PNGHunt-com-2

مواقف وعبر:الناقدالعراقي كريم القاسم

(( أخي القاريء الكريم : لستَ مجبراً على التعليق ، إقرأ فقط ... الغاية هي تعميم الفائدة ... احترامي وتقديري))
_________________________________

( مواقفٌ وعِبَر )
__________________
كان رحمه الله شيخاً جليلاً واستاذاً حكيماً.
واسع الفكر  والتفكير .
لاتَعنيهِ الألقاب ولا  تطربهُ الإشادات . بعيدالطَرْفِ عن مديح ٍ أو إطراء ، بل كان عارفاً بنفسهِ .
فهو الكَعبٌ المُعَلّى في المنطقِ والنحو والشعر والنقد .
تتراكم بين يديهِ جماجمُ الفِكرِ  والأدب، والكلّ صُموت .
إذا تحدّثَ ؛ فمنهم كاتبٌ ، ومنهم مُستَمِعٌ شَغوف .
وإن أجابَ عن سؤالٍ ؛ تدافعتْ الأقلام لإرتشاف مايسكب لسانه مِن لذيذِ وصايا وجمالِ سَجْع.
-كنتُ آنذاك  أصغر الحضور سنّاً، وأقربهم الى قلبه.
أُحاول اصطياد كل ماتقع عليه عيناي مِن واردةٍ ،واستراق كل هائمة وشاردة.
في يومٍ قائظٍ من ايام صيف مدينة (البصرة) وجدتُ حالي قريباً من منزلِ ذلك العملاق.
طرقتُ بابَه.
إستقبلني وهو يرسم ابتسامته المعهودة، ويمسك بديوانٍ شِعريّ .
إستوى بجلسته على بساطٍ  فوق الارض، ومازال ماسكاً بالديوان المطبوع حديثاً.
طرحهُ أرضاً أمامه.
أشارَ  إليَّ كي أناوله أصغر قلم خشبي كان يُزاحم مجموعة اقلامٍ في وعاءٍ خَزفيّ.
سألته:
- ولِمَ أصغر قلم ؟
أجاب:
- ذاك هو حجم وقَدَر صاحب هذا الديوان عندي.

قَلَبَ غلاف الديوان ليستقر  القلم على أول صفحة ،مُدَّونٌ في أعلى زاويتها إهداء له.
إبتدأ بالكتابة، وأنا اتفرسُ في تغيّرات قَسَمات وجهه .
فمرّة يعقدُ حاجبيه ،ومرّة يزفرُ حسرة ، ومرّة يقضم شفتيه ،
فعرفتُ إنه يكتب ما لايُسِرّ النفس والحال.
واخيراً طرحَ القلم جانباً بهدوء، مستوياً على وسادةٍ تسندُ ظهرهُ المُتعَب ، وأخرى بجانبه تسند ذراعه ، وهو ينفثُ بتلك الزَفَرات والحَسَرات.

سألته:
- مايقلقك ويحزنك في هذا الديوان ياسيدي؟
أجاب :
- صاحب هذا الديوان هو ( فلان) وقد رجاني أن أراجِعَ له ديوانه الشعري هذا ، فشققْتُ سكون الليل لإيام طوال ، وأسقيته بكلّ  زادٍ مفيد، ولم أبخل عليه بمعرفةٍ، ولم أخفِ عنه نصيحة، وحذفتُ مايستوجب حذفه مما لافائدة فيه، وشطبتُ مالايوافق الذوق والذائقة، وأضفتُ كلّ ماهو جميل وبليغ، حتى ظهر هذا الديوان بهذا المقام ،وبهذا القبول والتمام .ثم رجاني هذا الرجل بعدها أن أُقدِّمَ لديوانه بمقدمةٍ مُناسِبةٍ تَسُرُّ القارئين.
ومثلي لايُقَدِّم لكلّ ديوان شعريّ ( رَحمَ الله مَن عَرفَ قدر نفسه) لكني قبلتُ لأنني عارفٌ مابين سطوره ، فجمعتُ حروفي وأيقضتُ دواتي لأكتب له صفحتين من أجمل وأبلغ ماكتبت مِن تقديمٍ لديوانٍ شعريّ وعلى مدى ليلة كاملة تشجيعاً له وإكراما.

ناوَلَني شيخنا مُسَوَّدة تلك المقدمة ، فهالني ماقرأت من وهجِ بلاغةٍ، وحُسن بيان، وروعة إشارة، وجميل مَدحٍ وتعريف ، حتى بَدَتْ وكأنها إكليل وتاج يحيط بالديوان.
فهو لايكتب بكلماتنا المعتادة ولايرصف معانيها كرصفنا ولايفتل المفردات كفتلنا ، بل تشعر وكأن قلمه يسيل حلاوة وطلاوة ، حتى تجبرك ذائقتك على إتمام قراءة كل النص، ثم تتحسر لان قراءتك توقفت بانتهاءه.

ثم أردفَ قائلاً:
- أتعرف ماذا فعل (فلان) صاحب هذا الديوان؟
لقد استبدلَ مقدمتي بأخرى لشخص لانعرفه ودون علمي، أو على الاقل كان عليه التَرخّص وطلب الإذن.
حتى إنه أفرد صفحة كاملة يشكر فيها صاحب فكرة صورة الغلاف، ويكيل المدح والمديح لمُصمّمها ، وشُكْره لصاحب المطبعة ، وتقريظ وإشادة لصاحب المُقدمة ، دون أن يعرِّج على ساحتنا ولو بكلمةِ شُكْرٍ أو سَطرِ ثناء .

* رجوتُ شيخنا أن أقرأ وأطّلع على ماكتَبه ذاك الرجل من (مقدمة) للديوان الشعري .
فوجدتها هزيلة واهية بسيطة سطحية مُشتتة الافكار والإشارات ، لاتنم عن خبرةٍ ولا عن خبيرٍ  بأمرِ الشعرِ والدواوين ، وقد ذيّلها بتوقيعه ( د. فلان) وهو استاذ جامعي لايَمُّت الى الأدب بصِلَة.
حزنتُ كثيرا لخسارة هذا الشاعر الذي بات شويعراً، وصار حاله كما توقع له شيخنا الهمام،  ومازال منكوس الراية الادبية في البصرة حتى الآن، وهو حيّ يُرزَق.

انتهزتُ فرصة قراءة المقدمة لأقرأ ما كَتبَ شيخنا  تحت عبارة إهداء الشاعر ، ورجوتُ استاذي ان أنسخها، فوافق بشروط، وكنتُ قد خزنتها بين أكداس قراطيسي طيلة هذه السنين ، وهذا نصّها:

" إلى مَن جاورَنا فأكرَمْنا جواره ، وحاوَرَنا فأصدقْنا حواره ، فلم نبخل عليه بنصيحة ، ولم نغلق بوجهه قريحة ، فتَنَزَّه في حقولنا وقَطفَ من ثمارنا ،ونَهِلَ مِن زلالِنا ،فشَهدتْ بذلك ساعات من صَفوَة ليلٍ  ، على مدى فَيض أيامٍ وسَيل ، حتى بَرُؤَ ديوانكَ بعد سُقمٍ وعِلَل ، وتعافى مِن هُزالٍ وشَلَل ، وأزهرَ بعد ذبول ، وانتشى بعد خمول ، فلم نَلقَ منكَ إلا عقوقاً وخيانة ، وجحوداً لفَضلِنا ونسيانه.
واعلم بأن الأدب يؤدِّب حامله ويزكّي ناقله ويرفع قدر شاغله.
فلاتكن أرضاً سَبِخة ، نافراً للغرس ،ناكرا للدرس ،مشلولَ الخَمْس.

ويحَكَ ؛
لقد فَريتَ حَرفَك، وخنْتَ عَهدَك ، وجَزرْتَ مَجدك.
ويحكَ ؛
فلا أنت مِن الذين قال الله فيهم :
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا...)

ولا أنت مِن الذين قال الله فيهم :
(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ ... )

فكنتَ مِن ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ... )

واعلم أيها الجاحِد ، بأن الأدب قد طلَّقكَ ثلاثاً :
فعَهدُكَ به قصير  ، وطريقكَ اليه عَسير ، ونُزلكَ عنده حقير .
والسلام. "

سألته :
- ياسيدي وهل سيصادفنا مثل هذا الفعل في حياتنا.
أجاب:
- نعم ؛ تَذَكَّرْ ؛ سيكونُ لكَ مثلها .

أقولُ:
- نعم ؛ لقد تَحقَّقَتْ نبوئته،فلقد كان لي مثلها .
فجَحَدَ مَن جَحَد ، وأجحَفَ مَن أجحَف.

•(مع وافر احترامي وتقديري)
_____________________________

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي