قراءة للناقد العراقي أحمد العبيدي في قصة طهماز للقاص هادي المياح
قراءة نقدية لقصة طهماز
شفرة الخطاب وتشكيل الصورة للقاص هادي المياح
بقلم الناقد أحمد العبيدي من العراق
القصة:
""""""""
طهماز
،،،،،،،،،،
عندما كانت البساطة عنوان كل شيء، والفقر رأسمال الإنسان. كانت البيوت مبنية من القصب والبردي، بلا أبواب ولا شبابيك، أسيجتها مهلهلة، تتيح النظر من خلالها إلى المارة وبالعكس، وبإمكانك أن تسمع كل ما يدور في بيت الجيران والبيوت القريبة.
آنذاك كانت الحياة مثل قرية يتصارع أفرادها بسبب بقرة عبرت الحدود أو حمار اكل من زرع احدهم أو ديك هاجم دجاجة لآخر، لكن أهل القرية مع ذلك، كانوا يطاردون اللص مثل رجل واحد.
قال لي احدهم: كنّا نسكن بجوار طهماز، وهذه المرأة تشبه نساء ما قبل التاريخ. ذات يوم، جاءت بطينة ووضعتها بمحاذاة باب بيتنا، وهيّأت لها كل السبل لتختمر.
طينة طهماز من الطين الحرّي غطست بنفسها في ماء النهر وأخرجتها من القاع، حمراء طرية تتلألأ بأشعة الشمس مثل زبدة. عندما رأيتها، قلت لها: ماذا تفعلين بهذه الطينة؟ قالت: "اصنع بها تنّورا."
قلت: وهل تنّورك هذا سيكون أمام باب بيتنا؟ قالت متهكمةً: "اذكر الله يا ولدي، حجرتك هنالك بعيدة عن الباب" قلت لها بحزم: توقّفي بالله عليك، فهذا يضايقنا كثيرًا قالت لا أتوقّف حتى اكمله وحين يتم ذلك، سأهبكم يوميًا منه خبزًا حارًا…!
كانت تتحدث معي وهي لا تزال مستمرة في العمل، مما أغاظني، إضافة إلى إنني لم أستطع أقناعها بالتوقف رغم محاولاتي الكثيرة خلال الأيام التالية. أما التنّور فقد أخذ يرتفع بناؤه يوما بعد يوم، وكان الألم يعتريني كل يوم حتى ضقت بها ذرعا.
حينذاك تدخّلت والدتي، وتحدّثت معها وكان حديثها لا يخرج عن الأدب لغرض أقناعها، لكنها فشلت في النهاية أيضا، وهل تنجح والدتي بإقناع امرأة من عصور ما قبل التاريخ؟
اكتمل تشييد التنّور، وزغردت طهماز بصوت عالٍ، وراحت ترمي بداخله شعلة غرست طرفها بالنفط، ودسّت فيه ما يكفي من الحطب.
وكلما تأججت شعلة الفتيل، أتتني زغردتها مجلجلة وتصاعد من فوهة التّنور لهب ناري مصحوب بدخان أخذ يتشظّى إلى قطع سوداء متباينة الأحجام تشبه مجموعة من طيور السنونو، ظلت تحوم في فضاء الدار ثم تتساقط تباعًا على الأرض النظيفة المرشوشة.
وبدأت رحلة المعاناة مع التنور، ودخانه الذي اقتحم دارنا عنوة ووصل حتى الحجرة "البعيدة" الوحيدة، وكنّا يوميا نُسمعها كلمات التوبيخ ونرمقها بنظرات الوعيد. ثم تطوّر بنا الأمر فرفضنا خبزها، و امتنعنا حتى عن السلام عليها.
وفي يوم اشتدّ فيه حقدي، فكّرت بطريقة ما للردّ على تماديها وسطوتها، فرحتُ أداعب فكري ومخيلتي. وما هي إلّا دقائق وإذا بي أراها تأتي مزهوة بشكلها وترتيبها، حينذاك استبشرت وغمرني شعور مختلف. وعلى غير عادتي لم افكر بالنتائج ولم أتحسب لما سيحدث لي بعد ذلك أبداً. فقد أحببتها كما لو أنها فتاة شابة جميلة رأيتها لأول مرة وأعجبتني.
كانت بالنسبة لي مثل اكتشاف مهم وغير مسبوق، كانت أفضل فكرة.. نعم، لقد فكّرت أن افجّر التنور…!
انفردت لوحدي في ملحق الحجرة الصغير، ورحت أحاول صنع مفجر صغير بواسطة علبة من الزجاج، وضعت بداخلها فتيلًا، أشعلته واغلقتها ودسستها مع أعواد الحطب داخل التنور، وظللتُ منزويًا في الحجرة، انتظر سماع دوي الانفجار.
عندما رأيتها أمامي بوجهها الأسود، الذي بالكاد تظهر منه ثقوب عينيها، خنقتني الضحكة وكنت منشغلا بالرد على ضابط الشرطة وهو يحرر محضرًا بالقضية:
- ما اسمك؟
- محمود.
- ما شغلك؟
بقيت فترة أفكر، وأنا أحاول العثور على جواب مناسب، كنت لا أرغب بالإفصاح عن "مهنتي" خوفًا من الابتزاز. فتقمّصت مهنة غير مألوفة، آنذاك، خطرت بذهني. فأجبته:
- أنا أديب!
قطب الضابط أعلى حاجبيه وقال مستفهمًا: "أديب؟ ماذا تعني كلمة أديب؟"
قلت: اكتبها كما سمعتها أنت غير مسؤول عن فهم معناها! هنا غضب الضابط وقال: "هل أنت من فعل كل هذا السواد والسخام بوجه هذه المرأة المسكينة؟"
جعلني سؤاله أشعر بالغيظ، حتى "فار التنور" واشتد لهيبه، وتخيّلت طيور السنونو تحلق فوقي مباشرة.
أجبت وأنا أرمقه بحنق، بينما كان على وشك أن يرفع أوراقي إلى القاضي: هذه المرأة اِسودّ وجهها مرة واحدة واشتكتْ، ونحنُ صامتون صابرون، والسخام يملأ وجوهنا منذ فترة طويلة.
القاص هادي المياح
،،،
نص المطالعة:
""""""""""""""""""
يتكئُ القاص المياح في خطابه السردي في قصة "طهماز" على عملية انتقال شفرة الخطاب اللغوي (Code Switching) بين الراوي والمروي له. فالراوي الأول/ الرئيسي يبدأ بتهيئة الفضاء الإيكولوجي للقص من خلال تشكيل صورة ذهنية (Image) وهي صورة تجريدية تعتمل في ذهن المتلقي لبيوتات القصب والبردي في زمن الهدوء والبساطة والعفوية وبياض السريرة يرسمها بالكلمات كما رسم مواطنه وابن ولايته من قبل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب لوحة:
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ.
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ... كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
ثم يحدث انتقال في الشفرة الخطابية عندما يأتي دور الراوي الثاني/ الحكواتي ليكمل ما بدأه الأول من خلال خطاب مباشر منقول عنه: "قال لي أحدهم: كنا نسكن بجوار طهماز....". ثم يعمد الراوي الى تشكيل عدد من الصور شكلت مودم الحبكة القصصية بدأً بصورة الشخصية الرئيسية "طهماز" القادمة من أعتاب ألف ليلة وليلة وهي تمتلك قدرات سحرية خارقة في جلب التراب "الحري" من أعماق نهر الفرات لتصنع منه عجينة مختمرة كأنها زبدة (دلالة اللون)، ثم الصورة الفيلمية للتنور (المنتجة بعدسة فيدوية لمصور محترف) وهو يشتعل كبركان تتطاير منه قطع اللهيب المشتعل كطيور السنونو - على حد تعبير الراوي - و يلقي بحممه على الأرض الطينية النظيفة المرشوشة بالماء كبقعة سوداء على منديل أبيض على حد تعبير الشاعر وليم وردزورث. وهنا لدينا صورة فوتوغرافية ساكنة (يمكن سحبها على ورق بوسكارت)، ليختتم المشهد بصورة فوتوغرافية لبطلة القصة طهماز وقد تلفعت بالسواد لا تعرف منه سوى بياض عينيها.
القصة تحمل ثيمة الانتقام (The Revenge) من خلال التطهير النفسي (Catharses) وهي عملية الشعور بالراحة بعد المرور بأزمة كما يشير أرسطو. وقد تحققت من خلال انتقام الشخصية المضادة (The Antagonist)/ "محمود" من الشخصية الرئيسية/ "طهماز" في النص. ومما زاد في حالة تأزم الحدث هو تجاهل طهماز/ الشخصية الدكتاتورية لكل طلبات الآخرين واحتجاجاتهم ورفضهم أساليبها البربرية في إلحاق الأذى بالآخرين: "فرفضنا خبزها" وسيلة العيش الرئيسية، "وامتنعنا حتى عن رد السلام عليها..." وسيلة التواصل السلمي بين أفراد المجتمع. ولم تنفع كل محاولات الآخرين في اقناعها بالعدول عن تغليب مصلحة "الأنا" الذاتوية/ المستبدة على حساب مصالح "الآخر"/ المؤدب مما حدى بهم – بعد أن بلغ بهم الحنق أشده و"فار التنور" – فلم يكن بدا من فعل الانتقام، وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان.
وقد شكلت العقدة في آخر فقرة للنص مثلما شكلت قصة "ماسح زجاج السيارة" نفس الخاتمة مع فارق بسيط هو أن البطل هناك عدل في آخر لحظة عن رغبته في الإنتقام بعد تغليبه الأنا العليا.
هناك تسقيط سياسي يظهر من خلال شخصية ضابط الشرطة الذي يجهل معنى كلمة "أديب" وهمه الأول هو ابتزاز مواطنيه في حين يجب أن يكون هو حامي القانون: "لم أرغب بالإفصاح عن مهنتي خوفا من الابتزاز "، وكذلك في جملة "اسوّد وجهها مرة واحدة...، ونحن ساكتون صابرون لفترة طويلة يملأ وجوهنا السخام". النص جيد السبك من خلال البناء الفني ومتفائل كثيرا من خلال الخطاب البراغماتيكي فمتى تعتقد استاذ هادي يأتي اليوم الذي يتحقق فيه العدل بعد أن ينال المعتدي جزاءه وتمرغ أنفه في التراب مثلما مرغ أنوف الآلاف من أبناء جلدته؟؟؟؟
أحمد العبيدي
تعليقات
إرسال تعليق