قراءة بقلم الأستاذة فائزة القادري في نص (بلقيس بغداد) للشاعر هزبر محمود
🌹قراءة نقدية في قصيدة (بلقيس بغداد)
للشاعر #هِزَبر_محمود
إلى العراق ياهودج المعنى ..ولا تتعثر ولا تطربك إذ تُطرَبُ إلا قوافي الشِّعر حين ترافق القوافل .
إلى بغداد ...
سلِّم حين تركن وتأمن على قصيدة تسمى :
" بلقيس بغداد" وشاعرها الحاني على المعاني
هزبر محمود .
هكذا ربما رفَعتْ التحيَّةُ طرفَها في حضور الحاضرين .
"بلقيس بغداد" عنوان ثقيل الوزن بمُضافه والمضاف إليه،
يحيلنا إلى عظمة التاريخ وشائك الحكايا وقراطيس الجمال ..
هو دخولٌ من بوَّابة كبيرة؛ هكذا شاء الشَّاعر؛ شاء أن نكتسي جلباب المهابة والتأمّل.
حيث في القراءات الأولى لنصّ شاعر يطوّع الشِّعر ليصوغ المعاني المبتكرة دوماً .. وحيث تتأهَّب الدّهشة كل مرة في لقاء قصائده ..نأخذ الانطباع العام ثم نقتفي أثر التفاصيل .
نصٌّ يتزيَّن بحكاية بلقيس؛ الملكة اليمنيّة التي لا تندثر حكايتها ولا يخبو سطوعها وما زلنا نُسقط من معانيها على الواقع .
بلقيس الأنوثة والحكمة والقيادة والشّهرة والمغامرة بلقيس المشتهاة؛ ما يصبغ الشِّعر بكل هذه المفاهيم في الذَّاكرة الجمعية ثم تُطبع على شبكيّتها لتبدو صورة متحرِّكة ذات معنى .
أما لماذا بلقيس في بغداد ..
هذا لكي تبقى بعض الأسئلة بحاجة إلى تقصٍّ وتخمين .
ثمَّ إنَّ بغداد محبوبة العراقيين والشُّعراء منهم ..
هي بعض المدن يضع الله حبَّها في القلوب
ربما يساويها في ذلك دمشق والقدس .
وأنا شخصياً أجد محبة العراقيين للعراق ولبغداد خصوصاً عجيبة ..طفحت في الشِّعر والقصائد .
بغداد الوجع في نص هزبر ...إذ يقول:
"لكنَّ بغداد في منأى عن الفرجِ "
هذا حين قارنها باستقرار مملكة بلقيس سبأ، إذ تأمن المدن وما زالت بغداد بعيدة عن الطمأنينة .
يتلوَّن البوح في نص الشَّاعر ويتوهَّج كنصِّ ثريٍّ بالأغراض الشعرية، فالغزل والحسرة والألم وتصدير الجمال ومفاهيمه والحكمة وإبداء الاحتياج؛احتياج الاتِّكاء والعناق والكثير من المآلات التي نستطيع تكهّنها لما ورائيات العبارات والمرامي .
استهلَّ الشَّاعر نصّه بخطاب مباشر إلى بلقيسه وبلقيس بغداد محذراً إياها من الولوج إلى الصّرح إذ يقول:
تقادم الصَّرح يا بلقيس ..
لا يقبل الشاعر بمكان غير لائق ..المكان قديم ..وقدمه قد أثَّر على أهليَّته .
اختيار الشاعر لمفردة أهذِّبه رائعة ..صرح مهذَّب إذا هو مكان معنويّ أكثر منه مجسماً ..
مثل هذه المفاجآت تمنح الشعر تفرداً خاصّاً وبرأيي لا يؤتى هذا التمكُّن إلا لشاعر متمرِّس في إنتقاء اللفظة المباغتة الشّعريِّة الدالّة ..
كذلك يستخدم مفردة الحقبة كدالّة زمنية ومعنوية غير مجسَّدة ..
الصَّرح معنويّ وبلقيس مدعوة إلى التريّث قبل الولوج إليه .
ينتقل الشَّاعر إلى بيت يلاطف فيه القادمة إليه :
ويمنحها مفردة "أحببت" تلك المفردة التي استقاها من مشاعره لذلك صار بيتاً مصاغاً من المديح والتقرّب والتغزّل ومن عبارات مثل ثغر الورد/ قلب غير ذي عوج /
لكن لماذا أحب قدوماً قبل موعده هذا مما يستعصي على القارئ كنوايا شاعرية .
يعبِّر لها أيضا عن حبّه لوقفتهما بين القوارير والُّلجج
عند الوهم .
يصوّر الشَّاعر هنا صورة سوريالية مائعة؛ تتداخل ألوانها؛ أشخاص ووهم وظلمات أو بحار .
لماذا أحبَّ ذلك أيضاً؟
ثم ينتقل إلى بيت مدهش وتشبيه بديع ويمنح نفسه وإياها خلاصاً رائعاً
حيث كانت عيناها قنديلين ...سارتا بروحه إلى الفجج ..
إقحامه لمفردة "لحظتها" مدهش
منح البيت آنية مؤثرة تعيد القارئ إلى ذلك المشهد وتشعره بشعوره لحظتها .
يتابع التغزُّل بمقارنة بلقيس بمعبودتها الشَّمس
الشَّمس لها دفء ووهج أما بلقيس فتبلغ من الغنج والدَّلال ما لا تبلغه الشّمس.
ينجح الشَّاعر في إختيار أطراف المقارنة ..
ويتميَّز باختيار مفردات جديدة مثل معشار
ينتقل الشَّاعر من المخاطبة والحوار الذَّاتي إلى ذكر الحقائق حيث يقيم مقارنة بين سبأ وبغداد
الأبيات التالية تحمل من الأسى والأسف الكثير .
والشاعر في نصّه يصر على استثمار كل رموز قصَّة بلقيس /الهداهد/ سبأ / العرش/ الصّرح/ الهدايا / كشف السّاق .....
لكن لماذا بقيت الهداهد في الهامش؛ الهامش اللزج ؟
ومن هم الهداهد في رؤى الشاعر ؟
يعود الشّاعر بعد ذلك إلى مخاطبتها ب ماذا انتظرتِ
هو يدعوها ويؤجِّلها ...؟
يدعوها وهو موقن أن حضورها إنعاش للحزن والَّلحن
ويؤكِّد لها أنَّ بغداد بغيابها وتأخيرها اتَّكلت على العزف المأساوي والمهبط منها نال شأن المعترج العالي.. ثم يتطرق هزبر إلى عرشها أيضاً
ويؤكد لها بأن العرش مستهدف بالنُّكران وهو المعروف إذ لا يمكن تنكيره ..
والهزج؛ الترنم قد يرفع العروش الطارئة
طارئ العرش عبارة مباغتة جميلة تدل على ضدِّها هي إحالة إلى العراقة والأصالة .
يتناول الشاعر الحزن ذلك العملاق في مناهجنا ومناهج العراق .حيث الحزن متفرد ..قائلاً : ما أكثر الحزن يا بلقيس ..
كم يكرّر الشاعر اسمها بلقيس ..يا بلقيس
هذا التكرار فرط تعلُّق ومحبَّة
وكم للاسم وتكراره من معنى في النّصوص .
في أبيات تالية يخاطب بلقيس مضمناً الخطاب رفضه للمال والخيول ميّتة ووصفه للماء بالانحسار ووصفه لدجلة بالعرج والجفاف.
كل ذلك يؤكد أن الأمنيات الجميلة تتأخر في الوصول لأن الواقع ماثل وقاسٍ .
يستثني من هذا الخراب جمالها .
يتنقل الشاعر بين ذكر الحقائق والمخاطبة، بين يأس جاف وركن ندي من المعاني .
ثمّ في أربعة أبيات يعود الشَّاعر إلى رفع سقف التغزُّل بجمالها وطيبها وكيف حلت لكن الصبح غير منبلج لها وكيف تغفل عنها المهج وكيف وجه القاتل السمج يجعلها أجمل ...ملامح غزل غريبة ..
و ما أجمل أن يشبه فتنتها بشجرة ليمون ..تلك الشَّجرة الطيِّبة العاطرة الفاتنة ..حيث يرفع خافقه الغصنَ وفاكهته متحدياً من ينكر ويغفل عن هذا الجمال .
ويذكر الشّاعر الخيال والعفاريت
يصوغ بيتاً جديد المعنى :
"منه العفاريتُ قالت إن قدرتها
تعلو على الناس لا تعلو على المهجِ"
وفي أربعة أبيات في قفلة القصيدة يتطرّق الشّاعر إلى الطير ..يغنيه بالمعاني
حيث هو أخرس لكن منطقه فيه من الحجج البليغة وحيث هو منبئ ومتنبئ وحيث هو الذي بقي فقط ليشهد قُبَلاً موعودة يطلبها الشاعر من بلقيسه
فبحضرة الطَّير لا يستحي الطّيش والهوج .
لكن؛ لماذا نهملها ؟
يستكمل الشاعر أبياته ب قبِّليني ..طلب تقارب وزلفى وخاتمة لكل هذا الضَّياع والتَّعب ..
وهو خلاصة معان بشريّة الدلالة ومنطق طبيعي لالتقاء جنسين من البشر ..وهذا اشتغال نفسي على الدَّلالات .
إختار الشاعر حرف الجيم بقافيته؛
حرف الجيم حرف القلقلة والانفتاح حيث لا إطباق عليه، الحرف الشَّديد غير الهامس في اُّللغة العربية، المكسور هنا في غالب المعنى.
والقافية جاءت في تسعة ألفاظ تقريباً بمعانيها السَّلبية: همج، منزعج، هوج ......
وتسعة ألفاظ أو أكثر بمعان إيجابيّة: وهج، غنج، أرج، منبلج ....
والألفاظ الأخرى لها معان حيادية .
بذلك تتوزع المشاعر متساوية تقريباً بين الإحباط ورغبات النَّجاة ..بين اليأس والتطلُّع إلى أمل ما أو بالارتكاز على الماضي أو الموروث أو الصِّفات الأصيلة .
ب سبعة وعشرين بيتاً يتجوَّل ويتحوَّل هزبر محمود بين أزقة صرح شعريّ مدوِّناً وموثِّقاً ما رغب أن يقوله لتأريخ شعريّ، عراقيٍّ على وجه الخصوص ..معطراً الشِّعر بأوراق الليمون الشّعرية ..
بل كأسا طازجاً معصوراً من تجربته الشّعرية في قصيدة .
أمنيتي أن أكون قد وفِّقت في قراءة متواضعة الرُّؤى لشاعر كبير الحضور والجمهور، كبير الرزانة والاتّزان والمقام، هادئ الإلقاء، مميّزه .
مقدِّمةً باقة مودّة .
#فائزةالقادري
🌹بلقيس بغداد
هزبر محمود
تقادم الصرح يا بلقيس ، لا تلجي
حتى أهذبه من حقبة الحرجِ
أحببت فيك قدوماً قبل موعده
وثغر وردٍ وقلباً غير ذي عوجِ
لكنٌ أكثرَ ما أحببتُ وقفتنا
بين القوارير - عند الوهم - واللججِ
رأيتُ عينيكِ قنديلين لحظتها
سارا بروحي حتى آخر الفُجَجِ
فقلتْ : ماذا رأت بالشمس ، تعبدها ؟
وليس للشمس غيرَ الدفء والوهجِ
حتى إذا هي من أنوارك اقتربتْ
لم تدنُ منك بمعشارٍ من الغنجِ
بلقيس ، قد أمنتْ إذْ آمنتْ سبأٌ
لكنَّ بغدادَ في منأىً عن الفرجِ
للآن ما نقلتْ حقّاً هداهدها
ظلتْ مكبلةً بالهامش اللزجِ
ماذا انتظرتِ ؟!
فكم أغرتكِ من سفنٍ
وبحرُ عينيكِ لم يهدأْ ولم يهجِ
لو ابتسمتِ بربع القلب ، ما ركبتْ
أوتار بغدادَ إلا لحنَ مبتهجِ
لكنها تحتفي بالعازفين أسىً ،
ومهبطٍ نال فيها شأن معترَجِ
نكرانَ عرشكِ ، لا تنكيره قصدوا
وطارئ العرش مرفوع على الهزجِ
ما أكثرَ الحزن يا بلقيس ، قد نهجت
فيه المساءات نهجاً غير منتهج
لا ترسلي المال ، أمتنا الخيول فما
معنى الهدايا التي جاءت على السرج
بل عانقيني اتكاءً فالمياه مضت
إذ ساق دجلة بين الضعف والعرج
لذاك لا تكشفي ساقيك .. لا بللٌ
فالنهر جفَّ لحدِّ الرملِ والرهجِ
لم يبق إلاك معنىً للجمال بها
بما نشرت على الدنيا من الأرج
ظلمت نفسكِ يا بلقيس حين حلوتِ
في ليالٍ ، لصبح غير منبلجِ
لكنّ أكثر حلوٍ منك آلمني
أن كنت أحلى بوجه القاتل السمجِ
أخذت من شجر الليمون فتنتَهُ
فكان أن ضيعتها غفلة الهمجِ
فجئتُ أرفعها غصناً وفاكهةً
بخافقٍ بنسيم الشوق ممتزجِ
ما زلت أرفعها حتى غدتْ مثلاً
للصاعدين خيالاً واهنَ الدرجِ
منه العفاريتُ قالت إن قدرتها
تعلو على الناس لا تعلو على المهجِ
تبقى لنا الطير ، يا بلقيس نهملها
فأمرها بين أهل العشق لم يرج
إن كانت الطير تهوى العيش في خرسٍ
ما عُدَّ منطقها شيئاً من الحجج
والطير خرساءُ يا بلقيس ، أفصحها
يبدي بموت بلادٍ قول منزعجِ
فقبليني أمام الطير .. ليس لها
ما يستحي منه ما فينا من الهوجِ
حزيران ٢٠١٩
تعليقات
إرسال تعليق