الشاعر السوري فايز خضور : بريد السماء الإفتراضي بقلم الأديب أسعد الجبوري
الشاعرُ السوري فايز خضوّر
في بريد السماء الافتراضي
_______________________________________________________________________
س:هل كنتَ الظل أم حارس المقبرة يا فايز خضوّر؟
ج/ذاك كان كتابي الأول الذي سبق لي وأن نشرته في مطلع الستينات من القرن العشرين.يومها لم يكن الموتُ غير ظلٍ مشوش.ولم أكنْ أنا غير حارس فرجةٍ على رواد المقبرة.
س:في أية مقبرةٍ كنت تحرسُ وعن أي رواد تتفرج؟
ج/لم تتضخم المقابر برأسي إلى حدّ الفزع آنذاك.ولكنني بدأت بتحسسها ذهنياً حيث تنمو وتتكاثر بصمت .
س:هل يحتاج الموتُ إلى حراسة أو إلى حراس؟
ج/أجل.فأجمل ما يكون الموتُ عليه،أن تصبح أنتَ حارسهُ ،وأن يقبلك ظلاً له في جميع الأمكنة.
س:وماذا عن أزمنة الموت يا فايز؟
ج/أزمنتهُ ممراتٌ تملؤها الخيول والسلاحفُ والرمالُ والأعشابُ والثورات والطغاة والجلاوزة من أصحاب القدرات الفائقة في التخابر والنذالة.
س:والحب. هل تنعدم العلاقةُ ما بين الموت وبين الحب؟
ج/لا يوجد فاصلٌ ما بين الاثنين،لأنهما بمصير واحد.فالقيمة العظمى للحب لا تتم بغياب الموت كمحرضٍ وكدافع للإنسان على الاستغراق فيه قبيل مجيء عزرائيل.
س:هل اغتنم فايز خضور تلك الفرصة وأغرق نفسه بالحب خوفاً من أن يسبق عمرهُ؟
ج/كنت بعيداً عن الحب تماماً.ويوم أردتُ اغتنام فرصة التعرف عليه ،سرعان ما التقطتهُ من ياقته.
س:ولمَ أمسكتهُ من ياقته .هل كان حباً غارباً أم هارباً أم موارباً ؟
ج/هو كل ما قلته عنه من توصيفات .لذلك لم تسعفني يدايّ لاحتضانه وشمّ رائحته للتمييز ما بين الحب عطراً عابراً وما بين الحب دَهراً سائداً .
س:بأي عين نظر الشاعرُ فايز خضور إلى المرأة ؟
ج/بالعين التي التهمها العمى.
س:أكنتَ عدواً للمرأة أم قاسياً مع النساء ؟
ج/كنت مخبولاً بكلّ حبٍ عرضي.وربما لم تكتمل صورتي في فرن الغرام حتى بعد رحيلي عن لُحوم النسوة.بعبارة أكثر شراسة ووقاحة ،كنت في حروب دائمة مع نون النسوة.
س:هل أكلت نونهنّ في السرير أم في الأدب ؟
ج/لا أعتقد بأن الأدب مناسب لهذا الجنس من البشر.ولا هنّ مؤهلات لتحبير الورق إلا بمياه الغسالات.
س:كأنك تحاول نفي الكتابة والإبداع عن المرأة .وتسفيه أعمالهن الأدبية .أليس كذلك ؟
ج/أعتقد بأن صحة الكتابة الأدبية لا تتوفر في المجال النسويّ،فتلافي ضعف الآداب ،يتم بحبر الذكور وحدهم.
س:ألا تعتقد بأنك مخطئ بتبني نظرةٍ دونيةٍ كهذه، لأنها تتنافى مع الواقع الذي فرضته الكاتبات على الأرض وفي خلايا الورق؟
ج/أشكُّ بذلك حكماً. لقد قدمتْ وسائلُ الإعلام ومنصات الميديا نصوص أغلب النسوة بدافع المنفعة الشبقية والتمتع برائحة الجنس أملاً بالوصول إلى اللحوم الطرية البضّة.هذا أولاً. وثانياً لمساهمات الكتّاب الذكور بدعم منشوراتهنّ.
س:هل تعرض الشاعر فايز خضور لمؤامرات ما من قوى الجنس الناعم ؟
ج/بالتأكيد. لذلك لم تكن هذه قسوة أو ردّ فعل على ما جرى في تاريخي الشخصي القديم من كوارث وخيانات ومعارك،بقدر ما كانت المرأة بنظري جوهر العدم.
س:أهكذا رأيت النساء يوم كنت على الأرض هناك يا فايز؟
ج/بالضبط. كنّ أرانب في معلبات غذائية،وما أن يصبحن في الخارج حتى يتحولنّ إلى دبابات يسحقنّ كلّ من يعترض طريقهنّ إلى عالم الملاهي.لذلك لم تبهرني ثقافة المرأة بقدر كهوف ما بين السيقان.
س:هل سبق وان راجعت طبيباً نفسياً ؟
ج/أجل. فطالما تأخذُ الحكومة ذلك على عاتقها ،فعالجت جميع أمراضي النفسية عند أطباء السجون.أقصد في أقبية المخابرات.
س:هل كنت محكوماً بالفوضى الذهنية السوداء،فأتت عناوين كتبك الشعرية وكأن أغلفتها توابيت ((الظل وحارس المقبرة/ صهيل الرياح الخرساء/ أمطار في حريق المدينة/ ويبدأ طقس المقابر/ الرصاص لايحب المبيت باكراً/ثمار الجليد/ نذير الأرجوان/ ستائر الأيام الرجيمة/ قداس الهلاك/)).هل الشعر إعلان عن موت في تجربتك؟
ج/الشعر بذهني هو طقس ذو بعد واحد للحِداد على الحياة.وربما وجدتُ في الموت كامل عدم اليقين بمختلف الآلهة.
س: لذلك كانت الحياةُ مواتٌ في قصائدك التي أتعبتها بمزاجك المعتم المهووس والضيق؟
ج/لم أجد في جسدي محفظةً لتوفير القلق والاستغاثات والألم والعتمة والأنين،لذلك كنت منفلتاً بالحكي وبالتأليف وبالأحلام وبالشتائم وبالعربدة إلى الحدود القصوى.
س:كم من الحواس أفقدك الوجود هناك؟
ج/ أفقدني حاسة القلب والحكمة والسكوت.ومنحني قوة التنمر فقط.
س:وما الحواس التي خبأتها لعمر ما بعد الموت يا فايز خضور؟
ج/حاسة النشيد الوطني ومليون بطحة من عرق الريان.ألا تكفي كمية بهذا الوزن لمرافقة ميت مثلي؟
س:كيف يتدخل الخمرُ بالكتابة؟
ج/مثلما يتدخلُ الديكُ بصنع مكوّنات البيضة في رحم الدجاجة.
س:تقصدُ ما يشبه التدخل التناسلي في المبيض،حيث يتم تكوين القشرة والمُحّ والبياض وبقية المكوّنات؟
ج/بالضبط.فلم يهزّني الإيقاعُ دون تسلل الخمر إلى منصة العقل بعد الكأس الثالث.وتكرّ المسبحة بنزول بقية مكوّنات القصيدة وزناً وقافية في بقية الحواس .وهكذا دواليك.
س:هل تعتقد بوجود خمر مثيولوجي وآخر سياسي أيديولوجي وثالث من مصنفات هسترية؟
ج/حينما تتشابك الأقداحُ ببحار بعضها وتفقدُ الزجاجةُ بوصلة الطريق بين الأصابع،تتساوى الخمور في هدف استراتيجي واحد،ألا وهو الهادفُ إلى كسر السجن الذاتي والتحرر من عقدة الخوف.
س:هل التحرر من الخوف أولاً ،وقبل التحرر من الوزن والقافية والإيقاع؟
ج/لم أجد أشدّ من الخوف قيداً.
س:لذلك بقيت مخلصاً للوزن دون التخلّي عن نظام التفعيلة شأنك شأن شعراء الستينات في سوريا ممن اعتصموا بالنهج السلفي، فصاروا من أهل الكهف ولكن بفوارق محدودة ؟
ج/أنا حاولت أن أنجو بنفسي من التحنيط إلى حدّ ما.ابتعدتُ عما كان يفعله شعراء الستينات حينما أدخلتُ على قصيدتي مهارة بالشكل تعتمدُ السباكة والمونولوج بنسيجها الداخلي وكذلك بالتشكيل الأسطوري لرفد الشعر بخاصية لم تكن موجودة آنذاك. أو لنقل إنها كانت شبه منعدمة عند شعراء النكسة والغم والبؤس والبكائيات.
س:ألا تعتقد بأنك كنت تنحتُ شعركَ بفأس كما يَنحتُ الصخر من طرف جبل أسود مُكْفَهِرّ ؟
ج/أليس ذلك أفضل من الكتابة بالحبر على ورق أو تطريز الكلمات على قماش نسواني بنسيج مشترك مع نايلون؟
س:أتظنُ بضرورة نحت القصيدة أو جعلها من أعمال سباكة الحديد على سبيل المثال؟
ج/أنا فعلتُ ذلك بهدف واحد:أن لا تفسد القصيدة من وراء تفسخ الكلمات وتعفن الإيقاع ضمن مراكب الجمل وتراكيبها؟
س: وكيف يُصاب الإيقاع بالتعفن؟
ج/عادة ما يأتي ذلك من وراء عمليات تهجين الأصالة مع حيوانات الحداثة بقوة شبيهة بقوة السلاح.وأجزم أن لا حاجة للشعر بـ ((الميوعة )) التي أدخلها حلفاء الحداثة الغربية على الشعر العربي منذ السياب وحتى طاقم مجلة شعر وما تبعهم بعد ذلك من مريدين .
س:وهل كان ذلك سبباً مباشراً لوقوفك على أطلال التفعيلة ومناهضتك لقصيدة النثر؟
ج/شكلّ شعرُ التفعيلة عندي فضاءات للكتابة المُرفقة بالأبعاد الفلسفية والسياسية والنفسية الحادّة.كنت كمن يحملُ على كتفيه مقبرةً لا رأساً.لذلك لم أرَ بقصيدة النثر سوى حضانة أطفال ،كلما كتبوا شيئاً ،سرعان ما تتضح معالمُهم في (الشخبرة والشخابيط ) وإنتاج أطنان من النصوص السائبة.وكان ذلك ما يزعجني ويسبب لي الصداع اللغويّ .
س:هل تُسببُ لك حريةُ التغيير صداعاً.
ج/لا. الصداعُ قليل. لقد عشتُ والحرية عيشة صَيْدليّ مع مومس.لا هي قادرة على منحي الطمأنينة في الفراش،ولا أنا أملكُ جرأةً لمنعها من التَّدَاوِي بعقاقيري.كلانا كان يزاولُ عملهُ بفزع ورعب.
س:ولكن ألمْ تكن الحريةُ جميلةً في بلادك القديمة يا فايز ؟
ج/أجل كانت جميلةً جداً .جميلةً وتُلبَسُ بالأقدام .
س:أليس صحيحاً أن الإيقاع يُعلّم الشعراءَ السخط؟
ج/لا أظن ذلك.فالسخط من أركان الشعر.إنه أشبه بالكعبة التي تنصُّ على وظيفة الطواف حولها أربعين عاماً.
س:ولمَ الأربعون من الأعوام؟
ج/أنها السنوات العجاف من عمر الشاعر.وبمجرّد تخطيها، يكون قد خرج عن مضمار السباق،وصار من فصائل الشيخوخة.
س:أتعدّ عمر الشاعر ما بعد الأربعين بالزمن المرّ.
ج/بزمن الحطب.
س:ولكنك تجاوزتَ سنوات ذلك العمر ضعفاً ،فبلغت الثمانين ؟!!
ج/نعم. أربعون عاماً بتصنيع الخشب،ومثلها باشتعال الحطب.
س:كم كانت فاعلية تزوّدكَ أيديولوجياً ببنزين الحزب القومي السوري ؟
ج/ لم تصل إلى مرحلة رماد العنقاء بالتأكيد. مررنا بالملاحقة والنفي والسجن وتصنيع مسابح الخرز الملّونة.
س:هل استطاع الحزب القومي السوري ضبط جنون فايز خضوّر وانفلات عجلاته على الطرق وفي الحانات والمقاصف ؟
س:لا أبداً. لم يستطع أحدٌ ضبطي في حالات الهياج وفوضى العقل ،حتى أنني كنت أرى الرفيق انطون سعادة في الكثير من المنامات وهو يهدّدني بالخروج من قبره لتربيتي حزبياً .إلا أنه سرعان ما يكفّ عن ذلك بفضل محبته لشعري.
س:ألمْ يؤنبك الرفيقُ سعادة على ملازمتك لشعر التفعيلة وعدائك لقصيدة النثر؟
ج/لم يفعل ذلك أبداً.والجميع يعرف أن طبقات لحمي مُلصقةٌ على عظامي بنظام علم العروض فعولن، مفاعيلن، مفاعلتن، فاعلن، فاعلاتن، متفاعلن، مستفعلن، مفعولات.
س:ألا تعتبر إن تأليف الشعر العمودي وكتابة قصائد التفعيلة كانت من أعمال الروبوتات حتى قبل اكتشافها ؟
ج/اللعنة عليك يا أسعد .
((يتبع))
تعليقات
إرسال تعليق