PNGHunt-com-2

قراءة الناقد هادي المياح في قصة /اللجوء إلى المجهول / للأديب غازي أحمد ابو طبيخ الموسوي

قراءة في "اللجوء إلى المجهول" قصة للاستاذ غازي الموسوي
        
            بقلم هادي المياح

اللجوء إلى المجهول

ركزت عينيها الذابلتين على الأفق الأيمن.. وكانت ترى بوضوح بقايا  وهج النجمة الأخيرة.. خطواتها مثقلة جدا ،وشارع النهر يمتد والنهر ذاته يمتد والمسافة باتت اطول من المعتاد بكثير..
-ليتني أصل قبل  الفجر ولو بقليل..
تلفتت يمينا وشمالا  فلم تر بشرا ما،وهذا وإن كان مخيفا ، لكنه منحها بعض الهدأة المؤقته ..
وقفت برهة ثم التفتت الى الخلف من حيث اتت ،فلم تر ما يقلق ولا  ما يريح.. قالت في نفسها..
- اليس النهر هو ما تطلبين؟.. هذا هو النهر ،فلم تلتفتين الى الوراء يا جهينه?! 
وتقدمت بنفس التثاقل الذي بدأت به ،والميقات لا يخترقه الا اصوات طيور النورس المتململة توا، وصوت وجيب قلبها الذي تخيلت انها تسمعه وهو يجري في عروق بدنها المتعب..
ولكنها فوجئت بصياد يهيئ شباكه  على ضفة النهر  يمين الشارع.. فراحت تدعو ان لا يرفع راسه اليها،ولكنه رفع راسه اليها وتمعن في ملامحها المثيرة للانتباه ،اسمعها تمتمات استحسان واستغراب ..
-ماذا تفعلين ايتها الجميلة هنا في مثل هذا الوقت?!
..نفض مابيديه من الشباك واندفع وراءها مرتقيا حافة النهر ببراعة المعتاد..
عرفت  غايته  فلكزت سيقانها مسرعة هي الأخرى..
ومازالت بقايا وهج كوكب الزهرة تلتمع  بشحوب  في يمين الأفق..
لكنها لمحت صيادا ثانيا يكاد ينتهي من ترتيب شباكه ..
احست بارتياح نسبي..
-إذن سيرجع هذا الصياد الذي ورائي بالتأكيد..
ولم تجرأ على الالتفات لترى هل هو قريب منها ام بعيد عنها، فقد اربكها أن  الثاني قد نفض  ما بيده كذلك  وهو يردد بصوت مسموع..
- عجبا ! أسمكة ذهبية خارج النهر؟  والقى ما في يديه وقفز  بنفس طريقة سابقه ثم تبعها مسرعا جدا،حد أن يسبق الأول  بقصدية واضحة..
وكانت في كل مرة تسرع وتكثر من التلفت المرتعب  بٱنتظار حل ما ،حتى وصل عدد من تبعها من الصيادين سبعة او ثمانية او تسعة  ،في الوقت الذي بانت فيه خيوط الفجر الأولى تلوح في الأفق..
قالت في نفسها..
-يا لكم من ذئاب متوحشة
،ألا يستحي أحدكم من الآخر.. ?!
ثم تنبهت  مرددة..
-ومن يقول أن أحدهم يعلم بغاية  الآخر?!
-كيف يتسنى لي الان الوصول الى النهر إذن?!
-هل اصرخ بصوت عال..?!
في نهاية هذا (المونولوج)الذي بات مضطرمًا بين اضلاعها التي لا تنفك  تصعد وتهبط مثل أضلاع  غزالة طريدة..
سمعت صوت محرك سيارة مسرعة فالتفتت بعجالة ومدت يدها طالبة الصعود.. أوقف السائق سيارته مطلقا لعجلاتها حرية الزعيق بطريقة مزقت السكون  المطبق ،فتحت الباب بقلق وارتباك ،واستلقت على المقعد الأمامي المجاور للسائق..
أطلقت السيارة عجلاتها للريح بسرعة لافتة..
بينما وقف الصيادون جميعا في لحظة ذهول واحدة..
نظر كل منهم في وجه الآخر بٱستغراب أحمق.. ثم تحركوا نسقا بخطوات ثقيلة جدا عائدين الى شباكهم الملقاة على حافة النهر بصمت كئيب.. وكان الشارع يمتد والنهر يمتد ،والشمس قد اعلنت  عن حضورها بكامل اضوائها الكاشفة..
قالوا ..
-أن القصابين كانوا في غاية الفرح..
وقالوا..
-إن سوق السمك لم يفتح  ابوابه في ذلك اليوم..
هكذا قالوا.. والعهدة على الراوي.. ???!!!
                                                                

القراءة
——-—
كتبت القصة بلغة مكثفة وحبكة رئيسية واحدة مختزلة. محملة بشيء من الغموض ما يستدعي القارئ التمعن والنظر في سيمياء النص وحركة سير السرد بعمق .
ثمة شخصية محورية واحدة هي من تحرك ما حولها من شخوص وتثير من خلال حركتها، جدلية حول مقصدية أو مغزى الفكرة.
وفي محاولةِ تتبعٍ منضبطة للسرد من قبل الراوي بإختياره ضمير الغائب وتوكيله ساردا عليما بكل الأمور، قدم لنا الحبكة واصفا كل ما تقع عليه عيناه، من خلال إدراكه لكل ما يدور في ذهن الشخصية من ردود أفعال وما يكنّه ازاءها الشخوص من اندفاعات أو تهويمات ربما غرائزية، كانت وما زالت تعيش كظاهرة في المجتمع منذ قدم العصور.
وبحسب ذلك ،كان توجس الفتاة واضحا ومشروعا في تلفتها ناحية اليمين أو الخلف، كلما رأت أحد الصيادين يظهر لها من جرف النهر، مما يثير فيها القلق والريبة: هل تستمر في السير نحو الأمام أم تعود ؟ وهل تبقى تنتظر اللجوء القسري الى المجهول؟
لابد من الاشارة الى ان القاص استخدم الفعل تلفتت او التفتت حسب دلالة الفعل بالرغم من تكرار حالة النظر دون أن يرمي الأمر على عواهنه. فنراه  قال تلفّتت ولم يقل التفتت ذلك لأنه اراد في الأول وقعه الكبير في الايحاء الى جسامة الموقف.
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ تساؤل حول وجود الفتاة الذي تربع صدارة القصة وبدايتها وهي تسير بتثاقل باتجاه النهر، وهل أنها تنوي عبور النهر أم أنها تريد الانتحار غرقا فيه! وبعودة سريعة إلى وصف وتجسيد حالة الفتاة:
(ركزت عينيها الذابلتين على الأفق الأيمن)
وصف الفتاة بعينيها الذابلتين وخطاها الثقيلة جدا . هو اشارة تعبها و خوفها وارتباكها. كذلك حوارها  النفسي المقتضب:
(- اليس النهر هو ما تطلبين.. هذا هو النهر ،فلم تلتفّتين الى الوراء يا جهينه)?! 
اشارة اخرى وتأكيد  ما انتوت القيام به . فإن النهر يوحي بلا عودة الفتاة.
ولابد من الكشف هنا أن القارئ يجد نفسه في مفترق طريقين كلاهما يطابقان خروج الفتاة وهروبها من القرية أو المدينة في الظلام والوصول إلى النهر قبل أن ينجلي الفجر .
خروج الصيادين وتركهم عدة صيدهم و شباكهم  وعددهم الكبير ، كله يوحي الى توجيه النظر إلى المجتمع ككل. هذا المجتمع الذي يركض وراء جوعه سواء كان جوعه الجنسي أو الجوع المتعلق بتغذيته جسمه أو بدنه .
ويكفي التصريح بذلك على لسان الشخصية:
- عجبا ! سمكة ذهبية خارج النهر؟
-يا لكم من ذئاب متوحشة!
كل هذا جعل الفتاة تفقد بوصلتها وتقف مذهولة دون تحقيق مرامها الدفين..
ومن هنا علينا الاستفادة من هذه الاشارة للبحث عن الرابط في عنوان النص (اللجوء الى المجهول) فيما إذا كان هدفا أساسيًا في ذهن القاص منذ الشروع في كتابة قصته، ام  انه استراتيجية مفروضة لاحقا على الشخصية؟
التركيز على المونولوج لوحده تعبير عن حالة الاضطراب الذي لحق بالفتاة بشكل خاص والمرأة بشكل عام ، فهي مهما قاومت،لا تستطيع أن تحرر نفسها من القيود التي فرضها عليها المجتمع. وهذا ما تلمح له نهاية القصة . بظهور سيارة مارة وانتشالها من الموقف الذي لا يقل حرجا من مغامرتها بالخروج ليلا.  وهو بقدر ما هو تلميح له الدور في التمهيد لنهاية القصة وإنقاذ الشخصية. وعودة الصيادين الى شباكهم الملقاة على حافة النهر بصمت كئيب كما عبّر عنه القاص بحنكة للاستدلال على خيبتهم وخسارتهم.
النهاية تجسدت كأثر بما جاءت به الأحداث الأخيرة وكانت مطابقة لسياقها ولم تكن مفاجئة وهذه ايضا  من حسنات القص في القصة .
جمع القاص في مخطط هيكل القصة، بين القصة التقليدية في التتابع الزمني والتطابق بين زمن القص وزمن الحكاية.  والقصة المجددة في عدم وجود بداية واضحة ولا حتى نهاية واضحة. النهاية استنتاجية من خلال وحدة الأثر الذي تتركه القصة في ذهن القارئ باستثناء الجملة الاخيرة التي لم أجدها متساوقة مع مسار القص. في جنبة تأويلي للاحداث والحبكة ، وهي حتما لم تكتب جزافا في اللحظة التي استضاء وهجها وعصف بذهن الكاتب .
(هكذا قالوا.. والعهدة على الراوي.. ???!!!)

الفكرة في القصة،مدهشة جدا. والمعالجة الفنية غاية في الدقة، خاصة في نص مكثف وغير مطروق. تعرضت حبكته الى  (محاكمة) المرأة والقيود المفروضة من المجتمع ، في عينة مجتمعية واضحة المعالم المكانية والزمانية  تصلح كنموذج يتسع ليشمل رقعة جغرافية كبيرة .
تحية كبيرة استاذ غازي الموسوي وشكرا لك  امتاعنا  بهذا النص. بورك قلمك الإبداعي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي