PNGHunt-com-2

زيارتي لليبيا : بقلم الكاتب رضا يوسف أحمودي

زيارتى لليبيا ...
ـــــــــــــــــــــــ
كان ذلك فى شتاء 2005 فى يوم "ربيعيّ" دافئ دفء العلاقات التونسية الليبية حينها.
ركبنا سيّارة الاجرة "ركوب عامّة " ... كنّا ثلاثة تونسيين وجزائريّة والسائق ليبىّ .
كانت ليبيا تتثائب بعد ليل حصار طويل منع فيه الغرب على هذا الشعب الكريم الغذاء والدواء وقطع الغيار والسلاح ... والحب .
ليبيا بكلّ ما فيها من ليبيا .
ليبيا عمر المختار .
ليبيا بلد المليون حافظ للقرآن الكريم.
ليبيا الملك ادريس السنوسى والعقيد معمر القذافى والرائد عبد السلام جلّود ومحمد المقريف والمحيشى ... وعلى عبد السلام التريكى .
ليبيا الشيخ الصلاّبى والشيخ الغريانى ومصطفى عبد الجليل وعبد الحكيم بالحاج وأبو ليث الليبى.
ليبيا الكاتب العالمى ابراهيم الكونى والفنان محمد حسن جدا والمطربة نجمة الطّرابلسيّة والممثلة خدوجة صبرى واللاعب فوزى العيساوى .
ليبيا خليج سرت وبنغازى وآثار درنة والبيضاء وغدامس وبحيرة قبر عون وواحات الجفرة وهون والجغبوب والجبل الأخضر ... وعروس البحر طرابلس .
تتمتّع أكثر عندما تزور بلد تعرف تاريخ ميلاده... ومن يحب ومن لا يحب .
قال الشاعر العراقيّ الكبير مظفّر نوّاب فى الثمانينات : الشعب الليبى هو الشعب الوحيد فى العالم الذى لا يعرف فى قاموسه كلمة لا.
فى لحظة من التاريخ تفترس ليبيا عقيدها كما افترست المانيا هتلر وايطاليا موسيلينى ورومانيا تشاوشسكو.
للذين يريدون التغييرالمفاجئ للتاريخ بلا قراءة صحيحة للجغرافيا نهاية واحدة .
إخترع الغرب "الديموقراطيّة" كي يغادر الحكّام السلطة بسلام .
السّيارة تطوى الطريق طيّا ... فى المقعد الأمامي تجلس إمرأة جزائريّة ديموقراطيّة شعبيّة صلبة تحمل الكثير من أوصاف المناضلة جميلة بوحيرد ...  تشتغل مترجمة لدى سفارة الكويت بتونس .
أعلمنا السّائق بأنه كان ضابطا فى القوّات الخاصّة الليبيّة ... شارك فى الحرب على تشاد ... حدّثنا عن فظاعات هذه الحرب والجرائم الإنسانية التى اقترفت فيها فى سبيل "الله" و"الوطن" و"الجنرال" !!!
هكذا هى الحروب: يعلنها السّياسيون ويقودها الجنرالات ويموت فيها الجنود .
حدّثنا النقيب قال : كنا نطلق النّار على عدد من الجنود التّشاديين لكن لا أحد فيهم يموت ... صوّبنا نحوهم على مسافات قريبة جدا وكأنّك ترميهم بالورود ... قلت له : انت بنفسك جرّبت "الكلاشنكوف" على هؤلاء وعلى مسافة قريبة ... أقسم بالله انه فعل ذلك ... قال : عرفنا حينها أن فى الامر سحر وشعوذة ... بلّغنا القيادة التى بدورها بلّغت شيوخا "مختصّين" فى فكّ الطّلاسم ... جاءتنا الأوامر بضرورة رشّ الذخيرة بالنّجاسة أي البول .
تحوّلت مخازن الذّخيرة الى مراحيض .
كلّ مخزن خراطيش وجب رشّه بالبول .
وكانت النتيجة مذهلة : من الطلقة الاولى يقتل او يجرح جنديّ تشادي نحيف !!!
لافريقيا جنونها واساطيرها وطقوسها وبخورها وطلاسمها ... وحروبها .
حينها تذكّرت أبيات الشاعر مظفر نواب وهو يخاطب حبيبته حول حاكم عربيّ قائلا:
سأبول عليه وأسكر
ثم أبول عليه وأسكر
ثم تبولين عليه ونسكر
واصل حضرة النقيب رواية مغامراته فى الحرب ...
فى أحدى المواجهات أبيدت وحدته بالكامل نتيجة كمين محكم نصب لهم لم ينجو منه غيره وسائقه حيث انسحبا وتاها فى الصحراء وسط عاصفة رمليّة كثيفة ... بعد السير يوم وليلة بالسيارة وجدا جسداهما داخل الأراضى الجزائريّة ... استقبلتهما عائلة من الطّوارق فى خيمتهم حيث اكرموهما وسلّموهما الى السّلط الجزائرية التى بدورها سلّمتهم الى السلط الليبية .
فى هذه اللحظة شعرنا الخمسة بأنّه تجمعنا السّيارة والمغرب العربى الكبير بدوله الخمسة.
تذكّرت قصّة الشاعر مظفّر نوّاب وهو هارب من العراق مشيا على الاقدام داخل الأراضى الايرانيّة حيث فوجئ ليلا بترحاب إمرأة فارسية به داخل خيمتها ... ناولوته الطعام وهو فى حالة رثّة قبل ان يواصل الطّريق الى العمق الايراني .
وصلنا طرابلس ...
فتحت الجزائريّة حافظة نقودها لتعطى السائق أجره قبل ان يجفّ عرقه ... إمتنع بشدّة ردّا على جميل تلك العائلة الجزائرية التى استقبلته فى بطن الصحراء الكبرى .
ردّت الجزائريّة بإنفعال "قسما" بالله ستأخذ حقّك .
"قسما" ذلك النّشيد الذى زلزل جبال الأوراس .
للخروج من المأزق وكفتوى مغاربيّة قمنا نحن "التوانسة" بخلاص معلوم ركوب الجزائريّة وسط تأثّر واحساس بما يجمعنا.
الثمن كان زهيدا لكن المعنى كان غاليا وغاليا جدّا .
ونحن فى طريقىنا الى طرابلس وداخلها لاحظنا الغياب الكلّى للّافتات التى تحمل أسماء وإتّجاه المدن والضواحى ... سألت مرافقى الليبى : لماذا هذا الغياب؟ ... قال لى : أزلنا اللّافتات قبل إنزال أمريكى وشيك كانت ستقوم به "المارينز" سنة 1986 .
أزال الليبيون اللّافتات كي يتيه الامريكان فى الصحراء كما تاه قبلهم الطّليان .
كانت الوان المبانى شبه بنيّة كلون الارض ... لا بياض فيها ولا ألوان داكنة ... قيل لى : ذلك تمويها على الطائرات العدوّة كي لا تعرف اهدافها بدقّة .
البلاد توحى لك بأنها خارجة لتوّها من حرب لا من حصار.
فى الثمانينات صرّح ديبلوماسى غربى :" لعبة ريغن المفضلة هي ليبيا كأنّه ليس لديه بما يلعب غير ليبيا ".
فى الثمانينات كذلك صرّح مدير فرع فى المخابرات المركزيّة الأمريكيّة : ليبيا ليست قطعة حلوى كي يسهل ابتلاعها .
عندما ألتقى اليوم أي ليبى وأسأله عن حال بلدهم التى دمّرتها الحرب الأهليّة يقول كلمتهم المعتادة :"ميّة ميّة" ... يقولها بألم  ... عندما يطمئن اليك ويحسّ بأنك تتعاطف معه وتتألّم يحكى لك عن أدقّ التّفاصيل ... ربّما لتشاركه البحث عن حلّ طال انتظاره .
قلوبنا مع ليبيا وسيفرّج الله عليها يوما ليعمّ فيها السلام والوئام ... والحضارة .
ليبيا لكلّ الليبيين ولنا ... كما دولنا لنا ولهم .
اكثر من دولة تتردّد فى الدخول الى ليبيا لأنها تعلم جيّدا "أن ليبيا ليست قطعة حلوى يسهل ابتلاعها".
لقد ظلم المخرج الكبير مصطفى العقاد رحمه الله الشهيد عمر المختار حين غفل عن تصوير المشهد الحقيقى للاعدام حيث انقطع حبل المشنقة بالشهيد فصاح المختار:" لعنة الله على دولة حبالها بايدة" .
.... نريد ليبيا دولة حبالها قويّة ....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي