يهوذا : القس المحترم جوزيف إيليا
يَهُوْذا
---
" ٤٧وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. ٤٨فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:"يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟" الإنجيل المقدَّس لو٢٢
---
هناكَ
على صدرِ أرضٍ
شكتْ مِنْ جنونِ براكينِها
وحماقةِ سكّانِها
ونما هائجًا سُقْمُها
ورأتْ بحرَها ضجِرًا مِنْ نشيدِ المياهِ
وكيفَ يدَ الموتِ قسا ضربُها
وبَنَتْ للّذينَ أحبُّوا لها ما تحبُّ
وتبغي قبورا .
وفي زمنٍ مرَّ صعبًا
بلا قمرٍ
وبلا مطرٍ
وبلا نغمٍ
عابسَ الوجهِ ظلَّ يقاومُ عزْفَ النّسيمِ
وينهَرُ تفّاحةً
ويجفِّفُ رابيةً
ويغلِّقُ بابَ الحكاياتِ
جاءَ يَهُوْذا
ليرقصَ رقصتَهُ
ولِينقُشَ في حائطِ الدّهرِ صورتَهُ قائلًا :
- إنّني أنا
لستُ كغيري
أنامُ طويلًا بُعيدَ عشاءٍ ثقيلٍ
وإنّي عنيدٌ شديدٌ وصعبُ المِراسِ
بقيتُ أغازلُ نفْسيْ
وأرفضُ مدحَ سوايَ
وأهربُ مِنْ لِبْسِ ثوبٍ عتيقٍ يُجرِّحُ لحميْ
ويُخفي تضاريسَ لوني
ولمْ تكُ أمّي كأمِّ رفاقي
تدلِّلُني
وترتِّبُ شَعريْ أصابعُها
بل سقتْني حليبَ ذئابٍ
فلمْ أستطِعْ أنْ أكونَ خروفًا وديعًا مطيعًا
ولا خبزَ قمحٍ لجوعى
ولا عازفًا طبلةً للحزانى
ولا شاعرًا ماهرًا حاذقًا
أَطرَبتْ حينَ غنّتْ قوافيهِ حُوْرا
وكنتُ غريبًا عنِ النّاسِ
أبكي وحيدًا
وأشدو وحيدًا
وأبني مقاصيرَ حُلْمي وحيدًا
ووحدي على واقعي ثرتُ منتفضًا غاضبًا
لا أقولُ مراثيَّ فيهِ
إذا مالَ حائطُهُ وارتمى كالقتيلِ على الرّملِ
وانطفأتْ روحُهُ فيهِ يومًا
وما كنتُ أرقصُ في بهجةٍ
إنْ على وجهِهِ طبعَتْ قُبلةً نجمةُ الصّبحِ
أو رشّهُ الوردُ بالعطرِ رشًّا
ومنهُ السّماءُ دنَتْ
لتُرتِّبَ عنهُ كلامًا
وتوقِدَ وقتَ الصّلاةِ عليهِ بَخُورا
وكنتُ أحبُّ النّساءَ الجميلاتِ جدًّا
وأنظرُ سرًّا إليهنَّ حينَ إلى البئرِ يخرُجنَ مثْلَ الفراشاتِ في الصّبحِ أو في الغروبِ
وأنتظرُ الّليلَ
حتّى يجيءَ جميلَ الحضورِ بهيًّا
لأدخلَ بيتيْ القديمَ العقيمَ الّذي يشتهي رقصةَ امرأةٍ
وضجيجَ الخُطى والكلامِ الإباحيِّ جهرًا وسرًّا
وأشربُ شيئًا مِنَ الخمرِ
منتعِشًا بتلاوةِ شِعرِ النّبيِّ سليمانَ عن شُولَميثَ
وعن لوعةِ العشقِ والأغنياتِ
وعن لذّةِ الرّعيِ فوقَ الرّوابي
وكم كنتُ حُرًّا
أمتِّعُ نفْسيْ بكأسٍ مِنَ الوهمِ
ثمَّ أنامُ
وأغفو بعمقٍ
وأنسى تواريخَ حقليْ الخصيبِ الّذي باتَ بُوْرا
وكنتُ غريبَ الميولِ
أحبُّ رنينَ الدّنانيرِ ينعشُ سمْعيْ
ويطردُ وحشةَ روحي
ويرفعُني للفضاءِ القصيِّ البعيدِ لأقطفَ مِنْ جوفِهِ نجمةً لا تشيخُ
وتينًا شهيًّا لذيذًا يحوّلُ مُرّيَ حلوًا
وأنسجَ مِنْ خيطِ أنوارِهِ ثوبَ فوزي ووثْبي
وأجلسَ فوقَ مقاعدِ عزّي أميرًا
ليَ الغيمُ يسكبُ شايًا
وأبنيْ بأجوائِهِ ليْ قلاعًا ودُوْرا
وأصبحتُ بعد التهامي رغيفَ الملذّاتِ أشقى بجوعي إلى ما يهدِّئُ فورةَ ذاتيْ
ويطفئُ فيها لهيبَ السّؤالِ
ويُسكِتُ زمجرةَ الّلغزِ والبحثِ في كتبِ القدماءِ عنِ الرّبِّ
آهٍ
لكَمْ أرتجي جلسةً معهُ بعدَها لا أجوعُ
ولا ينتهي زمني
وأرى ما لهُ أبتغي
وأفيضُ هدوءًا
وفهمًا
ونُورا .
- يَهُوْذا
تعالَ
إليَّ تقدَّمْ
إلى أيِّ كهفٍ غدوتَ تسيرُ كسيحًا جريحًا
وخيلُكَ عرجاءُ
والرّيحُ أفعًى وراءَكَ تجري وتلدغُ رِجلَكَ
أينَ ستهربُ؟
هيّا
تعالَ لأرضي
وعِشْ سالمًا ظافرًا هانئًا
ناعمَ البالِ في بهوِ قصري
وودِّعْ بلا ندمٍ ماضيًا متعِبًا
وانسَ فيهِ قصورا
تقدَّمْ
تعالَ
بهذا النّداءِ المحِبِّ
عرفتُ يسوعَ بنَ مريمَ
شخصًا عجيبًا غريبًا فريدًا
يوبِّخُ هِيْرودسًا
ويهذِّبُ فكْرًا
ويشفي سقيمًا عليلًا
ويُنهِضُ موتى
ويُشبِعُ جوعى
ويسقي عطاشًا
ويرفضُ رجمَ الزّواني
ويُسكِتُ بحرًا غضوبًا
ويصنعُ خمرًا بعرسِ صديقٍ
وكانَ يرى في الصّليبِ خلاصًا ومجدًا
وحربًا ضروسًا لقهرِ الصّعابِ
وظلَّ قويًّا
يهشِّمُ ظلمًا
وينهي شرورا
وأيضًا يقولُ يَهُوْذا :
- وإنّي سمعتُ النّداءَ
وقمتُ إليهِ
بطيئًا أسيرُ
وأسألُ :
مَنْ ذا
ومِنْ أينَ جاءَ
متى
كيفَ؟
أصمتُ
جهلي يزيدُ
وذهني يثورُ عليَّ
أقولُ :
إلى أينَ يمضي بيَ الآنَ
هذا المُدجَّجُ بالطُّهرِ والفهمِ؟
ما مِنْ مُجيبٍ
فينمو حنيني إلى شهوتي للحياةِ بكلِّ تفاصيلِها صارخًا :
لا أريدُ عذابَ الصّليبِ
وإنّي لأكرهُ موتيْ وكهفيْ كثيرًا
لهذا ودِدتُ إلى جُزُرٍ
لا يعيقُ الغبارُ خُطاها العُبورا
فدعْني
لأزدادَ مالًا
وجاهًا وعشقًا لِما كنتُ أهواهُ قَبْلُ
وهذا الصّليبُ الفظيعُ المخيفُ ليمضِ إليهِ صديقيْ المسيحُ
ويَبْنِ عوالمَهُ فوق رملِ الخيالِ
ولا ضَيْرَ في أنْ أقبِّلَهُ قُبلةَ الغدرِ والمكرِ بعدَ العشاءِ الأخيرِ النّقيِّ
ولستُ أبالي بنظرتِهِ
أو بما سوفَ يأتي
ثلاثونَ مِنْ فضّةٍ تجعلُ الصّعبَ سهلًا
وما ساءَ حلوًا
هو اختارَ مِيتتَهُ
فلْيمُتْ
ولْيدَعْني لدنيا مَلاهٍ
أسجِّلُ فيها حضورا.
يَهُوْذا الشّقيُّ التّعيسُ
مِنَ الموتِ فرَّ إلى الموتِ
أنهكَهُ الحزنُ واليأسُ
لمْ ينتصِرْ
شدَّ حبلًا على عنْقِهِ
وقضى يائسًا محبَطًا باكيًا
والّذي في الصّليبِ تعذَّبَ
عاشَ
وسادَ بقلبِ شعوبٍ
أحبّتْ صنيعَ يديهِ
وخمرَ دواليهِ
والوعظَ مِنْ شفتيهِ
وبدَّلَ ما جاءَ منهُ عصورا
ويبقى السّؤالُ القديمُ الجديدُ :
- يَهُوْذا
لماذا أتيتَ؟
لماذا
وأنتَ تريدُ اختراقَ الحياةِ
هدمتَ إليها جُسُورا؟
---
القس جوزيف إيليا
١٣ / ٧ / ٢٠٢٣
تعليقات
إرسال تعليق