PNGHunt-com-2

الإستدراج والإبتلاء : بقلم الناقد كريم القاسم

( الاسـتـدراج والإبـتـلاء )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*(اللّهم لا تستدرجني بالإحسان ولا تؤدبني بالبلاء)

ــ الدعاء هو أحد فنون الادب النثرية الذي يتميز بدقة النسج ، ورَفاهَة التركيب ، والسجع الجميل ، والمَجاز البليغ ، الذي يحمل مسحة قرآنية واضحة .

ـ الدعاء هو رياضة روحية ودواء ناجع لإصلاح الذات البشرية ، والذي طالما كان هو الهدف المرجو والمقصَد المطلوب .

ــ إن لآل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم منزلة عظيمة ، فهم الدعاة الحقيقيين لرسالة السماء بعد نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين)
وهم المادة النقيّة لانعكاس الأدب الانساني وجوهر العبادة .
وهم ورثة النبوة ، لساناً وخلقاً.
وما وجد التاريخ لهم هفوة أو إساءة طيلة فترة عيشهم وسط بحر متلاطم بالمشاكل والاشكاليات ، بل كانت حياتهم جلّها تضحيات ، ودعوة في سبيل الحرية وإحقاق الحق ، والاستدلال على مواطن الرفاهية المجتمعية ، كون الانسان هو الغاية الاسمى في الحياة .

ولذلك ؛ نجد اجلالهم وتوقيرهم وتبجيلهم قد تُرجِمَ على لسان الكثير من اهل العلم من المدارس الاسلامية .

ـ فقد جاء في (عقد اللآلئ والزبرجد في ترجمة الامام الجليل أحمد( للعجلوني ) وتحقيق محمد بن ناصر العجمي / دار البشائر الاسلامية ، عندما كان (احمد بن حنبل) رحمه الله ، يُعذب بالسياط أبان الحكم العباسي في زمن المعتصم في مسألة (خلق القرآن) والقصة المعروفة  :

(روى أنه كان كلما ضُرِبَ سوطاً أَبرَأَ ذمة المعتصم . فسُئِلَ فقال : كرهتُ ان آتي يوم القيامة فيقال هذا غريم ابن عم النبي صلى الله عليه واله وسلم ، أو رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم).

ـ وهذا مثال واحد من كثير لسنا بصددها الآن منعاً للتطويل والاستطراد .

ـ لاشك إن منطق اهل البيت مستوحى من القرآن الكريم ومن كلام سيدنا محمد (صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين) كونهم تربّوا في كَنف الرسالة ، واستنشقوا عبير النبوة.

ـ لذا فلنبحر في (دعاء) الامام الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما:

(اللّهم لا تستدرجني بالإحسان ، ولا تؤدبني بالبلاء)

ــ إن الدارس والباحث في تراث اهل البيت سيجده مكللاً بسِمَة الدعاء .
وهذا التراث الثري قد تميز بالوفرة والبلاغة ، وقوة الحجّة والبرهان الساطع ، مع أدبٍ فريدٍ من نوعه في التخاطب مع الذات الإلهية .

وللدعاء أسرار قد يَغفل عنها الكثير ، فهي ليست مجرد رصف كلمات ، وتجاور الفاظ بسيطة او معقدة ، بل لابد ان يَستمد الدعاء مادته البلاغية من القرآن الكريم ، أو الحديث النبوي الشريف . فقد يؤدي الرصف الخاطيء للمفردات عكس مايرجوه صاحب الدعاء .

والدعاء ليس غريبا على طبع الانسان . فهو وسيلة الانقاذ الروحية على وجه البسيطة ، وهو الملجأ الآمن والوحيد عند نزول الشدائد والابتلاءات رغبة في الخلاص والنجاة .

• لماذ دعاء اهل البيت ؟

ــ إن المُتطلع الى الكمِّ الوفير من الادعية الواردة والمؤلَفة قديماً وحديثا ، سيجد تبايناً كبيراً بين ادعية (اهل البيت) والادعية الاخرى ، لما تحتويه وتتضمنه من دقَّة النسج ، ومتانة الاسلوب ، وكثافة اللفظ ، وبلاغة المعنى .

والأهم من ذلك كله ؛ هو انها لاتتقاطع مع القرآن او الحديث النبوي الشريف ، بل انك تشعر عند قرائتها وكأنها تفسير لآي القران الكريم ، حتى تجد نفسكَ سارحاً في ملكوت شفاف ، ُيحرِك كلّ مفاصل الوجدان الحيّ .

•  كل النقّاد واهل الاختصاص وجدوا إن اهل البيت هم القلم الأعلم بهذا الفن .
بل وهم الفكر الأسنَم ، لايرقى منارتهم مُرتَق ، ولا يصل شأوهم مُستَق .

وقد تنوعت اهداف ومقاصد الادعية في التاريخ وعلى مختلف الألسن من الدعاة المسلمين ممن أجادوا اسلوب الدعاء .
فما مِن حاجة إلا وتجد لها دعائها الخاص ، واسلوبها المتفرّد ، حتى جَمَعَ وبوَّبَ اهل العلم الكثير من المصنفات والكتب والمراجع بهذا الخصوص ، لما تحويه من تراث عميق الاثر نقي الوجدان .

• بعد هذه المقدمة المكثفة ، لابأس أن نبحر في دعاء الامام الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهما وارضاهما :

(اللّهم لا تستدرجني بالإحسان ولا تؤدبني بالبلاء)

نوع الدعاء /
ـــــــــــــــــــــــ
الادعية نوعان من حيث مساحة الفضاء التأليفي (طويل وقصير).

الدعاء الماثل أمامنا هو من النوع (القصير) ويأتي حاملاً نكهة الومضة .

وهكذا دعاء قصير يأتي ضمن إرهاصات وجدانية ذاتية للحظة تأمل آنية ، وفي لحظة عَوز النفس البشرية الى السماء .

الإيجاز /
ـــــــــــــ
الايجاز في الكلام هو جوهر البلاغة ، وفيه ينقص التعبير على قدر المعنى .

ولوتأملنا الدعاء الماثل ، لوجدنا معان كثيرة صُبَّتْ في الفاظه القليلة ، وقد تضمن الافصاح والإبانة .

• لماذا الايجاز في هذا الدعاء ؟

ــ إن آل البيت لم يحتكروا الدعاء ويجعلوه سراً مخزونا يتوارثونه هم فقط ، بل كانوا دعاة أصَلاء أنقياء أتقياء كِرام بَرَرة .

فهم طلاب مدرسة محمد ، وورثة علمه . لذلك ففي إنشائِهم للأدعيه يشرق هدف أسمى من الهدف الشخصي ، فهم من قال فيهم ( الفرزدق ) :

(إنْ عُـدّ أهْـلُ الـتّـقَـى كـانـوا أئِـمّـتَـهـمْ ..... أو قـيـل مَـن خـيـرُ أهـل الأرْض ، قـيـلَ هُـمُ )

ـ لذلك ففي إيجازهم للدعاء يرومون الإختصار ، وتقريب الفهم للمتلقي ، وسهولة الحفظ .

الإستدراج /
ــــــــــــــــــــ
في المعاني الجامع :

(استدرجَ اللهُ العبدَ: أخذه قليلاً قليلاً ولم يباغته ، أمهله ولم يعجّل عذابَه)

ـــ الاستدراج فعلٌ إلهي لايخص (الكافر) فقط بل يخص حتى (المؤمن) . والعبد حين تتوالى عليه النعم وهو مستمر بالذنب فهو مُستدرَج من حيث لايعلم.

• روى الامام احمد في مسنده :

جاء عن عقبة بن عامر عن النبي (ص) قال :

(اذا رأيتَ الله يعطي العبدَ مِن الدنيا على معاصيه مايُحب ، فإنما هو إستدراج )

ـ ولوتمعنا في الشطر الاول من دعاء الامام الحسين (إللهم لا تستدرجني بالإحسان) لوجدنا لفظة الاستدراج يتضمنها الآي القرآني في مقامات كثيرة .

ــ مثلاً ... في قوله تعالى :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) القلم : 44 ، 45

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) الاعراف: 82

ــ لذلك نجد معنى الشطر الاول من الدعاء هو الخوف من استدراج الله لعبده بالنعم المتوالية . وهذا الاستدراج هو أشبه بالفخ الإلهي الذي لا يَنجُ منه إلا مَن تدارَكَ الأمر في الوقت المناسب وقبل فوات الاوان .

لأن هذا الاحسان هو نعمة ظاهرة قد تُغري صاحبها الى الولوغ في الذنب والاساءة ، لكن باطنها هو السِرّ الإلهي العظيم ، حين يأخذ عبده المسيء أخذ عزيزٍ مُقتدِر .

ـ وهذا المعنى تضمنته معظم آيات القران التي تحوي هذا اللفظ .
فاستدراج الله لعبده المذنب هو الأخذ له شيئا فشيئا ، دون مباغتة أو مفاجئة أو عَجَل ، حتى تحلّ العقوبة في وقتها المُقَدَّر .

ــ اذاً الاستدراج يقابله البلاء دائما .

ولو تأملنا مواضع لفظة (الاستدراج) في القرآن الكريم لوجدناها تتضمن ذات الغاية وهي العقوبة والابتلاء ، ولذلك بعد كل استدراج يتبعه كيد الله المتين .

يقول الله تعالى :

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ الاعراف : 182، 183.

ــ ونلاحظ ان في الاستدراج ؛ هنالك فسحة زمنية مناسبة تختلف مِن إستدراجٍ لآخر ، وكما تقتضيه الحكمة الإلهية . وفي هذه الفسحة يتجسد عطف الله ورحمته بجعل العبد في محطاتِ فُرَصٍ لعلهُ يتوب أويستجيب .

التأدّب/
ـــــــــــــ
ـ جاء في المعاني الجامع :

اَدُّب: (اسم)
مصدر تَأَدَّبَ

التَّأَدُّبُ : التَّخَلُّقُ، الاِقْتِدَاءُ، الاِحْتِذَاءُ

أدَّبَ أَبْنَاءهُ فَأحْسَنَ تَأدِيبَهُمْ : هَذَّبَهُمْ، رَبَّاهُمْ تَرْبيَةً حَسَنَةً ، مَنْ أَدَّبَ وَلَدَهُ صَغِيرًا سُرّ بِهِ كَبِيراً .

أدَّبَهُ الْمُعَلِّمُ لِتَصَرُّفِهِ السَّيِّءِ : عَاقَبَهُ عَلَى تَصَرُّفِهِ.

ــ إن المُراد بـ (الأدب) يختلف عن المراد بـ (التأدّب) فالأدب هو رياضة نفسية لجمع محاسن الاخلاق ، بينما التأدّب يطلق على تعلّم الأدب والدعوة اليه ، مع المعاقبة والتعزير على سوء التصرف فيها .

ـ لذلك عندما نقول :

زيدٌ أدَّبَ عَمر ، اي عاقَبهُ وعزَّرَهُ على الذنب أو الاساءة .

•  بعد هذه الفوائد ، لنتأمل الشطر الثاني من دعاء الامام الحسين :

(ولا تؤدبني بالبلاء)

ــ البلاء هو الجهد الشديد في الأَمر .

والابتلاءات كثيرة ومتنوعة يعاقب الله بها عباده المسيئين على مَرِّ الأزمنة والدهور .
لذلك يؤكد الامام الحسين على ان البلاء هو نوع من التأديب الالهي لعباده ، وهذا التأديب سيكون فيه شدَّة وصعوبة ، فهو عقوبة لايستهان بها ، كونَه عقوبة السماء .

إذأً الشطر الثاني يتضمن اشارة بلاغية خفية ، وهي (ربّي إذا كُنت تريد تأديبي فلا تأدّبني بالبلاء ، فإني عبد ضعيف لا اتحمل الابتلاءات)

ـ وهذا من جميل القول وأحسنه في الاشارة بين يدي الربّ الرحيم لتصحيح الإنحراف .

ـ إن هذا النوع من التأديب يشتمل أمرين مِن أربع ، وهما ( تأديب انتقامي ، تأديب عقابي) . والأمران الآخران ليس هذا مقامهما .

• الاول /
ـــــــــــــــــــ
وهو أعظمهم وأكثرهم تدميرا ، كونه يخص الظالمين ، فيستدرجهم الله الى مصير محتوم وهو الفناء .

ــ كقوله تعالى :

﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ القلم : 17، 18 ، 19 ، 20

• الثاني /
ــــــــــــــــ
فيه شِدَّة وأهوال وصعوبات ، يعاني منها العبد كي يُصحح مساره بعد الاساءة والذنب .

ـــ كقوله تعالى :

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) البقرة: 155

ـــ مما تقدَّم نستدل على إن الحسين بن علي بن ابي طالب (رضي الله عنهما ) قدَّمَ لنا دعاءً يُعَدُّ أنموذجا في أدب الدعاء ـ كون الخطاب بين العبد وربه ـ فقدَّم صورتين بلاغيتين لتفادي العقوبة الالهية .

ــــ وأيّةِ عقوبة ؟

ـ إنها الاستدراج والبلاء .

و تضمَّنَ الدعاء مفاهيماً قرآنية تخصّ ذات الامر ، لكنها تكثفتْ بشطري دعاء .

وقد اكتفى الامام بالشطرين ، لأن غاية الدعاء هو دفع البلاء .
والبلاء نتيجة للذنب والإساءة ، أمّا وسيلة العقوبة فهي الاستدراج والتأديب .

•  ويبقى اهل البيت مصابيح هدى ... فهم :

مِـن مَـعـشـرٍ حُـبـهُـمُ ديـنٌ وبُـغـضُهـمُ ..... كُـفـرٌ ، وقـربُـهـمُ مَـنـجىً ومُـعـتَـصًمُ

يُـستـَدفَـعُ الـسُّوءُ والـبـلـوَى‌ بِـحُـبِّـهـمُ  ......  وَ يُسـتَـزادُ بـهِ الإحـسَانُ وَالـنِّـعَـمُ

مُـقَـدَّمٌ بَـعـدَ ذِكـرِ اللَهِ ذِكـرُهُـمُ         ....... فـي‌ كُـلِّ فَـرضٍ و مَتخـتُـومٌ بـهِ الـكَـلِـمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

احترامي وتقديري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي