PNGHunt-com-2

قراءة للناقد أبوبكرحيحي في نص هذيان للشاعرة سعاد بازي المرابط

هذيان 
نص نال حظوة القراءة والغوص لسبر أغواره والتقاط نفائسه من الدرر
شكرا للناقد البارع "  أبوبكر حيحي " على الحيز المتسع من  الإهتمام
القراءة النقدية موجودة مع القصيدة بعنوان : " دعوة للتحليق الإبداعي
عبر أجنحة الخيال المتفرد "

هذيان

اِرفعِ الجدران
السيلُ لا يعترف بالإنحناء
اهذِ معي
فالهذيان منتهى الإحساس
دعنا نتقافز كالغزلان
دعنا نتوقف قليلا عن تسلقِ
جبل المنطق الشاهق
دعنا نتخيل لوهلة أننا نَكِرات
نبحث عن صفة ننتحلها
أو لقب فضفاض يَجُرنا
لمسلسل ادعاءات كاذبة
لنصبح قتلة متسلسلين

اِهذِ معي
فالهذيان أن نقول ما نشاء
وقتما وأينما نشاء
دعنا نقوم بدور السلوقي
نطارد الفكرة كأنها الطريدة

اِهذِ معي
فأنا أرى  ألف أحمق مقابل عقل راجح
أهتف معهم يحيا الأمل
يحيا العدل
يحيا الحب والسفر 
أجوع
فأتوق لقلم أجرح به بياض الصفحات
تنزف المعاني 
وتُراق دماءُ التأويل

اِهذِ معي
لعلنا نتغلب على الحزن الذي يتقن
دَس الأسى في أكبادنا
نتلوى من الألم إلى أن نرقص
ونرقص
إلى أن نرى السقف يدوووووور
تنعدم الزوايا من الجدران وتدووووور
شكرا للأسى الذي تمادى
إلى أنِ احترفنا الرقص حد التعب

رقص على حبل البلاغة
المغص مستمر
وإنجاب المزيد من القصائد وارد
لا وقت أتطيب فيه للرشيد
أو أشنف أسماعه
البلابل غادرت عش حنجرتي احتجاجا
لم أترك له سوى يد ثالثة
قد  أصافحه بها

سعاد بازي
" قطوف عالية "

"هذيان" لسعاد بازي المرابط:
دعوة للتحليق الإبداعي عبر أجنحة الخيال المتفرد

جاء عنوان قصيدة سعاد بازي المرابط كمصدر على وزن فعلان الذي يفيد من حيث المعنى الحركة والاضطراب. قد يمثل "هذيان" هروبا من الواقع العادي عبر الغوص في متاهات الخيال، أو بالعكس مواجهة مع مشاعر معقدة ومربكة قد تصل حد الجنون. باستخدام كلمة مرتبطة باللاعقلانية، قد تسعى الشاعرة لتحدي الأعراف وتجاوز حدود الفكر التقليدي مما يجعل العنوان محملا بدرجة عالية من الجرأة والتحدي. والشاعرة تدعو القارئ أيضا إلى الولوج معها عالما شعريا تنتفي فيه الحدود بين العقلاني واللاعقلاني.
تبتدئ قصيدة سعاد بازي المرابط بخطاب موجه إلى المتلقي:
"ارفع الجدران
السيلُ لا يعترف بالإنحناء "
تدعو الشاعرة لحماية الذات وتحصينها مما يخلق فصلا بين الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي. ثم في السطر الثاني توضح لنا الشاعرة السبب الكامن وراء النصيحة: فالسيل كقوة جارفة لا يمكن إيقافه ليبقى الحل بالتالي هو رفع الجدران. فهل يمكن للجدران أن تحد من القوة التدميرية للسيل؟ وإذا ما تجاوزنا المستوى الأول من القراءة يمكننا أن نرى أن السطرين الأولين ينطويان على صراع داخلي: الرغبة في الحفاظ على الاستقرار الداخلي وحماية الذات وفق المنطق والعقلانية في مواجهة قوى خارجية تتجاوز المنطق والعقلانية ولا يمكن السيطرة عليها مما يخلق جوا من الارتباك قد يوصل إلى الهذيان. والهذيان هو ما تدعو الشاعرة القارئ إليه:
"اهذِ معي
فالهذيان منتهى الإحساس"
ويمكن تفسير هذه الدعوة إلى الهذيان على أنها دعوة لاقتسام تجربة مكثفة، عبر الانغماس في حالة من الهذيان رفقة الشاعرة. وتأكيدا لتفرد هذا الإحساس وأهميته تقول الشاعرة: "فالهذيان منتهى الإحساس" أي أن الهذيان، ولربما الوهم بالتالي، له قوة عظمى لا يمكن الوصول إليها في حالة الوعي العادية. ثم تعبر الشاعرة عبر البيت التاليي: 
"دعنا نتقافز كالغزلان"

عن فكرة الحرية ورفض المنطق التقليدي. وتشكل الطبيعة مصدر إلهام في شعر سعاد بازي المرابط حيث تحضر فيه رموز لها ارتباط بالأرض والسماء وكذلك الحيوانات. والمقارنة هنا بين قفزات الشاعرة والقارئ من جهة وقفزات الأيائل من جهة أخرى تثير صورة من الخفة والحرية لأن الأيائل غالبا ما ترتبط بحيوية وجمال الطبيعة. عبر هذه المقارنة تدعونا الشاعرة إلى تبني سلوك أكثر عفوية وغريزية يساهم في تحرير أنفسنا من قيود التفكير العقلاني والانتقال إلى حالة ذهنية أكثر حرية وإبداعا. واختيار الغزلان ليس اعتباطيا لأن الغزلان في قفزاتها لا تتخذ خطا مستقيما بل تتحرك بشكل عشوائي، وفي اختيار المشبه به تكمن قوة هذا التشبيه. وللتوقف عن استعمال المنطق التقليدي تحثنا الشاعرة:

"دعنا نتوقف قليلا عن تسلقِ
جبل المنطق الشاهق"
مشككة عبر ذلك في جدوى أنماط التفكير التقليدية وداعية للانفتاح على احتمالات أكثر راحة وبهجة. وفي هذين السطرين إقرار ضمني بقوة المنطق لكن الحالة الشعورية التي تعيشها الشاعرة تدفعها نحو الاستغناء عنه. ويتعزز الهذيان عندما تقوم الشاعرة بالاقتراح التالي:
"دعنا نتخيل لوهلة أننا نَكِرات
نبحث عن صفة ننتحلها

فهي تدعو القارئ للانسلاخ عن هويته الحالية "دعنا نتخيل لوهلة أننا نكرات" ليتقمص شخصيات أو هويات غير محددة حتى يتسنى له تجاوز الواقع عبر تجاوز هويته الحالية واستكشاف هوية مغايرة من صنع الشاعرة والقارئ: "نبحث عن صفة ننتحلها".  والشاعرة تؤكد هنا على أهمية التعريف الذاتي من خلال سمات مختارة، هي من تشكل تصورنا لأنفسنا عكس ما يرسمه لنا الآخرون والمجتمع في آخر المطاف من هوية. ويستمر مسلسل التعريف الذاتي عندما تضيف الشاعرة:
"أو لقب فضفاض يَجُرنا
لمسلسل ادعاءات كاذبة"

لتصف اللقب على أنه شيء غير محدد وغير مؤكد قد يؤدي إلى سلسلة من التحريفات لأن التسمية تحد من حرية الخيال وتمنحه هوية جامدة وأبدية قد لا تعبر بالضرورة عن العمق الحقيقي للشخص. وترى الشاعرة أن هذه الهوية المتخيلة الجديدة قد تقودنا:
"لنصبح قتلة متسلسلين"
وهي نتيجة قد تبدو صادمة لكنها في الحقيقة مجرد تعبير متطرف يراد به تحدي الأعراف والأدوار المحددة مسبقا والقيود التي يفرضها المجتمع عبر الانغماس في تجارب مكثفة وغير عادية ترفض القيم السائدة والسلوكيات المقبولة اجتماعياً وتتبنى قيما مغايرة وجذرية. وقد يراد بالقتل اجتثاث ما علق بالذات من ترسبات المنطق وقيوده. وتواصل الشاعرة:

"اِهذِ معي "
"فالهذيان أن نقول ما نشاء"
وعبر تكرار عبارة "اهذ معي" تبرز الشاعرة من جهة أهمية التبادل والتواصل في العملية الإبداعية عبر تعبير حر وغير مقيد. فالهذيان يسمح بالتحرر الكامل من الأعراف والموانع والقيود التي يفرضها المجتمع. وتضيف الشاعرة بعدا زمنيا ومكانيا لفكرة حرية التعبير: "وقتما وأينما نشاء"
وهذا ما تسمح به فعلا حالة الهذيان التي تلغي الحدود والقيود مكانا وزمانا. وتشجع الشاعرة القراء على لعب دور السلوقي، وهو سلالة من الكلاب المعروفة بسرعتها وفاعليتها عند الصيد:
"دعنا نقوم بدور السلوقي
نطارد الفكرة كأنها الطريدة"

من خلال تقمص دور السلوقي، تقترح الشاعرة علينا ضرورة المثابرة بشغف سعيا وراء تحقيق أحلامنا وبلوغ أهدافنا. وهي تشبه هنا الفكرة بالطريدة التي يجب ملاحقتها بعزم وإصرار قصد اصطيادها. أليست متابعة أفكارنا قصد تحقيقها هو السبيل الأنجع لتجاوز القيود التقليدية وتحقيق الإبداع الأصيل؟ ألا يقودنا هذا الإصرار إلى نوع من الهذيان يشكل قوة دفع قوية على طريق تحقيق الإبداع المتميز؟ وتستمر دوعة الشاعرة لنا للهذيان:
"اِهذِ معي
فأنا أرى ألف أحمق مقابل عقل راجح
أهتف معهم يحيا الأمل
يحيا العدل
يحيا الحب والسفر"

والشاعرة تهتف مع ألف أحمق من أجل أن يحيا الأمل والعدل، والحب والسفر وهي مثل عليا تلتزم بها وتدعو القارئ إلى مشاركتها إياها. وتضع الشاعرة نفسها كجزء من كتلة الحمقى، ضدا على العقل الحكيم لأنه ليس بهذيان، لكنها في الواقع تظهر حكمتها من خلال دعمها للقيم الأساسية عبر التصفيق لكذا مثل عليا قد   تعتبر مثالية والجهر بها نوع من الهذيان. ولا تستثني الشاعرة من قصيدتها هذيان الكتابة:
"أجوع
فأتوق لقلم أجرح به بياض الصفحات
تنزف المعاني
وتُراق دماءُ التأويل"
تقارن الشاعرة القلم بأداة حادة لتؤكد قوة وتأثير فعل الكتابة. يشير التوق إلى قلم يجرح الصفحات الفارغة إلى الرغبة الشديدة في الإبداع عبر ترك أثر عميق وعاطفي من خلال الكلمات التي تنزف معانيها، أثر يصل حد الهذيان. كما أن دماء التأويل تراق وهذا يؤكد القوة الإبداعية للتأويل وقدرته على إحياء النصوص عبر الكشف عن عمقها وثرائها. وفي الهذيان علاج للنفس من الألم:

"اهذِ معي
لعلنا نتغلب على الحزن الذي يتقن
دَس الأسى في أكبادنا"

وتجسد الشاعرة الحزن لكي يتسنى لها أن تنسب له القدرة على التسلل ليتغلغل بأعماق الناس. و التغلب على الحزن يمر عبر الهذيان والتعبير الإبداعي يمكن أن يكون وسيلة لتجاوزه مصداقا لقول فريديريك نيتشه" لقد اخترعنا الفن كي لا نموت من الحقيقة". والحقيقة هنا هي الألم والفن هو الرقص:
" نتلوى من الألم إلى أن نرقص
ونرقص"
وتعبر الشاعرة هنا عن فكرة تحويل الألم إلى شكل من أشكال التعبير الفني ، وتجاوز المعاناة عبر فن الرقص. نحن لسنا بعيدين هنا عن "الحال" الذي نصل إليه عبر نشوة الرقص مما يؤكد فكرة أن الهذيان عبر التعبير الإبداعي يمكن أن يكون وسيلة لإيجاد توازن بين الألم والفرح ولعل هذا ما تؤكده السطور الموالية التي توضح أن الرقص يستمر:
"إلى أن نرى السقف يدوووووور
تنعدم الزوايا من الجدران وتدووووور"
هكذا يبلغ الرقص قمة الانتشاء أو الهذيان عندما يصبح غامرا ومثيرا لدرجة نتوهم معها بأن السقف يدور وبالتالي أصبح الواقع الساكن متحركا. بل إن الشاعرة مع انتشاء الرقص تعطينا صورة مشوهة للمكان الذي فقد زوايا جدرانه التي أصبحت هي الأخرى تدور. كل هذا يفقد المكان معالمه المعهودة ويدخلنا حالة من الهذيان تصبح معها الحدود الفاصلة بين الواقع والوهم غير واضحة. والمعاناة هنا تستحق الشكر باعتبارها مصدر إلهام:
"شكرا للأسى الذي تمادى
إلى أنِ احترفنا الرقص حد التعب
رقص على حبل البلاغة"

واحتراف الرقص ليس بالأمر الهين ما دام ممارسة تسبب الإرهاق لأنها تتطلب جهدا بدنيا وعاطفيا. وبالفعل يرمز الحبل هنا إلى توازن غير مستقر يتطلب الحفاظ عليه جهدا وتحكما ودراية مستمرين. كما أن إسناد البلاغة للحبل تجعل من الرقص ممارسة فنية ليست بالسهلة لأن البلاغة تعني إتقان وحسن التعبير. وعبر هذه الأسطر الثلاثة تؤكد الشاعرة أيضًا على الجانب الإبداعي والتعبيري للهذيان ممثلا بالرقص الذي يصبح كفن مصدرًا للشفاء من الأسى. رغم ذلك فالألم يستمر لأن الرقص خفف من حدته لكن لم يعمل على استئصاله:
"المغص مستمر
وإنجاب المزيد من القصائد وارد"
ويرتبط المغص عادةً بألم في البطن مما يسبب عدم الراحة ويخلق نوعا من الاضطراب. ومع استمرار المغص يستمر الهذيان الإبداعي الذي قد يولد القصائد. هذا يعني أن الهذيان الإبداعي يتغذى على الألم والقلق. ترى من تخاطب الشاعرة بقصائدها؟ هل تخاطب قارئا به مس من هذيان أم قارئا من أهل الحكمة والمنطق؟ تجيبنا الشاعرة:
"لا وقت أتطيب فيه للرشيد
أو أشنف أسماعه"
فهي لا تسعى لإرضاء أو الامتثال لتوقعات أولئك الذين يمجدون المنطق والعقلانية الصارمة ما دام تعبيرها الشعري يسبح في أحضان الهذيان والخيال. وتبرر اختيارها عندما تقول:
"البلابل غادرت عش حنجرتي احتجاجا"

لتصف فقدان القدرة على الغناء أو التحدث بطريقة تقليدية. وتمثل البلابل كرمز للجمال والموسيقى قدرات الشاعرة الصوتية والتعبيرية التي رحلت عن عش حلقها تمردا ضد التوقعات الاجتماعية أو كل ما يمنع التعبير الحر والصادق وخاصة الأمل والعدل والحب والسفر. لهذا فإن الشاعرة ستحد بشكل مقصود من تواصلها أو تفاعلها مع الرشيد مما يمكن اعتباره ازدراء للنهج العقلاني في التعامل مع الشعر:
لم أترك له سوى يد ثالثة
قد أصافحه بها "

قد يعني استخدام عبارة "يد ثالثة" أن الشاعرة تولي اهتماما جد محدود لقارئ يعتمد النهج الرشيد أو العقلاني. وبما أن اليد الثالثة لن تكون موجودة إلا بشكل غير طبيعي لأننا عادة ما نملك يدين فقط، يمكن اعتبار المصافحة مجرد مجاملة سطحية، ولكن دون أية مشاركة عاطفية حقيقية. لكن استعمال الفعل المضارع مسبوقا ب"قد" يعني التقليل من احتمال المصافحة ويعزز استبعادها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي