قراءة الأستاذة نسرين المدهون لرواية على ذمة الريح للشاعر محمد الدمشقي
على ذمة الريح
تناولت هذه الدراسة الخيال في نص (على ذمة الريح) محاولة الكشف عن مدى براعة الشاعر في توظيف الخيال للتعبير عن خلجات النفس ، وقدرته على ابتكار صورة متكاملة تعبر عن أفكاره بعذوبة، ومن ثم انتقالها إلى المتلقي من خلال الترابط بين صورها الجزئية وبين المضمون الذي أراد الشاعر محمد الدمشقي التعبير عنه دون شعور ببتر أو انقطاع، فالمتلقي تسلم الصورة ولكن ليست صورة سطحية عابرة، أي بعمق السهل الممتنع.
فمعلوم أن السمة المميزة للنص تكمن في لغته المكونة للخيال، وأن العمل الأدبي ليس مجرد ناقل للأفكار فحسب، بل فن صناعته عالم خاص في المبدع.
ولكن قبل الخوض في القراءة لا بد وأن نقدم الشاعر الذي عرف نفسه قائلا.
محمد الدمشقي .. من مواليد دمشق ١٩٨٠... أكتب الشعر بكل ألوانه
لي ستة دواوين شعرية مطبوعة و هي ( أريج الدمع ... لا ضوء إلا بسمتك ... لحن الإياب ... قبل أن أتعلم النسيان ... كؤوس وجد ... ألحان فجر )
مدير و مؤسس ملتقى حديث الياسمين الأدبي في دمشق و صفحته على الفيسبوك
عضو لجان التحكيم في عدد من المسابقات الشعرية الرسمية
أشرفت على قسم الخاطرة و قصيدة النثر في عدة ملتقيات ثقافية و أدبية عربية ... منها منابر أدبية و قناديل الأدب و أكاديمية الفينيق و غيرها، فائز بعدة مسابقات شعرية محلية و عربية ، أشرفت على ثمانية اجزاء من ديوان عربي مشترك جمع عددا من الشعراء العرب و السوريين و دخل موسوعة الشعر العالمية كأحد أضخم الكتب الشعرية المشتركة
أيضا أشرفت على عدة دواوين للزملاء الشعراء.
القراءة
إننا نقف في قصيدة (على ذمة الريح) على ملامح تكويني نوعي ينطلق من خلق شعري خاص، فهو من النصوص الشعرية التي تبرهن على صناعة خيال خاص بالدمشقي من مادة لغوية، إذ إن الشاعر يضعنا على عتبة تحمل في طياتها صورة بيانية بمادة لغوية أقرب إلى لوحة متحركة تكتنز الصوت والحركة في آن واحد من خلال توظيف التشبيه والاستعارة والكناية، إضافة إلى بعض المحسنات البديعية اللفظية والحسية.
لقد تشكلت عناصر الخيال من الطبيعة بمفرداتها المتنوعة والدوال التي شكلت صورا مختلفة معجميا ذات دلالة يتكئ عليها الشعراء في صياغة صورهم الشعرية، إذ لا يستطيع الشاعر ذو الحس المرهف أن يتغافل عن جمال الطبيعة، ودون أن يثبت براعته في نسج صورة شعرية نابعة من مخيلته صورا مستقاة من الطبيعة ومفرداتها، إنها علامة تأثيرية تأثرية بين الطبيعة والشاعر الذي تدفعه المثيرات إلى تصوير مشاعره في صور حية ذات صوت وحركة تتناسب مع الموقف الشعوري والتجربة الشعرية، وفي نص الدمشقي نلحظ الكثير من الدوال المستقاة من الطبيعة؛ لترسم لوحة تشكيلية زاخرة بالمشاعر التي لا شك أنها ذات تأثير خاص على المتلقي، إذ إن الريح إشارة لعدم الاستقرار والثورة من حين لآخر خاصة وأنها جاءت بصيغة المفرد، واقترانه بالذاكرة دلالة ثورة الذاكرة وانبعاثها من الركام، لقد استطاع الشاعر إيجاد انسجام بين الريح والذاكرة فكلاهما يستدعيان إثارة المشاعر، والصدى دلالة لتكرار الأمر، أي تكرار ما هيجته الريح عبر الذاكرة.
والنجمة، والندى، قطرات، ألوان الزهر، الغيث، الغمام، الظلام، الغيم، الليل، الفجر، الصباح، الأنوار، ضوء، الأفاق، ظلال، كل هذا وغيره مفردات استقاها الدمشقي من الطبيعة، وهي ذات دلالات تحمل في طياتها الكثير من التناقض وعدم الاستقرار، لتسهم في تجسيد الخيال، وملامح الحالة الشعورية التي تغلغلت في وجدان الشاعر، ومن ثم انتقال تأثيرها إلى المتلقي بفعل براعة توظيف الخيال في صور جزئية شاركت المتلقي في تصور صناعة المشهد.
لقد استطاع الشاعر إيجاد رابط بين المفردات والصور من خلال توظيف تقنات البلاغة عبر التشبيهات والاستعارات والكنايات.
فمعلوم أن الخيال قد يكون تشبيها أو استعارة أو كناية أو مجازا، رسما يطلق عليه الخيال الجزئي، يقابله ويكمله صورة الخيال الكلي، ومما لا شك فيه أن الشاعر الدمشقي كان موفقا في توظيف الخيال من خلال ملكاته الشعرية، فإلى جانب ما رسمه الدمشقي من ألوان الخيال الجزئي فإن النص يقوم في بنائه العام على الخيال المستوحى من البيئة المحيطة والأحداث الدائرة والتي أثرت في وجدان الشاعر، فالشاعر يعيش في قلب الحدث السوري، بأوجاعه وأناته، وليله البهيم، و العسر الذي بات الظاهرة المسيطرة على الموقف، إلى غير ذلك من أزمات نمت كنتيجة حتمية للحرب، الذي بدوره أطفأ شمعة الأمل في عين الناس إلا من وجدان الشاعر، إذ رأى المحنة منحة و اليسر يبزغ من أنياب العسر والشعر يوقد من الحنين رغم الوجع، والحلم ينثر أريجه، والصباح يطل ويرمي بالمخاوف والهموم مغردا، كل هذا وأكثر إنما هي رؤية مستوحاة من المحيط الذي أثر في الشاعر مشكلا صورة متكاملة مترابطة الأطراف في نسيج متشابك الجزيئات التصويرية.
وبقدر ما تكون الصورة مبتكرة جديدة بعيدة عن المألوف تكون ذات تأثير أكبر في وجدان المتلقي، إضافة إلى قدرتها على التعبير عن المعنى المراد بسلاسة شريطة ألا تسلم المعنى كاملا للمتلقي، بمعنى أن تترك الباب مفتوحا أمامه ليشارك الشاعر في خياله بنسبة ما ويحاول رسم الصورة مما يزيد حماسه وشغفه في التغلغل أكثر في مراد الشاعر، وهذا الأمر لا شك أن شاعرنا محمد الدمشقي قد نجح في تحقيقه من خلال نصه (على ذمة الريح) ليس فقط على صعيد الصورة داخل السطور، بل نلحظه بقوة في العنوان، إذ نجده وظف الاستعارة من خلال تشبيه الريح بإنسان يمتلك ضميرا، هذه الصورة أفضت بنا إلى صور جزئية متلاحقة وجديدة منها (للريح ذاكرة، الحلم ينثر في الوجود أريجه، في عتمة الأحزان تلمع نجمة، واليسر من أنياب العسر أشرقت أنواره، والفجر يبزغ حاملا معه غدا، والليل يمضي حيث تسطع لهفة، تلك المواجع أمنيات، ولئن ضللت فعد إليك مجددا، والآه عطر قصيدة في نزفها) فلا أدري كيف للمتلقي يتصور أن يكون للريح ذاكرة وللعسر أنياب، وللحلم أريج، بغض النظر عن كون الصور مبتكرة جديدة لافتة فقد مزج ما بين التشبيهات الحسية والعقلية، والاستعارات المكنية والتصريحية والتمثيلية، والكنايات، وهذا ليس عيبا، ذلك أنها صورة خصبة بالخيال الذي شرع الأبواب للمتلقي أن يتصور للمشاهد.
لقد استطاع الشاعر بجدارة أن يثبت براعته في صياغة صوره الجزئية بسحر وجاذبية مبتكرة تنم عن مخزونه المعجمي وامتلاكه لأدوات البلاغة بفروعه المتنوعة.
على ذمة الريح
للريحِ ذاكرةٌ إذا احترقَ المدى
ولئن تلاشَى الصوتُ فالسرُ الصدى
والحلمُ ينثرُ في الوجودِ أريجه
حتى ولو أفضى الطريقُ إلى السُّدى
في عتمةِ الأحزانِ تلمعُ نجمةٌ
من نورها شعرُ الحنينِ توقَّدا
و الآهُ... عطرُ قصيدةٍ في نزفها
عبقٌ ومن دمعاتِها فرَّ الندى
تلك المواجعُ أمنياتٌ لم تمت
حين الأسى فوق الضلوعِ تمدَّدا
فتناثرتْ قطراتُها رقراقةً
لتعيدَ ألوانَ الزهورِ إلى المدى
والمنحةُ الخضراءُ كانت محنةً
والغيثُ قد كان الغمامَ الأسودا
واليسرُ من أنيابِ عسرٍ أشرقتْ
أنواره وعلى الظلامِ تمرَّدا
أيقظْ سناكَ فكلُّ غيمٍ راحلٌ
والفجرُ يبزغُ حاملاً معه غدا
والليلُ يمضي حين تسطعُ لهفةٌ
في قلبِ مشتاقٍ إلى الحبِّ اهتدى
فإذا الصباحُ أطلَّ من تنهيدةٍ
ورمى المخاوفَ والهمومَ وغرَّدا
واستيقظتْ أشعارُهُ وكأنها
خرجتْ إلى الأنوارِ من كهفِ الرَّدى
لا ضوءَ يخبو في فؤادٍ عاشقٍ
مهما استبدَّ به الظلامُ وعربدا
فاهجرْ أنينَكَ والتفتْ نحو المنى
ولئنْ ضللتَ فعدْ إليكَ مجدَّدا
وانظرْ إلى الآفاقِ نظرةَ باشقٍ
عشقَ السَّنا... ومع السماءِ توحَّدا
وارفعْ طموحك فوق سقفِ أناكَ وانزل...
من ظلالِ غرورها كي تصعدا
لا عطرَ يسمو دون سجدةِ خافقٍ
حين استفاقَ الوجدُ فيه تنهَّدا
محمد الدمشقي
تعليقات
إرسال تعليق