PNGHunt-com-2

تقديم الأستاذ عبد الله الشبلي لديوان (جراحات المطر) للشاعر السوري فرحان الخطيب

تشرفت بتقديم ديوان الصديق والشاعر السوري الكبير فرحان الخطيب جراحات المطر.

حينما يغدو الشّعرُ مطراً
            يُستنبت العطرُ به استشفاءً لجراحاتٍ لا تندمل

                                                        تقديم الناقد : عبدالله علي شبلي

الجرح جراحات تتعدد وتتناسل تناسل حروف الشعر، الذي لن يمل العرب من ركوبه ما داموا أحياء، عطاء ووفاء لعهود خلت، كان فيها القريض ديوانهم الأوحد فخراً وتميزا ،لا يركبون غيره ولا يدينون لما هو دونه.
الجراحات منها ما يتصل بحرف تم التّنكّر له، وساءت حاله ومُسخت سياقاته .
الجرح يُفرد ويُثنى ،ويُحيل على حُبٍّ لا يُشبهُ حبَّ غيره " فرادة التعاطي وتفرّد الديدن "
الجرح يُثنّى ويُجمع ،وقد يركب تاء التأنيت  في منهج الشاعر السوري " فرحان الخطيب " . وهذا الركوب ليس انتقاصا أبداً ،ولكنه امتداد لفلسفة شعريّة خاصة آمن بها ودافع عنها ضمن مشروعهِ الشّعري الطويل ،وهو بسطٌ لحُصر قريضية خاصة وسمت الرجل وصارت رديفة له في كل قضية شعرية يعالجها، وفي كل محفلٍ شعري يشد رحاله إليه سواء كان ذلك في دوحة العروبة أو خارجها على امتداد فضاءات التلقي الشعري خارج ما هو عربي أو إسلامي.
فما خُلق الشعر أبداً لنشر التّسلية وحدها إمعاناً في النسيان ونشر البهجة ، تلك التي كانت في أعراف البعض بعضاً منه بل هو التزامٌ وقضيةُ هَمٍّ تُحمل لتُميز وتُفردن الشاعر. ومن ثم يصير منهجُ شاعرنا في ديوانه هذا الموسوم ب " جراحاتُ المطر " ضمن مقصديّة الرجل إعمالاً في  في نكء جراحاتِ كل عابر حرف، وبسط غربته ،وإمعانا في سفك دمه على ايقاعات رقص القريض، ودندنات روي التفاعيل.
وحين تنتهي الجراحات فتكاً وإعمالا في ضمائر الشعر الحي، لن نستحضر إلا المطر لها إطفاءً واستنباتاً ،ليُزهرَ الشفاءُ بعد استفحال الأدواء.
إنه مطرُ غَسْلٍ يَستمطرهُ فرحان الخطيب ،من اسمه ورسمهِ وكذا من حرفِ شِعره ، لينسخَ به جراحات عمّرت طويلاً في سويداء القلب، قبل أن تعشّش في ثنايا حروف قريضهٍ، تستثقلها وتقيّد قافيتها لتمنع بسطها وانبساطها.
وما الشعر إن لم يُجدِ في نكء جرحِ قارئ متلهّفٍ ؟. ثم يحضر لزاماً ليداوي جراحَ دماملهِ ، ويُعمّر غياهبَ ضياعهِ ، لِيُحيلَ فجوات ظلامهِ المترامي نوراً ساطعاً .
حضور هذا هو للشعر المُراد غاية فضلى : سؤالا يدفع للمعرفة وجواباً حاضراً في متنه يبني ويُعلي ويعلم ويرسخ مبدأ متعاليا.
قد يكونُ الحبُّ رِفدَ عطاء لا ينضب لبلوغ التّسامي ، والهروب من طحْنِ الحرب ورحى التّدمير.
حينها لا يساوي القريضُ شيئاً ، ذلك أنّهُ لا يغدو إلا كلاماً عادياً ينسج كغيرهِ حكايا الحبّ والوجد ، باهتة خالية من كل إثارة أو إنارة  ،غير متمنطقة بنجيع الإستطيقا ،ولا نائلة من التّجربة الجَمالية المتفردة إلا رسماً عَفا أو خطاً إنكفأ إلى غير رجعة ،دون طريقٍ هادٍ ولا سبيلٍ شافٍ .
إنما القريض هو الذي يدلك على ديدن الشاعر – الانسان في بعده الكوني الانطولوجي . حينها ، وحينها فقط ، لا يصلح إلا الشعر وحده ترياقا لتحقيق هذه البغية ونيل المراد .
إنه صَنعته وحياكته بلا مواربة ، وصناعته نسيجا متضاما. إنضاج لروي الحرف يطبخ على جُميراتٍ دمشقيةٍ هادئة. فيَحق لك أن تتلقاهُ، كما شئتَ ،بيتاً بيتاً فتعيد لوكَهُ مترنّماً مدنْدِناً. أو لتعبَّهُ رشفةً واحدة، إن شئت ،على وعي بقداسةِ قضيّتهِ، فتحفظه قصيدةً قصيدة مخالفة لا مشاكلة فيها.

منذ عهد بعيد ونحن نقرأ الشعر ونقرضُهُ، لكنّ القليلَ منا من يقيم له وزنَه، ويمنحه قداسته المتفردة في نشأتهِ وعمارتهِ. قليل من أهل الشّعر من يمنحه فرادته ،ويقيم صياغته تِبْراً خالصاً تُفاخر به العربية وتُحاجِج وتُناكف.
إنه السياق صنيع المعنى ،ذاك الذي جعل للشاعر " فرحان الخطيب " قضية يدافع عنها ،فيجعلها نُصْبَ عينيه : تحتل فيها المدينة دمشق حاضرة - غائبة مكان المَعين غير ذي نضب .ذاك الذي يُسوّيكَ على هواهُ ويُشكّلك على سجيّته، ثم يزرع فيكَ العروبةَ والإنسانَ والمبدأ ، يصنع فيك غزلاً لا يشبهُ غَزلَ الغير – المخالف. غزل العربية المتمنعة الغرّاء الفرعاء ،تلك المتعالية سيدة القوم. إنّهُ غزلٌ لا مُعادل له في التّوصيف والتّرصيف إلا لغة العرب – متفردة الضّاد.
تلك التي أوتيت جمال التّأصّلِ في جمالياتِ حرفها الذي لا يطاوع إلا أهله. عربية من المحال أن تعطيك بعضها إلا إذا أعطيتها كلك.
إن " الحبّ " و " الإنسان " و " الذات " ليست إلا بعضاً من تيمات حاضرة يستهدف من خلالها صاحب ديوان " جراحات المطر " بسط فرادته الشعرية ليجعلها في خدمة المتلقي ،بسيطاً كانَ يقرأ الكلماتِ بنبضِ حروفها، أو حاذقا يستكشف الخبايا ،ويجسُّ ،بدربةٍ وحنكةٍ ،ما ورائيات الخطاب في امتداده اللامتناهي وتناسله المُنتِج .
وأنت أيّها المتلقي لهذا الديوان " جراحات المطر " رغم كل ما قِيل وما قد يُقال...  فلن يكون تأويلك الحرف تفسيراً وتأصيلاً وقت تلقيه، بعيداً عن فروضِك المسبقَة كما يؤكدُ على ذلك "جادامير" . ولن تكونَ ،إذ ذاك،  إلا سائك معنى وصائدَه ، حرفاً رَتّبته على مقاسك الخاص ديدنا يظل وفياً لما قاله عبد القاهر الجرجاني حينما وجد المعاني ملقاة على قارعة الطريق. قليل منا من يحسن ترصيفها. كما هو أقلّ منه من يُفرش لها فُرشا تعرف قيمة الحرف في عُلاه وحلاوته ،قبل أن يُجَاور أشباهه وأقرانه، ومن جاوزوه شأناً ،أو دانت له رقابهم إجباراً وإكراهاً، في تسامي المعنى وبلوغه مرام السكر والهُيام ،لِيُسفر السِفر شعراً تحليةً وتخلية.

                                                  الناقد عبدالله علي شبلي
                                          زاكورة /المغرب  ١ / ١ / ٢٠٢٤ م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي