مدرسة علي بن أبي طالب (ع) : الأديب كريم القاسم
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مـدرسـةُ عليّ بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)
.............................................................
من المتعارف عليه بأن الوصول للسلطة والتربع على العرش والامساك بصولجان الحكم يأتي بطرق واساليب متنوعة ، فمنها مايأتي عن طريق الانقلابات العسكرية ، او الاعتماد على قوة خارجية تتمثل بمخابرات ، او قوة عسكرية قادرة على الاطاحة بنظام الحكم ، أو دعم قـَبَلي وعشائري - بحيث تميل كفة الميزان لصاحبها بغض النظر عن رأي الآخرين - أو عن طريق الاستفتاء والانتخاب ، وهذه الوسيلة معمول بها في معظم دول العالم التي ترفع شعار الديمقراطية ، لكنها مازالت تخضع لاساليب الابتزاز والتزوير .
هذه الامور كانت ومازالت وسيلة بيد الحاكم يُظهرها متى شاء دون الخوف من الله ، او الركون الى نمط العدالة .
لقد صَدَرَتْ وأُلِّـفَـتْ عدة دراسات ومؤلفات توضّح كيفية الوصول الى السلطة ، فمثلاً كتاب روبرت غرين (كيف تمسك بزمام القوة) الذي انتشر صيته وملأ الافاق وهو يحمل دراسات لأحداث تاريخية وشخصيات قيادية مؤثرة في المجتمعات ، ووُضِعَتْ هذه الدراسات والتحاليل على شكل قوانين وقواعد عددها ثمان واربعون قانوناً ، اعتبرها المؤلف بديهيات يتمسك ويعمل بها من أراد الوصول الى السلطة والتحكم بدفة القيادة . لكن المؤلف لم يُخضِعْ هذه القوانين الى اعتبارات اخلاقية ومباديء سامية ، انما جعل المكر والدهاء والعنف أو آية وسيلة تساعد الى الوصول للهدف المنشود هي الاداة المُعبِّرة عن الارادة الذاتية والشخصية .
- العين التي سأغرف منها ، هو مايخص الحال في كيفية ادارة شؤون الدولة من قبل رجل أراد أن يضع الأمة على النهج الصحيح والمحجة البيضاء ، ويقدم للعالم نموذجاً حكومياً ادارياً سياسياً ناجحاً ، يحفظ كرامة الانسان ، لتعيش الانسانية بنقاء وصفاء وسلام ، حتى قال قولته الشهيرة :
"أما والله لو ثُنيَتْ ليَّ الوسادة لأفتيتُ أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم ، حتّى ينطقُ كلّ منها و يقول : إنّ عليّا ً قضى بما أنزل الله تعالى فيَّ " .
ــ لكن الوسادة لم تُثنَ له بالكامل ، فحملَ على عاتقه السيف ، ليصلح شأناً ويدحر باطلاً .
وهل مثل عليّاً يركن الى هذه الأساليب أعلاه في تولي القيادة ؟؟؟
هيهات ... هيهات ...
فهو المدرسة القائمة بذاتها ، وهو النبراس المضيء ، والدرس الخالد ، والعدالة التي لايغزوها الباطل مهما تعددتْ السبل والمغريات . وهو اعلم بنفسه وقدرته على القيادة الناجحة لما يتمتع به من سمات وصفات عُرِفَتْ عنه بين الجميع ، وقد صرّح بذلك علناَ :
" أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السّيل و لا يرقى إليّ الطّير "
فلم يمد يداً الى مبايعة من خلف ستار أو يسحب سيفاً لقتال ، او يُحرك العصب القبلي وهو ابن اشرف القبائل العربية واكبرها شأنا وابن سيد القوم وزوج السيدة الزهراء ابنة المصطفى (صلى الله عليه وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين) وابو الحسنين سيدا شباب اهل الجنة ، فمِن أي منهل يغرف يجده سلسبيلا عذبا صافيا ، ولديه ما لايتوفر لغيره مِن عِلْمٍ وبطولات وتاريخ نقي ، ومع ذلك تحوّط بالصبر من اجل مصلحة الامة .
وعندما حَدَثَ الخلل السياسي وأدلهمَّت الفتن التي يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، واختلط الحال ، وتشابكتْ الاراء كالنصال ، وتدافعت اكتاف الرجال ، وتزاحمت الرماح والنبال ، لم يستغل حالة الانفلات الشعبي والشاغر الذي احدثه الظرف السياسي ، إنما كان انتخابا واستفتاءً جماعياً مُلِحّاً . عندها وضع مصلحة الدين والعباد والبلاد قبل كل شيء .
- لنقرأ كلماته وهو يصف حال الناس وهم ينثالون وينهالون عليه ويتجمعون حوله من كل حدب وصوب ، ويصف الامام هذا الحال بأجمل وأبلغ وصف عندما فوجيء بتجمع الناس عليه كأنهم الغنم في مرابطها ، ولشدة الزحام شبههم الامام بعرفِ الضَبع لكثافة الشعر فيه ، حتى خُدِشَ وشُقَّ جانباه ، فيقول :
" فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ "
وبعد هذا الاستفتاء والانتخاب الجماعي الهائل ، ومبايعة الامام من قبل الجمع العام ، لم يعمل بمبدأ الثأر أو الحقد الدفين أو الترهيب والترغيب .
فكان يردد فوق المنبر امام الجموع :
" كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُالْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "
هذه هي الفلسفة القيادية التي ينطلق منها علي ابن ابي طالب (كرَّم الله وجهه)
نعم انه لايطلب العلوَّ والاستعلاء ، ولاتهمَّهُ زخارف الدنيا وغرورها ، فقد اطلقها عبارة مدوية صريحة :
" لألفيتُم دنياكم هذه أزهدَ عندي مِن عفطة عَنزٍ "
- يالهذا الزهد ويالهذه العفة !
وهل في الارض الآن من يحمل هذه السمات ليكون قائداً ناجحاً يدير دفة الحكم في البلاد لإسعاد العباد ؟
_ إن القيادة لاتعني الكسب اللامشروع وإرغام العامة على الانصياع لأمر الحاكم ، بل هي القدرة على التعامل مع النفس البشرية لترك التأثير الايجابي فيها ، وتوجيه المجتمع نحو هدف نبيل مشترك بطريقة تضمن ثقتهم وتعاونهم واحترامهم للقيادة وطاعتهم لها .
- القيادة تعني المسؤولية الكبرى .
ومن الغباء أن يتصدى للعمل القيادي فرد غير قادر على توجيه الدَفَّة ، أو يعتبر التنصيب فرصة النجاح الكبرى .
- والآن لنكشف الحوار الذي دار بين علي بن ابي طالب والجماهير ، عندما هاجَتْ الجموع ، وتشظَّت الرؤى ، واختلط الحال ، وصاحَتْ الأفواه بوجوب قبوله بالخلافة .
" فغشيّ الناس علياً فقالوا :
نبايعكَ ... فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى ."
فقال عليّ :
" دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً لهُ وجوه ولهُ ألوان ، لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول."
فقالوا :
" ننشدكَ الله ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى الإسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف الله ؟ "
فقال:
" قد أجبتكم .. واعلموا أنّي إنْ أجبتكم ركبتُ بكم ما أعلم ، وإنْ تركتموني فأنا إنما كأحدكم ، إلاّ أني مِنْ أسمَعكم وأطوَعَكم لِمَن وليتموه "
ثم افترقوا على ذلك ، وتواعدوا الغد.
واصبحَ علي بن ابي طالب أمامَ قرار جماعيّ لامفرّ منه .
وإذا به يقف خطيباً بين الجموع الهادرة ... فيقول :
" والله أنا جئتُ كارهاً لها ..."
هنا جاء الإعلان عن نتيجة الانتخاب الجماعي لأعلى رأس في السلطة .
يالها من كلمة مدويّة في الوجدان . وحينما توَلّاها ، شَمَّرَ عن ساعديه لإدارة الدولة ، لانه عارف بدقائق الأمور ، وعارف بتفرق الرايات والأهواء ، وقد تفرَّسَ بتلاقح الفتن ، واي فتن ؟
فتن لها وجوه والوان ، لا تقوم بها القلوب ولا تثبت عليها العقول .
وهذا البلاء العظيم هو الذي يمزّق المجتمعات والشعوب . لذا لابد من اتخاذ القرارات الصائبة الفاعلة الغير قابلة للتعطيل والمُخالَفة ، والتي تصب معطياتها ونتائجها في مصلحة العام لا في مصلحة الخاص ، وهذا ماتتبناه معظم الحكومات الحديثة عند تشكيلها .
- إن الاساس في التشكيل الحكومي الجديد ، ورسم السيادة الوطنية ، هو القرارات الحاسمة الاولى . كونها تشكل مرتكزاً للانطلاق ، وعلامة فارقة نحو التقدم والرُقيّ والمركزية وسيادة القرار .
لذا فإن علياً أعلنَ عن مبادئٍ اربعة لم يطلب غيرها ... فقال :
" ألا وإن لكل مأموم إمام يُقتدى به، ويستضيء بنور علمه ؛ ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طُعامه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد "
ولو تَمعّنا في هذه المقولة لوجدنا علياً قد أشار الى بديهية اجتماعية وسياسية ثابتة ، وهي (لابد ان يكون لكل مجتمع قيادة ) وهذه القيادة يجب ان تكون مثالا يُحتذى به من قبل الشعب ، فقد اوعدهم الامام بأن طعامه سيكون مثل طعام اضعف الناس حالا ً وهو قرص الشعير واللبن ، وكان إذا زادهما بصنف ثالث فهو لايتعدى الملح ، ولباسه ثوبا بالياً خشناً وبسيطا - وهذا مالم يقدر الناس على فعله- فكان كثيراً مايردد :
" أما والله لقد رقعتُ مِدرعتي حتى إستحييتُ من راقعها ... حتى قال لي قائلٌ أَلا تنبذها عنكَ ؟ فقلتُ أَعزِبْ عني فعند الصباح يحمدُ القوم السرى * ، ما لِعَليٍّ ونعمة لا تبقى ، ولذة تفنى "
وقد أعلَمَ الرعية بأنهم لايتحملون هذا النهج إنما هو نهج القائد الصادق الامين ، وهو لايطلب منهم سوى تلك المباديء الاربعة ، والباقي عليه هو الذي يتحمل جلّ اعباء القيادة .
ولو تَمعّنا في هذه المباديء :
١- الاجتهاد في مغالبة النفس والشهوات
٢- الورع
٣- السداد
٤- العفّة
لوجدنا ان (الاجتهاد) عُطِف على (الورع) و(السداد) عُطِفَ على (العفة) لان السلوك الثاني سيكون نتيجة للسلوك الاول .
وهذه المباديء لاسيطرة للقائد عليها ، ولايمكن غرسها عنوة في النفس البشرية ، انما هي ايمان ، ورسوخ عقيدة ، وثبات قيم ، وهي نوازع بشرية ذاتية خالصة . فالإمام لايخاطب شريحة معينة من المجتمع دون اخرى ، انما خصَّ بكلامه هذا كل طبقات الشعب بما فيهم الطبقة السياسية والقيادية التي تنظوي تحت قيادته .
- إن القيادة ليست عملاً يحتاج الى اجراء التجارب المتكررة وغير المدروسة للوصول الى جادة الصواب او الى نقطة الصَحّ ، فهكذا سلوك انما يدخل في خانة الخَبَل والتخبّط ، بل والاستهتار في مقدّرات ومستقبل خلق الله وعباده .
ــ هكذا هي مدرسة علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) فمن أراد الانتساب اليها فليعمل بنهجهِ ، ومَن زاغ َ عنها وراغ َ رَوَغان الثلعبِ فليقنط في بحبوحتهِ ، أو يُكرِم الناس بقنوطهِ حاكماً كان أم محكوما .
إحترامي وتقديري ...
...............................................................................................................
تعليقات
إرسال تعليق