PNGHunt-com-2

الصهبي وبنجر ومابينهما:رؤية الدكتوررمضان الحضري وقصيدة نهج النهج للشاعر عباس الصهبي

الصهبي وبنجر وما بينهما
******
ستظل الأمة العربية تدور في فلك دائري ، كلما سرنا فيه نعود
لذات النقطة مرة أخرى ، وكلما قمنا بحدث نعود لذات اللحظة
مرة ثانية ، بسبب أننا نتعامل مع لغتنا العربية بصفتها لغة معبرة
عن قضايانا ومشاعرنا ، ولغة للتواصل فيما بيننا ، ولم ندر ولا نريد
أن ندري أنها لغة للحدث والتمايز والفكر والإبداع ، وأن الكلمة
العربية تمتلك قدرات البقاء أكثر من متكلميها ، وتمتلك إمكانات
التطور أكثر من متحدثيها ، وتمتلك أدوات الابتكار أكثر من
المتعاملين بها ، فالملفوظ فيها له حياة ، والمسموع منها له سلطة
والمسكوت عنه له قدرة سوف تتفجر في لحظات تاريخية .
والجميع يعلم أن ألفاظ القرآن المجيد من لحظة نزوله وحتى
اللحظة لم تتبدل ( لاتبديل لكلمات الله ) ، ولم نزد عليها أو نحذف
منها ( ألا إن كلام الله أصدق ، ألا إن عرى الله أوثق ) ، فاللغة العربية
ليست تاريخا للمتحدثين بها ، ولا متطورة عنهم أو بهم ، لكن الأمر
مختلف جدا ، فهي تعطي لمن يستحق العطاء ، وتعطي القوة لمن
يتحدثون بها إذا كانوا هم بالفعل يستحقون القوة ، ألا ترى أن
الأوربيين في بلاد أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا وغرب إيطاليا
كان يبيعون ممتلكاتهم لقاء أن يرضى عربي أن ينسبهم لقبيلته ،
وأن العربي بالتحديد هو الذي علَّم الدنيا الفخر بقبيلته أو
بعصبيته وجيرانه وأهله ، وما فعلها قبلهم ولا بعدهم أحد من
العالمين ، وأن معظم البلدان تسمى بأحداثها أو مواقفها أو أماكنها
إلا بلاد العرب وبلاد الهند والصين قد جاءت أسماؤهم من لغتهم .
ليست هذه تقدمة منطقية للقصيدة التي سوف أتناولها لشاعرنا
الكبير / عباس الصهبي ، حيث وقع اختياري على قصيدة طويلة
للشاعر في الأغلب أطول نصوصه على الإطلاق والمعنون بـ ( نهج
النهج ) وهو نص معارضة شعرية على مستويين ، أحدهما
زمني ، فعصر البوصيري يختلف عن عصر شوقي يختلف عن عصر
عباس الصهبي ، وثانيهما على المستوى التقني ، فالتشابه بينهم
جميعا في تناول النص موجود بدرجة كبيرة إلا أن الصهبي يستغل
الأحداث ليسقط بعض تطلعاته ، ويرجو ببعض دعواته .
يقول الصهبي في مطلع قصيدته ( نهج النهج ) : _
*********
نام الخلي وعين الصب لم تنم
تسهو فتصحو فتشكو لوعة الألم
اللائمون كفاهم أنهم نقموا
على هواي وأني غير منتقم
ومن سمت روحه هيهات يشغله
قول الذي لام أو من بعد لم يلم
إن كنت متهما بالحب أرشفه
فإنني في البرايا خير متهم
**********
ويقول أمير الشعراء / أحمد شوقي في مطلع قصيدته ( نهج البردة )
*********
ريـمٌ عـلى القـاعِ بيـن البـانِ والعلَمِ
أَحَـلّ سـفْكَ دمـي فـي الأَشهر الحُرُمِ
رمـى القضـاءُ بعيْنـي جُـؤذَر أَسدًا
يـا سـاكنَ القـاعِ، أَدرِكْ ساكن الأَجمِ
لمــا رَنــا حــدّثتني النفسُ قائلـةً
يـا وَيْـحَ جنبِكَ، بالسهم المُصيب رُمِي
جحدته، وكـتمت السـهمَ فـي كبدي
جُـرْحُ الأَحبـة عنـدي غـيرُ ذي أَلـمِ
********
ويقول البوصيري في قصيدته المعنونة بـ ( البردة )
********
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم
مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ
وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن إضَمِ
فما لِعَينـيك إن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا
وما لقلبِكَ إن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــمِ
أيحَسـب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِــمٌ
ما بينَ منسَــجِمٍ منه ومُضْـطَـرِمِ
لولا الهوى لم تُرِقْ دمعاً على طَلِلِ
ولا أَرِقْتَ لِــذِكْرِ البـانِ والعَلَـمِ
فكيفَ تُنْكِـرُ حبا بعدمـا شَــهِدَت
به عليـك عُدولُ الدمـعِ والسَّـقَمِ
وأثبَتَ الـوَجْدُ خَـطَّي عَبْرَةٍ وضَـنَى
مثلَ البَهَـارِ على خَدَّيـك والعَنَـمِ
نعَم سـرى طيفُ مَن أهـوى فـأَرَّقَنِي
والحُبُّ يعتَـرِضُ اللـذاتِ بالأَلَـمِ
يا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً
مِنِّي إليـك ولَو أنْصَفْـتَ لَم تَلُـمِ
عَدَتْـــكَ حالي لا سِـرِّي بمُسْـتَتِرٍ
عن الوُشـاةِ ولا دائي بمُنحَسِــمِ
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَستُ أسمَعُهُ
إنَّ المُحِبَّ عَنِ العُــذَّالِ في صَمَـمِ
**********
يبدأ النص عند الصهبي وشوقي تقريريا ، بينما يبدأ عند البوصيري إنشائيا ، وجميعهم يعتمد صورة العشق والغزل ، فالبوصيري
يتذكر جيرانا له في قرية ( ذي سلم ) فيبكي بكاء حارا لأنه يعشق هؤلاء الجيران ، ويطلب من اللائمين أن يتوقفوا عن اللوم لأنهم يلومون على شيء لم يعرفوه ، ولن يستمع للومهم مرة أخرى كشأن كل المحبين ، بينما شوقي رأى جميلة من روعتها يستحق أن يسال دمه حتى في الأشهر التي يمنع العرب فيها القتال وهي الأشهر الحرم ، ويعترف أن القضاء أصابه بعين رائعة الحسن ، وكأن الغزال الأبيض قد انتصر على الأسد ، والأسد يستغيث به ، فالصور شديدة التركيب والتقابل والروعة ، لكنها في الحقيقة مع روعتها تأتي غير قابلة للحدوث في الواقع ، بينما يرسم الصهبي صورته في منتهى الواقعية واليسر ، فالخلي ينام والمحب يسهر ملتعا متألما ، واللائم لايشعر بالألم فيزيد من لومة واتهامه ، والمحب مصر وعنيد ومقاتل شرسويرضى بالتهمة ولا ينفيها عن نفسه بل يصعد بها إلى درجة أعلى وهي درجة التشريف بأنه متهم بالحب ، فشوقي أكثر تصويرا ، والبوصيري أقربهم للمنطقية والصهبي أكثرهم واقعية .
وتأتي لغة الصهبي من عصره سهلة فصيحة ، واضحة ومريحة ، جلية نقية ، تعتمد على جماليات البلاغة القديمة من نغم البسيط والتقابل والتضاد والتورية والإطناب ، بينما لغة شوقي أكثر عمقاً ، وأقرب بدرجة ما إلى العصور العربية القديمة ، فيستخدم الصور العربية القديمة من الغزلان والأسود والكلمات المعجمية كالأجم
والبان وجؤذر وغيرها من مفردات نعتبرها الآن متقعرة بدرجة ما .
بينما البوصيري يعتمد لغة أقرب للغة عصر ماقبل الإسلام في الغزل العفيف وتذكر منازل الأحباب الذين كانوا جيرانا له .
لاشك أن نص عباس الصهبي يحتاج إلى دراسات عديدة خاصة أن النص يزيد عن ألف كلمة وخمس وأربعين على وجه التقريب لا على وجه التحقيق ، وكان الصهبي يضع أمام عينيه البردة للبوصيري ونهج البردة لشوقي ، مما جعل النصوص تسير بفكرة منطقية متطابقة أو على أقل تقدير متماسة ، بينما اللغة والتصوير هما محطات الفوارق والفواصل بين الشعراء الثلاثة .
شكرا عباس الصهبي شاعر مصر الكبير الذي يحاول دوما أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة ، ويلتزم بالقوانين ولكنه دائم التجديد فيها لتناسب العصر الذي يعيش فيه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي