذتني بعيدًا لأراجع نقد ملكة الحكم ل عمانويل كانت وما أصعبها من مهمة ، التلة هنا شاخص ثابت لايزول ولايمكنه ان يغير مكانه مجبر على تحمل الوديان التي تحيطه وعلى تقلبات الجو ، وعلى البشر المتصارع على سفوحه ، حيث تجري وقائع بشرية كريهه ،
طوبى لك سيدتي ، ايتها الرائعة في شعرك وإنسانيتك. المرهفة ،،
جمال قيسي / بغداد
حزيران ٢٠٢٣
جمال قيسي / بغداد ٢٠٢٣
تعليقات
إرسال تعليق