PNGHunt-com-2

دراسة بقلم الناقد أحمد اسماعيل في قصة الكاتب المصري إسلام الحادى /صور مؤجلة لموت محقق

دراسة نقدية بقلمي أحمد اسماعيل /سورية
عين
على الإعاقة في قصة  صور مؤجلة لموت محقق للكاتب أ. إسلام الحادى  /مصر

نص الكاتب

صور مؤجلة لموت محقق

    منذ ذلك الحين وأنت تريد أن تموت ..
كطفل يحاول تسلق سور البلكونة ،يرى الماعز يمضغ شيئاً من بعيد  ،يضع فمه في الفتحات الحديدية  لسور الترعة ،يسأل ببلاهة هل الماعز تأكل الحديد؟ فيقال له: لا ويضحكون.
كنت هكذا حين مر من أمامك طفل ملفوف بقماشة بيضاء ينعكس منها ضوء الشمس فيحجب الرؤية شيئا قليلا عن عينيك ،تضع يدك على رأسك تحاول منع الضوء ،ترى بعينين ضيقتين الطفل ،تحاول معرفة شكله ،ترحل ولو لثواني معدودة إلى عالمة ،بماذا يشعر الآن ؟ من ظلمة كان فيها إلى ظلام دامس ليس بعده نور .
رجل يحمله يتساقط من جبينه العرق ويبدو على ملامحة البكاء وخلفه يسير بعض الرجال في خطوات منتظمة ،المقابر على بعد خطوات من منزلك ،في الشارع المظلم ، الضيق، الرطب دخل الرجل يحمل الطفل وخلفه الرجال .
تدخل الغرفة فتجد أمك نائمة تربع يديها  تحتضن الهواء تحاول فرد ذراعها وتحشر رأسك بينه وبين كتفها ، فتنتبه وتربت على شعرك ،كنت غارقاً في الدفء .حينها قالت لك : أنت خائف ثم سكتت برهة: أكيد مرت جنازة أمامك وأنت في الشرفة .
نائم في حضن أمك تلك اللحظات التي شعرت فيها بالصفاء والخوف معا ،يتساقط فوقك نسيج الأحلام الأبيض الناعم ،انتبهت فوجدت نفسك نائما في قماشة بيضاء رائحة الغرفة تشبه رائحة المخدر الطبي ،كنت مستغرقا في موتك ،الروائح تنحسر شيئاً فشيئا عن أنفك، حالة موت جيدة وجديدة هكذا بلا صخب بلا ضجيج .
حركت رجلك بطريقة ليست عشوائية لأنك تريد أن يكتمل احساسك بموتك .
عليك أن تتذكر الآن عندما حكت لك أمك حين كان وجهها أصفر صفار الشمس قبيل الغروب تتمدد على الاريكة الخشبية تصرخ وتضع في فمها قماشة تضغط بأسنانها عليها بقوة حتى توزع الألم .
وحين خرجت وضربت على مؤخرتك أخرجت جدتك من صدرتها الكثير من النقود كانت تعطي كل من تقابله بدون حساب ،كان صوت الليل والجرف والترعة والناي الذي يعزف في مسلسل (حسن ونعيمة ) "يا دنيا يام الشمس والليل والقمر ...عصفور بيدور يدووور  يغنى على الشجر "وتتر مسلسل (غوايش ) " وفي الليل وفي التباريح يتقلبوا المجاريح"و"معلا قانون".
يشكلون معنى حقيقى بأنك موجود .
حالة موت عادية كما قلت لك حمى ارتفاع غير عادي في درجة الحرارة ناهيك عن مرض القطط الذي صاحب أمك طوال فترة الحمل كل هذا كان من السهل أن تموت .صرخت جدتك وبدت تجاعيد وجهها أكثر مما هي عليه بحوالي عشرات السنين ،بعدها بيومين أصرت جدتك أن تلبس والدتك خيطاً أبيض من الحرير تضعه في رقبتها مكان السلسلة لأنها كما قالت الجدة أنها قد شهرت وهذه هي المشهرة وحتى تنجب أطفالا يعيشون في المستقبل .
                                       *******
الآن وحين نهضت من جانب أمك تحسست رأسها وخديها وداعبت شعرها الأبيض المسترسل لم تشعر بوجودك وانتبهت لوجود المشهرة لاتزال معلقة في رقبتها .

القراءة الانطباعية بقلمي  أحمد اسماعيل /سورية

البناء اللغوي للسرد

1_ العتبة العنوانية صور مؤجلة لموت محقق
الصور لغويا من صور  أي جعل له صورة، رسمه، جسمه و جعل له شكلا و صورة.
فالكاتب هنا رسم و صور لنا من خلال النص مشاهد متسلسلة كل واحد يمثل منها موتا لكن الذات تبقى على قيد الحياة و الموت هنا وتصديره بهذا الشكل للدلالة على عظيم الألم في الذات.
2_ اعتماد الكاتب على الغرائبيةو الغموض في تصدير المشهد القصصي و قد نجح إلى حد كبير في ذلك من خلال ترك مساحة للمتلقي يتقصى من خالها الحقائق في السرد
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الغموض سلاح ذو حدين إن لم يكن مدروسا و بعناية فائقة يمكن أن يقتل أي نص
والكاتب هنا حتى يتجاوز ذلك ترك خيوطا ليربطها المتلقي
3_ الراوي هو نفسه الطفل المعاق لكن من يتكلم بلغة المخاطب هنا الأنا الأعلى وهذه حرفية تحسب للكاتب
حيث جعل الأنا الأعلى أو سلطة الضمير هي من يلقي السرد بينما الأنا في الوعي هي ذات الطفل المعاق والذي تتكالب عليه الصدمات و الأوجاع.
فالأنا الأعلى هو الأقدر على معرفة مايدور في تلك الذات  لذلك رسمها على شكل صور و مشاهد مؤجلة
4_ مشهد الاحتفال كما في الدراما أظن أنه كان زائدا و الأفضل لو استغنى عنه فمشهد فرحة الجدة و توزيع النقود كاف لتصدير المشهد
5_ انغماس رائع للكاتب في دراسة أبعاد مرض المقوسات الكروية او كما يقال مرض القطط و عرضه كحدث يستفز الحواس من خلال أبعاد المرض على الأم و الجدة و الطفل و الزوج و المجتمع القروي الذي يتنفس الجهل.
6_ رسم الكاتب المشاهد و وضع المفارقة بنهاية كى مشهد و كأنه هنا يتبل السرد ببهارات الفضول
لذلك كانت الأسئلة مفتوحة في كل مشهد وخاصة في القفلة.
7_صنع الكاتب مفارقة بين المؤجل و المحقق من الموت
فكل الموت الذي يتمناه الطفل مؤجل  و كل الموت المحقق يتصيد من حوله وهذه المفارقة واضحة في القفلة المدهشة  حيث الحيرة بقيت على حركات و أسارير وجه الطفل المعاق.

رؤية تحليلية شارحة للنص

المطلع يبدأ بقول الكاتب
منذ ذلك الحين و أنت تريد الموت...

فهنا يرسم الكاتب الخيط الأول للنص و هو من خلال الرغبة الشديدة بالموت لكن هل تحقق بالطبع لا
في المشهد الأول طفل يحاول تسلق سور البلكونة
هنا السور عال على الطفل لصغره و ولامر هام آخر و هو الإعاقة
فالكاتب يشبه رغبته بالموت بحركات الطفل الذي يريد أن يتجاوز السور   سور الموت    لكنه يفشل
ياترى ماهي الأسباب التي تدفع اي شخص ليكون الموت أمله الوحيد
كيف يضرب مغريات الحياة إن لم يكن زاهد أو متصوفا
كيف للذات أن تناقض طبيعة البشر و انجذابها للحياة
ففي الواقع كلنا تقريبا نتمسك بكل صغيرة وكبيرة لنبقى على قيد نبض.
لكن ماهي مؤشرات إعاقة الطفل
أولا علميا وطبيا  ماينتج من داء المقوسات الكروية هو تشوهات خلقية أو عقلية لدى الطفل أو وفاته
وهنا الكاتب رسم الحالتين من خلال رسم حالة البطل المعاق بمشهد رؤيته للماعز و طريقة جواب أقرانه على بلاهته مع الضحك
الحالة الثانية مشهد أخوه المتوفى
المشهد الثاني وعودة لفكرة تمني الموت
من خلال مشهد  مرور جنازة الطفل الملفوف بالكفن
هنا الكاتب لم يوضح أنه اخ الطفل المعاق لكن رسم حالة الطفل النفسية في موكب الجنازة من خلال استحضار الشمس و انعكاس ضوئها
إضافة إظهار مدى رؤيته للطفل الميت  ونحن نعرف ان من يتلهف لرؤية الميت هم أشد الناس قربا له
باقي الناس لايكترثون عادة برؤيته
ثم الرغبة في دخول عالمه الجديد وكيف سيكون في العتمة
هي حالة يريد ان يعيشها الطفل المعاق وهنا ايضا تكمن براعة استخدام الأنا الأعلى كراو  للسرد.

المشهد الثالث مشهدالرجل الذي يحمل الكفن
وهنا يرسم الكاتب حالة الأب و دموعه وحالته النفسية من خلال مشاهدة الطفل المعاق له وهنا ايضا لم يفصح الكاتب عن شخصية من يحمل الكفن لأن ذلك واضح من خلال معالم وحركات الشخصية
الآن الحالة المأساوية للطفل لا توصف فما الحل
الحل هو في لجوئه لحضن دافئ وحصريا الذهاب سيكون باتجاه الأم
المشهد الرابع يدخل غرفة الأم
الآن ياترى لنتسائل كيف ستكون
الأم في حالة نفاس بالتأكيد خير علاج لها لتنسى فاجعتها بالنوم خاصة حين يكون هذا الموت يصاحب الأجنة التي تضعها
يقترب منها الطفل الطعاق يدخل حضنها تستيقظ تمسح شعره حتى تواسيه وتنسيه أوجاعه
مشهد مؤثر لحالتين من الشتات الأم و الطفل كل منهما يواسي الآخر مفارقة وإن لم يرسم الكاتب أبعادها لكن واضحة باستحضار العبارة
هذا الحضن الدافئ يترك الطفل ينام في حضنه لكن المفارقة أن الموت المؤجل يستمر في ملاحقته في الحلم
فكل الحركات التي تصور احتضاره و موته هي حلم
هل اكتمل الموت بالطبع لا
لاحظوا كيف أشار إلى عدم اكتمال الموت المحقق بقول الراوي... لأنك تريد أن يكتمل.
وبين الإرادة والحقيقة في أنه مازال موجودا
مشهد الشريط الذي عبر به الطفل إلى ضفة الحياة
فالمشهد السادس هو عرس واحتفالات بقدومه للحياة
المشهد السابع هو بيان سبب ولادة الطفل معاقا وسبب وضع المشهرة حتى يأتي ما تبقى من إخوته بشكل معافى
طبعا هنا من خلال مشهد المشهرة أراد الكاتب أن يشير لأمرين هامين
الأول  هو أثر الجهل على النسل و الزواج و الولادات و عدم التفكير بحلول جذرية لمثل هذه الحالات من خلال زيارة الطبيب بشكل دوري ومعالجة الأنثى قبل و بعد الحمل
الأمر الثاني الإشارة إلى المرض و تأثيراته على الجنين و الأم و المجتمع
المشهد الأخير كان مشهد وفاة الأم  فبعد استيقاظ الطفل من الحلم واكتساف عدم موته يصدم بموت أمه والكاتب هنا صنع المفارقة من خلال المشهرة التي مازالت على عنق الأم رغم رحيلها من الحياة
نص عميق ورائع بفلسفته وآلية نسجه
شكر كبير للكاتب على هذا النص الجميل
و شكر كبير ل. أ. محسن الطوخي  و أ. منال خطاب  في تقديم هذه الوجبة الأدبية التي تتلذذ بها رؤى وحوارات عيون الواحة
بقلمي أحمد اسماعيل /سورية
محبتي وطوق ياسمين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي