PNGHunt-com-2

أنسنة الطبيعة وقراء للأديب صبري يوسف في نص (حديث مع النهر)للشاعر القس جوزيف إيليا

أنسنة الطّبيعة
---

في ظلال هذا المعنى قام مشكورًا أديبنا الأستاذ صبري يوسف مشكورًا بقراءةٍ موفّقة لقصيدتي "حديثٌ مع النّهر" فلإبداعه الدّائم كلّ التّحيّة والثّناء ولحسن متابعتكم كل التّقدير والمودّة
وهاكم نصّ قراءته :
---
الشَّاعر المبدع القس جوزيف إيليّا يؤنسنُ الطَّبيعة عبر انبعاثِ حبقِ الشَّعرِ
صبر ي يوسف - ستوكهولم،
عندما أقرأ قصائدَ الشَّاعرِ جوزيف إيليَّا، تنفرشُ ديريك أمامي بسهولِ قمحِها وكرومِها، فتنعشُ قصائدُهُ خيوطَ الحنينِ، لما فيها مِنْ تجلّياتٍ متعانقةٍ مَعَ عوالمِ ديريكَ بكلِّ سهولِها وبراريها الفسيحةِ، وكأنَّ القصيدةَ عندَهُ منبثقةٌ مِنْ ذكرياتِ الماضي البعيدِ، متوِّجاً ما يموجُ في الذّاكرةِ مِنْ حبورِ الحنينِ إلى شهوةِ انبعاثِ الحرفِ. نتلمَّسُ في قصيدةِ "حديثٌ مَعَ النَّهرِ" حديثاً مَعَ أنسنةِ الطَّبيعةِ، معَ أصفى مرامي الحياةِ، مَعَ انبعاثِ حبقِ الشِّعرِ، مَعَ الإبداعِ الخلّاقِ، مَعَ جموحاتِ شاعرٍ مضمّخٍ بأسرارِ الجمالِ المتعانقةِ مَعَ رهافةِ الفراشاتِ، والأزاهيرِ، وتغاريدِ البلابلِ، وهبوبِ نسيمِ الصَّباحِ. تولدُ القصيدةُ عندَ الشَّاعرِ القس جوزيف إيليّا بطريقةٍ مفاجئةٍ غير متوقِّعةٍ مِنْ قِبلِهِ ولا مِنْ قِبلِ القرّاءِ والقارئاتِ، لأنَّ وهجَ الانبعاثِ عندَهُ ينسابُ مِنْ تدفُّقاتِ خيالٍ سيّالٍ مثلَ شلَّالِ مِنَ الفرحِ، مثلَ زخَّاتِ المطرِ الهاطلِ من شهوةِ السَّماءِ، مثلَ إشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ ربيعي مندَّى برحيقِ الأزاهيرِ، وهو في حالةٍ بهيجةٍ مَعَ كينونةِ الكونِ، لأنَّ طينةَ هذا الشَّاعرِ متشكِّلةٌ مِنْ ثقافةٍ موسوعيّةٍ وئاميّةٍ إنسانيّةٍ شاهقةٍ مثلَ جبالِ جودي المتربِّعةِ في رحابِ ذاكرتِهِ بكلِّ حبورٍ على مساحاتِ سهولِ القمحِ الممتدَّةِ مِنْ تخومِ قريتِهِ الوديعةِ "كهني مطربة" الكاظميّة، والممتدَّةِ على مساحاتِ رحابِ الاخضرارِ المتعانقةِ مَعَ نهرِ دجلة الّذي عانقَ هِلالاتِ الشِّعرِ منذُ أنْ كانَ الشّاعرُ طفلاً يسوحُ في ربوعِ قريتِهِ المكتنزةِ بالخيرِ، إلى أنْ شبَّ عَنِ الطَّوقِ وقدَّمَ أرقى ما لديهِ مِنْ عطاءاتٍ في ربوعِ ديريكَ على مدى سنواتٍ فسيحةٍ مِنْ خميلةِ العطاءِ، ثمَّ عبرَ البحارَ، حيثُ كانتِ القصيدةُ في الانتظارِ، فلَمْ يتوارَ النَّهرُ مِنْ فضاءاتِ خيالِهِ فتراءَى لَهُ مراراً على إيقاعِ دندناتِ بوحِ القصيدةِ وهوَ في أشدِّ الشَّوقِ إلى اخضرارِ القمحِ وأكوامِ الحنطةِ والنّوارجِ الّتي كانَتْ تدرسُ الخيراتِ المتوالدةَ مِنْ أرضٍ مباركةٍ ببركاتِ السَّماءِ، فيسطعُ حرفُهُ على أنغامِ قصائدَ موشومةٍ برتمِ جوقةٍ مبلَّلةٍ بأمواجِ نهرٍ مصفّى مِنْ خيراتِ الأرضِ منذُ أنْ تبرعمَ الإنسانُ على وجهِ الدّنيا!
حديثٌ مَعَ النّهرِ، حديثٌ عميقُ الغورِ مَعَ الذَّاتِ، مَعَ بهاءِ الوجودِ، مَعَ شهيقِ الحياةِ، مَعَ هاجسِ شاعرٍ ممهورٍ برحيقِ القَرنفلِ. يكتبُ الشّاعرُ الموشومُ بوهجِ المحبّةِ، شِعرَهُ من فضاءِ غربتِهِ الفسيحةِ في الحياةِ، مِنْ لُدْنِ الحلمِ الغافي فوقَ تبرِ الحياةِ، يتناغمُ حبرُهُ مَعَ زقزقاتِ العصافيرِ المبللَّةِ بنكهةِ التِّينِ، والجذلى فوقَ أزاهيرِ الخطميّةِ المزهوَّةِ فوقَ اخضرارِ المروجِ. شاعرٌ مكسوٌّ برحيقِ الدَّالياتِ، ومكتنزٌ بأشهى انبعاثِ الخيراتِ، يقفُ بكلِّ قيافتِهِ في متاهاتِ غربتِهِ، ولا يجدُ سوى القصيدة تلملمُ أوجاعَ السِّنينَ، فيفرشُ حبرَهُ فوقَ ربوعِ الذّكرياتِ، يتنزَّهُ في ربوعِ الغاباتِ حيثُ الطَّبيعةُ الألمانيّةُ الخلّابةُ، ويستقبلُهُ نهرٌ عذبٌ وسطَ بلدةِ "أوكسنفورت"، يوقظُ النّهرُ في أعماقِهِ ذكرياتِ الطُّفولةِ والشَّبابِ، فيذكِّرُهُ بدجلاهُ، فيشمخُ النَّهرُ في مخيالِهِ بكلِّ صفائِهِ، ويدلقُ حرفاً مضمّخاً بوهجِ الحنينِ، فتولدُ القصيدةُ محتبكةً بأشهى أسرارِ البوحِ، مُهدهداً منعرجاتِ العمرِ بكلِّ ما فيها مِنْ ابتهالاتٍ متناغمةٍ مَعَ انسيابيّةِ الموجِ فوقَ خصوبةِ الوديانِ وينابيعِ الخيرِ!
يخاطبُ الشّاعرَ النّهرَ كما يخاطبُ الإنسانَ، سارداً عليهِ مواعظَهُ ورؤاهُ المعجونةِ في خميرةِ الحياةِ، متسائلاً فيما إذا الأنهارُ أيضاً تحبُّ حكمةَ الحياةِ وأنغامَها الشَّجيَّةَ، شأنُها شأنُ البشرِ، وتمقُتُ هديرَ القنابلِ ونيرانِ الحروبِ، وتضعُ حدَّاً لموبقاتِ الشُّرورِ المتفاقمةِ فوقَ كاهلِ الإنسانِ المضرَّجِ بلونِ الأرضِ. مستعيداً أجملَ الأيامِ المخبوءَةِ في خميلةِ الذَّاكرةِ، مركِّزاً على بناءِ الأيّامِ القادمةِ على أصلبِ الصُّخورِ، بعيداً عَنْ سُفُنِ الرَّحيلِ ودروبِ العبورِ إلى ما وراءِ البحارِ، وتصنعُ أشهى لذائذِ المآكلِ، مكلِّلاً تيجانَ الأحبّةِ فوقَ أجملِ الضَّفائرِ المنسدلةِ فوقَ خدودِ القصائدِ، مهدِّئاً بالَ الأحبّةِ الَّذينَ تبعثروا فوقَ طينِ الأرضِ، كي يناموا مرتاحي البالِ، بعيداً عَنْ ضجرِ اللَّيالي المفخّخةِ بالسّأمِ والمللِ وتشظِّياتِ الأرقِ.
يستمعُ النّهرُ إلى وعظاتِهِ برهافةٍ عاليةٍ، وسرعانَ ما يغوصُ في محرابِ العشقِ، زارعاً في وجنةِ الحنينِ قُبَلاً معبّقةً بنكهةِ الياسمينِ، مشيراً إلى أنَّ النّهرَ لا يطيقُ نقوشَ الأحزانِ فوقَ تكويرةِ الأحجارِ، شوقاً إلى هدهداتِ اللَّيلِ الحنونِ، كي تنعشَ الفؤادَ مِنْ خمرةِ الحبِّ، واقفاً في وجهِ مَنْ يراودُهُ القفزَ في قيعانِ الحفرِ، كي ينتشلَهم مِنْ هولِ السُّقوطِ في براثنِ الغدرِ.
ويتابعُ موعظتَهُ المفعمةَ بحبقِ السَّنابلِ، مركّزاً على ألّا يعيشَ على أنغامِ الحظوظِ، وأنْ يكونَ بعيداً عَنْ رُدهاتِ الإغواءِ والانجرارِ إلى منحدراتِ السُّقوطِ في فخاخِ الغدرِ، على أنْ يتسلّحَ بما هو خيرٌ لهُ ولمَنْ يهفو إلى عذوبةِ محيّاهُ، كي يبكحَ زئيرَ الضَّواري، ويزيحَ أسوارَ القبحِ، وأنْ لا يستسلمَ للفاسدينَ كي يبقى صافياً صفاءَ الجمالِ الموشّحِ في نِعَمِ البصيرةِ.
يقفُ الشَّاعرُ مزهوَّاً بما يموجُ في آفاقِ الخيالِ، قائلاً: أراكَ ترهفُ السَّمْعَ بكلِّ انتباهٍ لما أتلوهُ عليكَ مِنْ حكمةٍ رشيدةٍ ومواعظَ هادفةٍ في سلَّمِ الحياةِ، ولكنّكَ رغمَ كُلِّ ما لديكَ مِنْ صفاءٍ وعطاءٍ، ما تزالُ في حالةٍ سأمٍ، يسربِلُكَ المللُ في بعضِ الأحيانِ. لا أريدُكَ أنْ تتأثَّرَ بأقوالِهم المريرةِ، ورؤاهم المعفَّرةِ بدكنةِ اللَّيلِ. كُنْ شامخاً شموخَ الحرفِ المتعانقِ مَعَ زرقةِ السَّماءِ، فما أَدْلَى بِهِ هؤلاءُ المارقينَ سيذهبُ أدراجَ الرِّيحِ، وتشبَّثْ بكلِّ ما هوَ أصيلٌ ويحملُ في ثناياه رحيقَ الحياةِ، فكلُّ مَنْ يستمعُ إلى مواعظي ولا يولي أهميةً لما أقولُ، سرعانَ ما ينهارُ في أولى خطواتِ العبورِ، وحدَهُ الحكيمُ مَنْ يصغي بكلِّ رهافةٍ واهتمامٍ، ويشمخُ عالياً مثلَ أشجارِ السِّنديانِ وجبالِ جودي الشَّامخةِ شموخَ القصيدةِ المتعانقةِ مَعَ حكمةِ الحياةِ!

ستوكهولم: 21. 6. 2023
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
***

وفيما يلي قصيدة الشّاعر القس جوزيف إيليّا

حديثٌ مع النّهر
جلستُ البارحة ظهرًا بقرب النّهر الجميل الّذي يخترق وسط بلدة أوكسنفورت الألمانيّة الّتي أقيم فيها وحادثته قائلًا :

وللنّهرِ    ردّدْتُ   وعظًا   وقلتُ :                                 أيا  نهرُ  هل  أنتَ  مثْلَ  البشرْ
تحبُّ    سَماعَ    المواعظِ    لحنًا                                 وليسَ    قنابلَ    تُنهي  الخطرْ
وتُرجِعُ    أمسًا    جميلًا    ونحوَ                                 غدٍ    يُبتنى    لا  تقودُ   السّفَرْ
وتُطعِمُ   حلوى    وتصبِغُ   شَعرًا                                  ولا تتركُ  الذّهنَ   يهوى  السّهرْ
وتعشقُها     قُبلةً     فوقَ    خدٍّ                                  وتكرهُها    نقشةً    في   الحَجرْ
وتطلبُها    في    الّليالي    نبيذًا                                  وترفضُها    وثبةً    مِنْ    حُفَرْ
تلاعبُكَ   النَّرْدَ  وسْطَ   المقاهي                                  وفيكَ      تكمِّمُ     ليثًا     زأرْ
وترفعُ    جدرانَ    وهمٍ    لديكَ                                   وتُفسِدُ    فيكَ   نقاءَ  البصرْ ؟
مواعظُ  تصغي لها  في  انبهارٍ                                   قليلًا     وثمَّ    يسودُ   الضّجرْ                               أيا  نهرُ لا  لا  تكن  مثْلَهم ما                                    أتَوهُ     لهُ    ليسَ   يبقى  أثَرْ
فمَنْ ظلَّ يصغي  وأهملَ  فعلًا                                    كبا      وبرملِ   رَداهُ   انطمَرْ

القس جوزيف إيليا
٢١ / ٦ / ٢٠٢٣
Sabri Yousef

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي