أعلام الأزهر الشريف الإمام عبد الحليم محمود والإمام حسن العطار والإمام حسونة النواوي والإمام محمد عبده:الأديبة الإعلامية تغريد بو مرعي والباحث المصري د. محمد فتحي عبد العال
من أعلام الأزهر الشريف
الإمام الأكبر عبد الحليم محمود
إمام جليل وبارز عاصر زمن العظماء وتأثر بهم وتأثروا به وأعاد للجامع الأزهر هيبته وريادته في العالم العربي والإسلامي.
ولد الإمام عبد الحليم محمود في قرية السلام بمحافظة الشرقية .حفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر وحصل على العالمية عام ١٩٣٢م وسافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية على نفقته الخاصة.
اجتمع له عدة مناصب هامة أسهم في نهضتها ورقيها والارتفاع بها فحينما تولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية عمل على انتقاء التشكيل الفني للمجمع من خيرة علماء الأزهر وتزويده بمكتبة ضخمة عمل على تكوينها عبر علاقاته المتميزة بكبار الباحثين والمؤلفين والعلماء في شتى الأقطار العربية والإسلامية وتم بلورة جهود المجمع الذي حل محل جماعة كبار العلماء في شكل مؤتمرات تعقد دوريا تناقش القضايا المختلفة وتعطي قرارات وتوصيات قيمة.
وحينما تولى وزارة الأوقاف سعى وبقوة لعودة أملاك الوزارة من الأوقاف التي كان يديرها الإصلاح الزراعي والأوقاف المغتصبة والمهملة مما مكنه من تجديد العديد من الجوامع التاريخية مثل جامعي سادات قريش في بلبيس الأول في إفريقيا وجامع عمرو بن العاص وعمل على نهضة المساجد وتزويدها بفصول للتقوية لطلاب الإعدادية والثانوية مما جعل المساجد في عهده قبلة للدارسين والمقبلين على العلم الشرعي ..
وحينما تولى منصب شيخ الأزهر دعا لإنشاء المعاهد الدينية بالمدن والقرى والتف الناس حول دعوته بالتبرعات حتى تكللت جهوده بالنجاح كما اعترض على قرار الرئيس المصري محمد أنور السادات الذي ينتقص من صلاحيات شيخ الأزهر ويسندها لوزير الأوقاف مما يهدد استقلالية الأزهر وتقدم باستقالته ولزم منزله وسط محاولاته لإثنائه عن قراره وعدم إحراج الرئيس إذ أحدثت الاستقالة صدى عالمي لكن الشيخ صمم على موقفه ولم يتزحزح عنه حتى عدل الرئيس السادات عن القرار وأكد على رفعة مقام شيخ الأزهر فهو الإمام الأكبر وصاحب الرأي والمشورة وله الرئاسة والتوجيه في كل ما يختص بالشئون الدينية والعلوم والدراسات الإسلامية ليس هذا فحسب بل وساوى القرار بين شيخ الأزهر والوزير من حيث المرتب والمعاش ويكون ترتيبه الأسبق قبل الوزراء مباشرة ..هنا عاد شيخ الأزهر الإمام عبد الحليم محمود لمهامه مرة أخرى بكل استقلالية وإباء ..
كما تصدى الإمام الجليل بحزم لمشروع الأحوال الشخصية الذي كانت تنتوي الدكتورة عائشة راتب إصداره وينتقص من حقوق الزوج بما يخالف تعاليم الشريعة فوأد المشروع في مهده ..ولم يكتف الشيخ بذلك بل ضغط في اتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية لتكون بديلا عن القوانين الوضعية في مصر .
لم يكن الشيخ عبد الحليم محمود بمفازاة عن قضايا مجتمعه وأمته العربية والإسلامية فتصدى لدعوات الشيوعية في مصر وآمن بأن مصر والعرب قادرون على تخطي أزمات نكسة عام 1967م كما بشر الرئيس السادات بنصر أكتوبر 1973م المجيد عبر رؤية رآها وكان من المخلصين والداعمين للتصوف الإسلامي في شكله الصحيح منهجا وإلتزاما في حياته الشخصية فكان زاهدا منقطعا للعبادة ورفض إقصاء الشريعة الإسلامية في تونس كما حاول احتواء الأزمة المغربية الجزائرية حول الصحراء الغربية وكذلك الحرب الأهلية في لبنان وطاف العالم الغربي معضدا للجاليات المسلمة هناك ومقويا لها وداعيا للإسلام وتعاليمه السمحة .
ومن عظيم ما يروى عنه أنه باع ميراثه لشقيقه من أجل أن يشتري بيتا لأبنائه وبينما هو في طريق عودته ومعه المال وجد طالب علم أسرته في عوز شديد ووالده طريح الفراش فأعطى ماله كله له عن طيب خاطر تفريجا لهمه وحينما عاد الإمام لبيته بشرهم ببيت في الجنة .
توفي الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود بعد أداء العمرة وقد أدى رسالته كاملة في 17 أكتوبر 1978م تاركا سيرة ثرية حافلة وعلما غزيرا نافعا فألف ما يقرب من ستين كتابا من أشهرها "منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع "و"تربية الناشىء المسلم" و"القرآن والنبي" و"القرآن في شهر القرآن " علاوة على مجموعة الفتاوى وكتبه عن الصوفية.
الشيخ حسن العطار
عالم ديني سبق عصره إذ أيقن أنه مع ارتياد بساط العلوم الحديثة يستعيد الدين رونقه وتزول عنه الجهالات ويعود له دوره البناء في قيادة حضارة إسلامية مقبلة .إنه الشيخ حسن بن محمد بن محمود العطار والذي بدأ حياته معاونا لأبيه في دكان عطارة ..ثم ما لبث أن استشعر والده حبه للعلم وشغفه بالتعلم فشجعه على أن يقصد الأزهر الشريف محراب العلم الشرعي وقد كان .
واستطاع في زمن وجيز أن يحيط بتلابيب علوم الشرع ومنها انطلق في رحاب العلوم الأخرى كالطب والفلك والرياضيات ينهل منها ولكنها في ذاك الزمان لم تكن من التقدم بمكان لتخلف مصر في عهد المماليك والعثمانيين عن ركب الحضارة ومتابعة العلوم الحديثة لذا كان قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨م ومعها علمائها فرصة ذهبية لحسن العطار ومن كانوا على شاكلته من المشايخ المغرمين بالعلوم الحديثة ولا يبلغون لها مآلها بسبب عقبة اللغة والبعد عن الوطن .
في البداية فر حسن العطار مع من فروا من المشايخ في أعقاب إنكسار المماليك وقضى في الصعيد ثمانية عشرة شهرا ثم عاد إلى القاهرة وبدأ يعاون بعض علماء الحملة الفرنسية في تعلم اللغة العربية وفي نفس ذات الوقت ينهل من معارفهم في الفلك والهندسة كما اشتغل بالتدريس في الأزهر ومع اندحار الحملة الفرنسية عام ١٨٠١ م وعودة العثمانيين مجددا لحكم مصر خشي من أن يناله الاتهام بموالاة الفرنسيين فبدأ في رحلات مكوكية بين بلاد الشام والحجاز والروم وتركيا منذ عام ١٨٠٢م إلى أن استقر به المقام في ألبانيا في بلد تسمى "اشكودره" من بلاد الأرناؤط وتزوج هناك وعمل بالتدريس لمدة خمس سنوات .
وفي عام ١٨١٥ م قرر العودة مجددا لمصر وكانت الأمور قد استقرت لصالح محمد علي باشا الكبير الذي أصبح مطلق اليد في شئون مصر بعد قضائه على المماليك ومشايخ الأزهر وكان طبيعيا أن تتلاقى أهداف الوالي محمد علي باشا الكبير مع تطلعات وأحلام الشيخ المستنير ..
فبدأ الشيخ يطبع العامة الرافضين للعلوم الحديثة بأن الرهان على المستقبل يستلزم وعيا وإلماما بالعلوم الحديثة والإصلاح الديني فتدخل لتسهيل مهمة كلوت بك الفرنسي في علوم التشريح بمدرسة الطب بأبي زعبل وقد كاد الطلاب يفتكون به ظنا أن في التشريح اعتداء على قدسية الجسد البشري وتمثيلا به فأصدار فتواه بإباحة ذلك في سبيل دفع المرض عن المسلمين مما كان له عظيم الأثر في طمأنة القلوب المتوجسة من العلوم الحديثة التي يضطلع بها الأجانب في مصر .
كما استغل قربه من محمد علي باشا في تأهيل المشايخ الواعدين ودعمهم مثل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي أوصى بسفره إماما للبعثة العلمية لباريس وأوصاه بتعلم اللغة الفرنسية وأن يكتب مشاهداته هناك والتي جمعها في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
وكان لثقة محمد علي باشا به علاوة على روعة أسلوبه وامتلاكه لأدوات الإقناع الدافع الأكبر لجعله أول محرر بصحيفة الوقائع المصرية التي انشأها محمد علي باشا عام ١٨٢٨م لتكون الجريدة الرسمية بالبلاد ولسان حالها .
عين الشيخ حسن العطار شيخا للأزهر عام ١٨٣٠م وظل بهذا المنصب لمدة خمس سنوات حتى وفاته ١٨٣٥م وقد ترك عدة مؤلفات في ضروب شتى من المعارف كالشعر بأنواعه والنحو والإعراب والمنطق والطب والتشريح والصيدلة لازال بعضها مخطوطا للأسف ولم يعنى أحد بتحقيقها .
الشيخ حسونة النواوي
عالم ديني انتصر للعلوم الحديثة وحارب الخرافات والأباطيل التي شاعت بين العامة فوقع بين مطرقة انتصار العقل وسندان إرضاء العامة ونيل رضا علماء التقليد ..إنه الشيخ حسونة بن عبد الله النواوي نسبة لقرية "نواي " مسقط رأسه التابعة لملوي بأسيوط .
اجتمع للشيخ حسونة النواوي أماكن شتى لتدريس الفقه ما بين الأزهر ومدرسة الإدارة ( الحقوق) ودار العلوم ومسجد محمد علي باشا بالقلعة مما مهد لبزوغ نجمه بين العلماء
حينما اختير الشيخ حسونة كشيخ للأزهر عام 1895م بأمر الخديو عباس حلمي الثاني ثارت ثائرة أقرانه من العلماء إذ رأوا في توجهاته نحو تعليم العلوم الحديثة كتقويم البلدان والجبر والهندسة والحساب إقحام وتغليب لعلوم الإفرنج المستحدثة بالأزهر لتحل محل العلوم الشرعية به وأنه في ذلك يخدم توجهات ومصالح المحتل الإنجليزي في مصر الساعي لفصل الدين عن الدولة وتأكيد مدينتها .
في 28 يناير 1895 م اتخذ الشيخ عدة إجراءات رادعة من شأنها الارتفاع بالوعي الشعبي وتهذيب سلوكه وأخلاقياته فمنع زفة الفار التي كانت تخترق الشوارع ووسطها الرجال والنساء والأطفال يهللون ويصرخون في خلاعة ومجون كما منع البازات والطبول وذبح الثيران بالأضرحة والمساجد ومنع الأذكار المخالفة للكتاب والسنة ووجه بضرورة معاقبة مدعي الجذب والولاية المحتالين على البسطاء من العامة ومنع المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان ومنع قراءة القرآن الكريم على قارعة الطريق من قبل المتسولين ومنع النساء المسلمات من الرقص بالمحافل العامة والخاصة وكذلك أرباب الطرق الذين يأكلون النار ويضربون أجسادهم بالحديد .
وبعد مضي عام واحد تبني قانون إصلاح الأزهر برعاية الشيخ محمد عبده والذي اشترطت مواده سن الخامسة عشر للالتحاق بالأزهر وإجادة القراءة والكتابة وحفظ نصف القرآن الكريم على الأقل ومنع تدريس كتب الحواشي وقصرها على المتقدمين دراسيا كما وضع نظاما محددا للامتحانات على مرحلتين يتحدد وفقها من يلتحق بوظائف الوعظ والإمامة والخطابة بالمساجد ومن يحق له الاستمرار للحصول على شهادة العالمية والتدريس بالأزهر الشريف.
جاء هذا القانون تزامنا مع حادث جلل وقع بالجامع الأزهر ففي يونيو عام 1896م وكان وباء الكوليرا يفتك بمصر حدثت إصابة برواق الشوام لأحد الطلبة جراء شربه ماء ملوث مما استلزم نقل الطالب المصاب إلى مستشفى الحجر الصحي تنفيذا لقرارات الحكومة الرامية وقتئذ لاحتواء الوباء ومنع انتشاره ..لكن نظرا لقصور الطلبة وعدم تحريهم لأهمية التعليمات الطبية الوقائية وضرورة اتباعها رفضوا تماما نقله إلى الحجر الصحي وطلبوا نقله بدلا من ذلك إلى بيت زميل لهم وكانت لديهم قناعة من حالات سابقة أن من يدخل مستشفيات الحجر الصحي يموت ولا يعود !!.
ومع تدخل البوليس المصري لإجلاء المصاب بالقوة وكانت قيادته إنجليزية وتصاعد أعمال الشغب إلى حد إصابة محمد ماهر باشا محافظ القاهرة بحجر أدمى وجهه وكاد يفقد عينه لولا ستر الله لجأ الإنجليز إلى ضبط الأوضاع باقتحام الجامع الأزهر وإطلاق النار مما أدى إلى مقتل أحد الطلبة والقبض على المشاغبين ومن ثم معاقبتهم وإغلاق رواق الشوام ..
هذه المشاهد كان يمكن تلافيها لو تدخل الشيخ النواوي أو وجه أحدا من قياداته لرأب الصدع منذ البداية ونزع فتيل الأزمة بين الطلبة والبوليس خاصة أن المسألة لم يكن فيها أي انتقاص من مكانة السلطة الدينية في البلاد ممثلا في الأزهر بقدر ما كانت لأغراض صحية تحتاج إلى تضافر الجهود ونشر الوعي الصحي في البلاد وهي مهمة تحتاج رجال الدين جنبا إلى جنب الممارسين الصحيين . وفي هذه الحادثة أجد نفسي انضم إلى صفوف من لاموه عليها خاصة وقد أفتى بعدم جواز منع الحج في فترات الوباء ..
بوفاة المفتي الشيخ محمد المهدي العباسي أسند للشيخ حسونة النواوي منصب الإفتاء بجانب مشيخة الأزهر واستمر هذا الوضع حتى تقدم مجلس شورى القوانين بمشروع لإصلاح المحاكم الشرعية عبر انتداب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية لمشاركة قضاة المحكمة الشرعية أحكامهم وثارت ثائرة الشيخ حسونة النواوي واتخذ موقفا أكثر حزما وصرامة في رفضه واحتج على مناقشة مصطفى فهمي باشا ناظر النظار له في الأمر وتم رفع المسألة للخديو عباس حلمي الثاني فحاول الخديو إقناعه بقبول التعديلات وتغيير ما يراه مخالفا للشرع فيها لكن الشيخ أصر على الرفض لأن المحكمة الشرعية العليا تقوم مقام المفتي وشرط تولي المفتي مفقود في قضاة الاستئناف ودفع الشيخ ثمن معارضته غاليا فتم عزله عن رئاسة الأزهر والإفتاء عام 1899م وتعيين ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي محله في مشيخة الأزهر والشيخ محمد عبده المستشار بالاستئناف الأهلي محله في الإفتاء .ولزم الشيخ داره وارتفعت نظرة العامة والخاصة تجاهه وتبدلت واجتمعوا على مدحه والثناء على موقفه الشجاع وبعد سنوات عاد لمنصبه شيخا للأزهر عام 1907م واستمر في إصلاح المؤسسة وتطوير مناهجها الدراسية، وصدر القانون الجديد في سنة 1326 هـ/1908 م، حيث قسمت العلوم الدراسية إلى ثلاثة أقسام وثلاث مراحل تمنح في نهايتها شهادات مختلفة. كما أضاف القانون الإصلاحي عددًا من العلوم الجديدة بجانب تلك المدرسة بالأزهر، مما أدى إلى إنقاذ ثروة من المخطوطات النادرة وتأسيس المكتبة الأزهرية العامرية، ثم لم يلبث أن استقال مع تراجع الأحوال في الأزهر عام 1909م وعين عضوا دائما بمجلس شوري القوانين وتوفي عام 1924م ومن أشهر مؤلفاته كتاب "سلم المسترشدين في أحكام الفقه والدين" الذي قررته وزارة المعارف على المدارس كافة
الإمام محمد عبده
من المشايخ البارزين الذين كان لهم دورًا كبيرًا ومؤثرًا في مسيرة الإصلاح الديني بعد عقود من الجمود الفكري .
إنه الشيخ محمد عبده ابن قرية محلة نصر بالبحيرة لأب جده من التركمان وأم مصرية من قبيلة بني عدي العربية ..وكعادة أبناء القرى يطمح آباؤهم في إلحاقهم بالتعليم الشرعي طمعا في المنزلة والمكانة المستقبلية وعلى هذا المنوال ألحق صاحبنا بالجامع الأحمدي ( السيد البدوي ) ، لكن سرعان ما ضاق ذرعًا بصعوبة المناهج التي كانت تعتمد على الحفظ والتلقين للمتون، واستظهار الشروح دون فهم أو إعمال عقل أو تدبّر، فترك الدراسة لكن أحد أخوال والده ويدعى الشيخ درويش خضر كان له أبلغ الأثر في عودته مرة أخرى للدراسة إذ استطاع أن يشرح له في سلاسة ما استعصى عليه فهمه من متون وأن يجعله قريبًا من فكرة الإسلام المحورية ودعوته الأساسية في التوحيد الخالص ونبذ كل ما ينال من جوهر هذه العقيدة من بدع وخرافات ..
التحق محمد عبده بالجامع الأزهر عام ١٨٦٦م وحصل على شهادة العالمية عام ١٨٧٧م .
بدأ منهجه الإصلاحي يتخذ شكلًا أكثر وضوحًا وتأثيرًا بعد ملازمته للشيخ جمال الدين الأفغاني، والذي أحدث ثورة فكرية وعلمية في مصر في كافة المجالات، ومنها الإصلاح الديني والسياسي وعلى الرغم مما أعلنه الأفغاني من معارضة صريحة لنظام الخديوي إسماعيل ومسؤوليته عن أزمة الديون في مصر، وترحيبه بالتغيير القادم مع الخديو توفيق الذي كان رفيقه في جماعة الماسونية، ولكن الأخير لم يحفظ له هذه البشارات الحسنة بل أسرع بإخراجه ونفيه من البلاد لأنه من المفسدين في الأرض !!..
كان جمال الدين الأفغاني سببًا في تحول محمد عبده من الصوفية إلى الفلسفة، ودافعاً له إلى الإصلاح، لكنهما اختلفا في الأسلوب والوسيلة ومازال حديثهما ونقاشهما عن الإصلاح يثير الإعجاب والجدل معًا.
الرجل الثاني في حياة الشيخ محمد عبده هو الشيخ حسن الطويل والذي كان له باع كبير في الفلسفة والرياضيات والسياسة ..
في عهد وزارة رياض باشا ذات الميول الأوروبية اشترك محمد عبده في تحرير مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية بالوقائع المصرية الصحيفة الأقدم في مصر والمعبرة عن لسان حال الحكومة المصرية منذ عهد محمد علي باشا الكبير ..
ومع انطلاق شرارات الثورة العرابية وتمرد عناصر الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي باشا ضد الخديو توفيق، أبدى الشيخ محمد عبده موقفًا متذبذبًا منها ما بين إقدام وتراجع، لكنه وفي النهاية حسم موقفه بالانضمام في صفوفها ودفع ثمن ذلك باهظًا مثل غيره بأن خسر مكانته لدى أولي الأمر والنهي بعد هزيمة عرابي والقضاء على ثورته عام ١٨٨٢م، فتم القبض عليه واعتقاله بشكل مهين ثم نفيه إلى بيروت ومنها سافر إلى باريس عام ١٨٨٤م للقاء الشيخ جمال الدين الأفغاني فأصدرا معًا صحيفة العروة الوثقى ومن ثم جمعية سرية حملت نفس الاسم عام ١٨٨٥م..في بيروت عمل بالمدرسة السلطانية كما تزوج بعد رحيل زوجته الأولى ..وبمساعي كبيرة بذلتها الأميرة نازلي فاضل سليلة أسرة محمد علي باشا وصاحبة أكبر صالون ثقافي في مصر وبمساعدة سعد زغلول باشا، حصل الشيخ محمد عبده على عفو من الخديو توفيق وسمح له بالعودة لمصر مجددًا شريطة عدم العمل بالسياسة، وتمتع بتقدير اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وإشادته..
في مصر انقلب الشيخ محمد عبده على الثورة العرابية ووضعها في قالب المطالب الفئوية التي يتحمل أحمد عرابي باشا مسؤوليتها لغيرته من حظوة العناصر الشركسية بالجيش، فضلًا عن مسؤوليته عن السقوط المدّي لهذه الثورة ونتائجها الكارثية في إضاعة استقلال مصر .
استعاد الشيخ بريقه الوظيفي في عهد توفيق باشا بعد عودته الى مصر عام ١٨٨٩م، فعُين قاضيًا بمحكمة بنها فالزقازيق فعابدين ثم مستشار في محكمة الاستئناف عام 1891م.
وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عُين في منصب مفتي الديار المصرية، ولأول مرة يستقل منصب الإفتاء عن مشيخة الأزهر وكان للشيخ محمد عبده مجموعة إفتاءات جدلية كان لها صدى كبيرًا وواسعًا في مصر، منها تحليله التصوير والنحت و فوائد الأموال المودعة في مصلحة البريد، وهي الفتوى التي غلب فيها الشيخ مذهبه المعروف في تقرير المصلحة المجتمعية فيما يذهب البعض لنفي هذه الفتوى وإنكارها كليا .كما أكد الشيخ محمد عبده أنه لا وجود للجنسية في الإسلام، وهو مصطلح استحدثه الأوروبيين على غرار العصبيات لدى العرب الجاهليين القدامى، فلا امتياز بين مسلم ومسلم بدعوى الجنسية والبلد الذي يقطنه المسلم من بلاد المسلمين هو بلده .
وعلى الرغم من حالة الهدوء التي انتابت حياة الشيخ في هذه الآونة من الاستقرار المهني والوظيفي المشوب بالحذر، لكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين الخديو عباس حلمي الثاني رأس السلطة في البلاد وذلك لاشتراط الشيخ أن يدفع الخديو عشرين ألفًا لصالح استبدال أرض من الأوقاف بأخرى، مما أغضب الخديو وبدأت الصحف تشن هجومًا عنيفًا وساخرًا ضد الشيخ محمد عبده، والذي استدرج بحسن نية إلى مزيدًا من التلاسن والهجوم المضاد ، وصل لحد اتهام محمد علي باشا جد الخديو بالاستيلاء على أوقاف الجامع الأزهر وتخريب أخلاقيات الناس وقتل ملكة الشجاعة والمرؤوة في نفوسهم مستأسدًا بالجيش وبالأجانب وقوة الكرباج.. مما وسع من هوة الخلاف بين الطرفين وجعل من المحال إذابتها .
استقال الشيخ محمد عبده مضطرًا عام ١٩٠٥م واشتد به المرض حتى توفي في نفس العام .ومن كتبه :رسالة التوحيد، كتاب الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية(رد به على إرنست رينان سنة 1902م)،
تحقيق وشرح «البصائر القصيرية للطوسي»، تقرير إصلاح المحاكم الشرعية سنة 1899م، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب
العروة الوثقى مع معلمه جمال الدين الأفغاني.
وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نعتبر الإمام محمد عبده هو التجسيد الحي للضمير الديني المتمرد على جمود التراث المتطلع للعقلانية المعتدلة وتحكيمها في وزن الأمور وإعادة تقديم الإسلام بأسلوب عصري جذاب
. كل هذا اجتمع مع نفس إنسانية لا تخلو من قلق وتردد بحكم التحديات التي عاصرها والتقلبات السياسية التي سيطرت على الحياة في مصر بداية من عصر محمد علي باشا وتقليمه لأظافر العلماء بالنفي والإبعاد والحد من نفوذهم مرورا بعصر إسماعيل والتراجع الكبير لدور مصر مع ثقل الديون ثم من بعد ذلك الاحتلال البريطاني الذي حاول تغيير وجه الحياة في مصر بشكل جذري .لذا تبقى قرارات الإمام وآرائه والتي انقسم حولها العلماء والمؤرخون رهنا بزمنه وقدراته واجتهاداته اتفقنا أو اختلفنا حولها إلا أنها لا تخلو في مجملها من محاولات نبيلة للإصلاح الديني وإخراجه من بؤرة المدارس التقليدية والجمود في الاجتهاد إلى مساحات أكثر سعة في التفكير البناء ...
استاذة تغريد بو مرعي كاتبة،إعلامية ومترجمة لبنانية.
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري .
تعليقات
إرسال تعليق