الناقد غازي احمد ابوطبيخ الموسوي و وقفة موجزة مع آخر قصائد الشاعر كاظم الحجاج
وقفة موجزة
مع آخر قصائد الشاعر كاظم الحجاج
التي قرأها في مهرجان الجواهري الاخير في( العراق):
غازي احمد ابوطبيخ الموسوي
…..……………………………………….
،،،يُعَرِّفُ رولان بارت الأسطورة بأنها"منظومة اتصال”، و”رسالة”، و”صيغة من صيغ الدلالة”1.
وهو يرى أن الشعر المعاصر نجح في أن يستخدم الأسطورة في الوصول الى معنى الأشياء ولم يتوقف عند عتبة المعنى المعجمي للكلمات. وقد استخدم الحجاج بعض ما ترسب من موروث نفسي وتاريخي وأعاده الى الوعي بهدف المقارنة بينه وبين الحاضر ونقد الواقع الآني اجتماعياً ،سياسيا وثقافيا ،وهو ما جعل مفردات قصيدته ذات دلالة، إن لم نقل لغة اتصال جديدة غلبت عليها الرموز والاشارات:
نص القصيدة :
…………………
نشيد أخير:
هذا في المتحف :
نايٌ من قصب الأهوار، رفيعٌ شبرين، بطول رضيع ..
وحزين ، كيف غناءُ المعدان.
كانت شفتا ( ننسونَ) – إلهةِ سومر – تنفخه فيَئنّ لها:
(( العاليات انزلن . والمايطيرن طرَن ..)).
وقيثارة ، في أصابع عذراءَ – حفيدةِ ( فدعه) - ..
... وهي تمسح قبر أخيها الشهيد الوسيم - :
(( بعدَكْ حلو . لو جالك الدود ؟ )) ..
.. ووقوراً يفيض الفراتُ ، نزولاً من الله ، لا مِن بلاد الجبال – الشمال ..
( لم تكن ولدتْ بعد تلك البلاد) ..
وما كان ( كارون) – في الشرق – نهرَ أَحد ..
* * *
والآن :
لا في المتحف ، بل بعد سبعة آلاف عام ؛
لون الماء صغير في النهرين وفي الأهوار ..
والمشحوف – الحوت الأوّل – مغروس في الطين ..
والأسماك :
الشبوّط . الكطّان . البنّي . الحمري ..
تبحث في أنهار الجيران العطّاشينْ
.. عن لقمة ماء !
* * *
يا أيّها النوّاب . أيّها ( المجرَّبونَ)
والذين لم يُجرَّبوا . يا أيّها النوّاب .
ولا تقتربوا من نصب ( جواد سليم) . بعد الآن !
عودوا الى مطابخ بيوتكم ..
ولْتخجلوا . إن كان بها جِبنٌ أو لبن ..
من ( سدّ أليسو ) ..
أو تمرٌ أسود ، من نخل الجيران ْ ..
حزنانُ على سيّدهِ .. تمرِ البصرة .. يا نوّاب !
* * *
وأنا . سوف أصيح . بعلوّ الناي . وحزن المعدان :
يا أحزاب الشيعة . يا أحزاب السنّة . يا أحزاب الأكراد :
ألف عوافي !..
فلْتقتسموا بغداد !
لكنْ. لن تقتسمونا!
وأنا . – بين القيثارة والناي - ..
سأصعد فوق الزقّورة ؛
أتلو نشيدي الأخير :
في البدء كان الرافدانْ
وكانت الدنيا دخان
لا بارقٌ خلف المدى . والأفق ضاقْ
حتى بدا – مثل الندى وجهُ العراق!.
قرأها في
2018/6/24
…
يبدو أن الشعر مع كاظم الحجاج في قصيدته هذه قد اتخذ وجهة أخرى نموذجية لمن يريد أن يواصل التجديد في الشعر العربي المعاصر، فيقتدي بهكذا أساليب تشتغل على النص المموسق بآخر عناقيد الحداثة الموسيقية الجامعة بين أنغام شتى في إطار إيقاعي مدهش،وهو بمثل هذا التنويع الموسيقي يخلق نوعاً من التحفيز يشد الإنتباه لمشهده الإحتجاجي العميق،بالضبط كاشتغال الناقد على النص ،ونقصد هنا المشرط الذي يستعمله النقاد والذي يتحول عند الشاعر الى قلم يغوص به عميقًا في الدلالات ليظهرها لاحقًا على سطح الحروف .
حدود جغرافية الحدث ومسرح الفعالية الابداعية يتجسد في المتحف، ومن هناك أخذ كل مفرداته المتصلة بالموروث العراقي،لغة وفنًا وتاريخًا وميثولوجيا ،
ليبدأ من مرحلة ما قبل سبعة الاف عامًا،بكل إشراقاتها،وينتهي إلى مكان مظلم سحيق هو(المتحف) الذي يجتمع في داخله كثير ممن كان سببًا في تعطيل مسيرة تلك الحضارة.و كأننا به يقول: ليذهب جميع المُعَوِّقِين إلى مزبلة التاريخ، فبالنتيجة سيبقى العراق خالدًا حاضرًا ومستقبلًا.
وفي الواقع،لايفهم مبانى هذا الشاعر المنهمر إلّا شريحة بالغة الخصوصية .
أمّا مضامينه فلا أظن عراقياً على وجه الخصوص لا يحس عميقاً بأن الحجاج كان في إجماله الشعري يلامس دخيلته بل ويعبر عن أخصّ هواجسه،لأنه يتحدث بلغة الشعب كله،كونه مايزال مصراً على مخاطبته محورياً،بعيداً عن التكلف والتعسف والتقعيب والتقعير والزخارف الاستعراضية.إنه لايغترف إلا من روح الواقع ،بكل أحزانه وخواطره الدفينة التي يطرحها بجرأة وبسالة نادرة،غائرًا في أعماق الحدث الراهن في قلب هذا الوطن الراعف، ليس موقفاً سياسياً تقريريًا منه،برغم يساريته المعروفة، بل فضحاً وكشفًا لكل أحابيل السياسة ودفائنها التي لايجرؤ على الحديث عنها إلّا أمثاله من الرؤاة الشجعان،وها هو يقول كل مايقول ممثلًا عن بلده تاريخاً وفولكلوراً وإحساساً وهاجساً عراقياً محضاً،بصياغات عالية الموسيقى ولكنها حرة من دون قيود مسبقة،كاسراً بها المعتاد، كمن يبتدر الناس برواية حدث كبير،مستبعدًا من ذهنه قصديّة الإلتزام العروضي،ولكنه مبركنٌ أصلًا بحكم هاجسه المتحدم بأعلى توترات الهارموني الموسيقي،الذي سيتشكل رويدًا.
(هذا في المتحفِ :
نايٌ من قصبِ الأهوار، رفيعٌ شبرين، بطول رضيع !!..)..
(هذا/فعْلْن،
فيلمتْ/فعْلن،
حفِنا/فعْلن،
ينمن/فعْلن،
قصبل/فعْلن،
أهوا/فعْلن،
ررفي/فعِلُن،
عنشب/فعْلن،
رينِ/فعْلُ…
بطول رضيع/في هذا المركب الاخير،يكون حضور الإقتران الشرطي،أهم من التزام العروض،ولكنه لم يخرج عن الإيقاع،بل كان منسرحاً مسترسلًا بقصد تخليق المفارقة غير المتوقعة !!،إنما -وهذا هو المدهش-لاتوجد أدنى فجوة موسيقية !!.
وعلى العكس من ذلك،كانت لحظة سكون مدعاة للإنتباه والإستذكار والتأمل..
ولاسبيل هنا بهذه العجالة إلى عرض جميع المداخلات الإيقاعية المستظافة بحسب نوع المضايفات الحدثية الداعمة للحدث المحوري،إنما أردنا التركيز على نقطة الشروع الباهرة. وتجدر الإشارة إلى أن الحجاج قد يوظف سطراً نثريًا،كدلالة أو إثارة لافتة ،او تنويه يقدم به لمقطع جديد،ولكن جميع هذه التنويعات،تجري وفق الهارموني الإيقاعي العام للقصيدة،ولا ننسى الإشارة إلى أن الأداء واعني(الإلقاء)الجماهيري المباشر عميق الأثر في عموم العرض التعبيري حركة وصوتًا،سيما والنص واضح الصلة بالمناخ المسرحي.
وكأني به يشير بأصبعه إلى موضع الناي الراعف الذي
أطلق بدوره صورة الرضيع من الذاكرة العميقة،الشديدة الإرتباط بموروث الطف،وموروث الحيف العراقي كله،مستحضرًا معه جميع الثكالى في مشهد بليغ وسياق ناضج برئ،( وتلك ثيمته الكبرى)..
هذا ناي يضمر تاريخ الحزن الدفين.إنه إذًا يمهد بعرض لوحة حركية عبر مناخٍ مسرحيٍّ محتشد بالاقترانات البافلوفية الصادمة التي تختصر المأساة،منذ لحظة الولوج إلى تفاصيل الحدث الشعري المتشعبة،ولأنه عميق الإرتباط روحيّاً بالأرض والإنسان تاريخًا وأنثروبولوجيا،كان يحاكي المتلقي بلسانين،فمرة يهمس في أذن النخبة همسات عاجلة،وأخرى يلامس الارض،
مقارباً المحكية، موازياً لها،صاعداً بها،إلى روح الوعي النوعي بالسرد والدراما والحوار والادانة والإحتجاج الساخر.
وكثيراً ما سمعتُ استغراب البعض من هذه الخصوصية (الكاظمية)،حد سوء الفهم لهذا الشاعر الكبير !،ولا أكشف سراً حين أقول إن بساطات الحجاج التعبيرية هي سرُّه الكبير، لانها تنطوي على أعماق الشعور الانساني الجمعية الدفينة.
بالإجمال إن شجاعة الحجاج التعبيرية نابعة في حقيقتها من عدم رضوخه للأنوية الإستعراضية،وإصراره على الوصول إلى أوسع الشرائح الإجتماعية، نازلاً إلى الناس،متمسكاً بألأصل الحداثوي الذي ينحاز إلى أنّ غاية الفن عمومًا، والادب خصوصًا هي الانسانية الطيبة.فهو بالنتيجة أديب لايعبأ بالترف التعبيري،ولايخفي انحيازه الشديد إلى خط الإلتزام ،
وليس بعيداً عن الذاكرة مقولة فيشر" كلما اقترب الشاعر من محليته أكثر ،إقترب من عالميته أكثر".وهذا ماحصده في تتويجه الأخير.
فلقد ظلَّ يغترف على طول المسار من التاريخ المحلي إسطورة وواقعاً وفولكلورًا ومناخات شعبية،صادحًا باللهجة العراقية المفعمة بروح التحدي:
(( العاليات انزلن . والمايطيرن طرَن ..)).
متداخلًا بهذه الإهزوجة العامية،بسلاسة ومَكَنة أدائية محترفة.نازلًا بجواده الشعري الأصيل من أقصى الشمال إلى أقصى أهوار الجنوب. مارّاً عبر مساحات جغرافيةوتاريخية وسياسية شاسعة،لاينحاز فيها إلّا إلى بلده الجريح، بروح كاشفة للمسكوت عنه،فاضحة لأسباب الماساة، عاشقة دافقة لاوصف يناسبها إلّا جغرافية العراق وشعب العراق.
...
ملاحظة: تاريخ قراءة النص في
2018/6/24
………………………
1-كتاب "إسطوريات" لرولان بارت صادر عن دار الجمل بيروت ترجمة توفيق قريرة.
تعليقات
إرسال تعليق