PNGHunt-com-2

قراءةنقدية جمالية للدكتورمحمد علي في مجموعة(تيمنا بالورود) للشاعرة سعاد محمد

مساء الياسمين أيها الأحبة..

من حسن حظ الشاعر أن يحظى بقراءة أكاديمية من ناقد مختص وقدير..
إنني أنتمي إلى هذه القراءة التي نشرت في الموقف الأدبي للأديب الدكتور محمد علي..
-------------------------------------------------

قراءة نقدية جمالية في مجموعة سعاد محمد الشعرية (تيمّناً بالورد)
د.محمد علي – جامعة طرطوس

لا تدّعي هذه القراءةُ الإحاطةَ النقدية الوافية كما يليق بمجموعة شعرية حافلة بالأسئلة التي تستنفر أدوات الناقد في مقاربتها, وحسبُها أن تراوغَ سيفَ الوقت وتضيءَ على بعض ملامح الجمال الشعري لدى سعاد, ولئن كان الاجتزاء الشعري ظالماً, ظلمَ القراءة الأولى, فإننا سنحاول أن يفي هذا الاجتزاء حق الشاعرة, مع وعدٍ نقطعه على أنفسنا بدراسة مستفيضة لاحقة نرتاد فيها آفاقاً جديدة لنصوص سعاد.
تعنون سعاد مجموعتَها (تيمّناً بالورد), وتثبت تحت العنوان كلمة (شعر), لكنّ المتن النصي يُخلص لجنس أدبي قد لا يراه بعض القراء شعراً, بالمعنى التقليدي للشعر, فسعاد تحتفي بقصيدة النثر بوصفها وسيلة فنية لا ترتهن لقواعد سابقة بقدر ما تنزع نحو فضاء واسع من حرية التعبير, وهكذا فإنها تضعنا أمام إشكالية التجنيس الأدبي التي استنزفت حبراً كثيراً يسعى لإثبات انتماء قصيدة النثر إلى الشعر, أو العكس. وبصرف النظر عن التسمية المستوردة, فإننا أمام نصوص لا تتوخى الطرب بمفعولها السمعي, وما يستتبع ذلك من نشوة جمالية تعضد فيها الموسيقا اللغة, وإنما تذهب نحو تحفيز القارئ على الدخول في شهوة التأويل, واستنطاق الدلالات الخفية انطلاقاً من معاينة البنى اللغوية بوصفها شبكةً من العلاقات التي تسربل المعنى بغلالة شفافة, ثم تنتنظر قارئاً ينضو هذه الغلالة عن جسد اللغة, ويتقرّى ببصيرته ملامح المعنى وما ينتج عن ذلك من أثر جمالي عميق.
وعليه, تغدو عملية القراءة التي تستدعيها قصيدة النثر  لدى سعاد أشبه برحلة ماتعة مليئة بالمفاجآت الجمالية, إذ تُمارس الشاعرة هوايتها الأثيرة في تخييب أفق التوقّع لدى القارئ, عبر نصوص مكثّفة تستبطن الدلالة, وتوحي بها, فتستثمر الصيغ التركيبية القارّة في ذهن القارئ, ثم ترفدها بمعطيات جديدة ترحل بها من ثبات الاستقرار نحو حركية المفاجأة, كقولها (أغضُّ القلبَ, مكارم الأحلام, صيغ منتهى القُبل, شريعة الغيب), ومفاجآت سعاد لا تقف عند حد إثارة دهشة القارئ, لأن الأثر الجمالي لذلك سيكون أثراً لحظياً مؤقتاً مفتعلاً لذاته, وسعاد إذ تعوّل على المفاجأة الشعرية في إثارة الدهشة, فإنها تنظر إلى هذه الدهشة بوصفها سَقْطَ الزَّنْد, أو الشرارةَ الأولى التي تُرهص لنار عظيمة تُرمّد التعبير اللغوي السائد الموروث, ثم تبعث من هذا الرماد معنى جديداً لهذا التعبير السائد يمور بالحيوية والطزاجة والجمال, تقول سعاد في قصيدتها (مرورٌ على /كان/):
رجلٌ على صوتِهِ وشمُ ينبوعٍ
أقسمَتْ جرارُ عمري:
أن تنتظرَهُ حتى مشيبِ الماء
لكنَّ صمتَهُ عصا تكسرُ نلكَ الجرار
فيُطرقُ القلب كقبّرةٍ جريحةٍ
تحتمي بأقرب دغلٍ للبكاء (74)
تتجلى ثنائية (الصوت والصمت) في هذا المقطع على هيئة صور جزئية غير مسبوقة توغل في الخيال حد الدهشة, لترسم مشهداً كلياً لرجلٍ يلوذ بصمته في الوقت الذي تنتظر الشاعرة صوتَه, وقد عبّرت سعادة عن خيبتها من هذا الصمت بالمسافة الجمالية التي شكّلتها بين الصوت الذي يحمل وشم ينبوع, والصمت الذي يستحيل عصا تكسر جرارَ العمر, وما بينهما من انتظارٍ حتى مشيب الماء, وهذه كلها صور خيالية تأتلف فيما بينها لكي توحي بالمعنى على إيقاع الدهشة.
وهكذا تستدرج سعاد قارئها نحو فاعلية التأويل, فالقارئ الذي يعيش حالة الدهشة يجد نفسه مدفوعاً لتفكيك البنى النصية المولّدة لها, فلا تغدو الصورةُ مدهشةً لذاتها وحسب, وإنما عتبة جمالية تفضي إلى معنى يختبئ بين السطور, ويمكننا أن نلمح مثل هذه المقاربة الجمالية لثنائية الصوت والصمت في قصيدة أخرى, تقول سعاد في قصيدة (فيلمٌ أجنبي):
يا فصيحَ الصمتِ
عيناك أمُّ القبّراتِ
وكلمةُ سرِّ بساتيني لديكَ
فلمَ كلُّ هذا الجَدْبِ في حضورك
ويداكَ غصنانِ من ماء؟! (145)
تحشد سعاد عناصر الطبيعة التي تنتمي إليها بكلّيتها, لتسترفد منها ظلال المعاني, وتسبغها على رجلها الصامت, وحضور الطبيعة في نصوص سعاد يتجاوز استخدامها التقليدي الذي ميّز النزعة الرومانسية لدى غيرها من الشعراء, فالطبيعة ليست موئلاً للشكوى, كما أن حركتها ليست انعكاساً آلياً للمشاعر والأحاسيس, بقدر ما هي وسيلة للتعبير , وهذا ما يتبدّى على نحو واضحٍ في قصيدة (حنين), تقول سعاد:
كيف نبرّئُ الليلَ من دمِنا نحنُ أسرى الشعور؟!
يحاصِرُنا بالذكرياتِ ويَخِزُنا بالأسماءِ الغاربة
ليلُ العاشقِ لا يلوي على هُدنة
على بعدِ نَدبةٍ تجوسُكَ الأشواقُ الكاسرةُ
وقبّرةُ الحنينِ ...
تأكلُ نعاسَكَ حبّةً... حبّة! (89)
يتجلّى الليل في هذا النص بوصفه ميداناً رحباً لنكوص الذاكرة, فتمور في هذا الميدان الأسماء الغاربة, والأشواق الكاسرة, والجراح التي أورثت ندوباً في أرواح أسرى الشعور, وتأتي الصورة الأخيرة لتلخّص حالة من الأرق على هيئة قبّرة الحنين التي تأكل النعاس حبّة حبة, لتتجاوز سعاد بهذه الصورة التعبير المباشَر عن الأرق, وتستعين بالتعبير الإضافي الذي يتمازج فيه المتضايفان بتشكيل خيالي (قبّرة الحنين), ثم تُسند إلى هذه القبّرة أكل النعاس بتُؤْدة (حبة حبة) تفضي إلى طول مدة الأرق, وبذلك يغدو التعبير عن هذه الحالة شعرياً بامتياز.
تعوّل سعاد على شعرية المشهد في مقاربة الأفكار, فهي تحشد التفاصيل التي من شأنها أن تجلوَ المعنى, ثم تواشجُ بينها تخييلياً عبر تقنية التصوير المقارب أو المقارن, فتقول – على سبيل المثال – في قصيدة (الكتابة على الماء):
(البين بين) مائدةٌ في بيتِ يتيمٍ
وصورةُ مدفأةٍ على الحائط...
من ينتظرُ فِصحَ مبسمِها
كمَن يستبدُّ بهِ الشوقُ
فَيَحتضنُ أقربَ تمثالٍ
جارحٌ هذا المشهدُ
كقطعةِ شمسٍ مثلَّجةٍ...
انزلقتْ في كأسٍ لاهبةِ الزمن! (140)
تعالج سعاد حالة الموقف الوسط أو البرود القاتل في الحب شعرياً, فتصف هذه الحالة كأنها مائدة في بيت يتيم, أو صورة مدفأة على الحائط, وفي الصورتين تعبيرٌ شعري عن الفاعلية المعدومة للحب, ثم تأتي صورة ثالثة لمن ينتظر الطعام من مائدة خاوية, فتشبهه كمن يعبّر عن شوقه المستبد باحتضان أقرب تمثال, وبذلك يفتقد الحب للحرارة الإنسانية المتولّدة عن المشاركة في المشاعر حدّ الاتحاد, وهذا ما تعبّر عنه سعاد بقولها (جارحٌ هذا المشهد), ثم توغل في التخييل عند التعبير عن هذا الجرح عبر صورة قطعة الشمس المثلجة التي تنزلق في كأسٍ لاهبة الزمن.
على الرغم من جماليات التخييل الشعري التي تميز هذا المقطع, لكنه يحتاج إلى قارئ من نوعٍ خاص, فالقارئ الكسول ترهقه هذه الصور الجزئية المتلاحقة من دون فاصل زمني أو سردي تلتقط فيه القراءة أنفاسها, فنجده يلهث خلف الدلالات التي تحتشد في النص, محاولاً الربط بينها سعياً وراء المعنى, وقد يؤخذ ذلك على سعاد, فهي لا تترك للصورة الشعرية مجالاً حيوياً تستعلن فيه في فضاء التأويل, بل ترصُّ الصورَ أو تسكبُها كشلال يهزأ بجريان النهر الوئيد, وهكذا فإن صخب هذا الشلال وهديرَه في أثناء القراءة قد يؤدي إلى انشغال القارئ بالصورة عن المعنى, ومن حق الصورة أن تكون وسيلة للتعبير, لكنها تفقد هذا الحق عندما تصبح غاية بحد ذاتها.
إن أغلب نصوص الشاعرة تلغي المسافة بين الفكرة والصورة, فهي تعبّر عن الفكرة بالصورة نفسها, وهذه سمة من سمات حداثة نصها, إذ تُحيّد هذه السمةُ الشعرَ عن الخطابية التقريرية التي تفرضها بعض المضامين أحياناً, ونحسب أن الشاعرة قد استطاعت ضبط استعلاء الأيديولوجيا على الفن في نصوصها, على الرغم من اشتمال هذه النصوص على أبعاد أيديولوجية تتصل بالوطن والحرب والشهادة. ولكن مقاربة الشاعرة لهذه المضامين بعيدة كل البعد عن الشعارات الطنانة والخطب الرنانة, ومن ذلك مقاربتها لثيمة (الوطن), فهي تربأ به عن أن يكون مكاناً للموت والجوع والفقر, وتعيش حالة من الصراع الذي يستنزف روحها الساغبة لوطنٍ يحتضن أحلامنا جميعاً, تقول سعاد في قصيدة (موطني):
جئناكَ كنحلِ المودَّةِ
خيلُنا دمُنا
وبِدمعِنا نَدُقُّ بابَكَ
أأنت هنا؟!
يا سيّدَ المقامِ
أمْ كَذَبَتِ الخارِطة؟! (37)
تبحث سعاد عن الوطن الحلم, لكن الواقع يفرض شروطه القاسية على رؤيتها الشعرية, فصار العتب مباحاً لها, وصار بإمكانها أن تشكو حالنا أمام بقايا الحلم, وأن تستعرض قهرنا من مآله, فالوطن الذي ينوس بين الدم والدمع, ويزيّن حيطانه بأسمائنا وصورنا, هو غير الوطن الذي تسكنه اليوتوبيا الحالمة لسعاد, وإذ تعي الشاعرة أن الوطن يستحق التضحية, لكنها لا ترى نتائج هذه التضحية على الفقراء الذين يزدادون فقراً على أرض الوطن, رغم محبتهم الصادقة له, فيما يتنعّم أدعياء المحبة بالمكاسب التي حصّلتها دماء الفقراء, ولذلك فهي تصرخ في قفلة القصيدة نفسها, وتقول: 
أأنتَ هنا يا سيّدَ المقام؟!
قُمْ من سُباتِكَ
قبلَ أن نأكُلَكَ يا تمرَنا العاجز! (40)
إننا نقف أمام التناص الإيحائي الذي يسربل هذه الصرخة من دون الحاجة إلى تفكيكه, فدلالته لا تخفى على كل صاحب بصيرة, ولكن يمكننا القول إن صرخةَ الشاعرة مشفوعةٌ بالشوق إلى قيامة الوطن من سباته, لينفض عنه رماد الحرب التي أثقلت كاهل الفقراء عن طيب خاطر منهم, فيما تغوّلت ثروات الأدعياء حدّ التكرّش.
وفي حضرة الشهيد, لا تذرف سعاد الدموع, ولا تتخذ من الندب والعويل سبيلاً لاستعطاف القارئ, إنها تطل على شعرية الموقف من موقع القداسة التي تكلل الشهيد, فترى في شهادته نجاةً من أتون الحياة بشرف, وترى في نجاته تلك قرباناً مقدساً على مذبح الوطن الجريح, تقول سعاد في قصيدة (الناجي):
نحنُ أصغرُ من أن نتكهّنَ كيفَ حالُهُ
كم رصاصةٍ جائعةٍ آوى في جسدِهِ
كم نجمةٍ استحمَّتْ في عينيهِ
وهو يجتثُّ الدمعَ من مقلتيهِ لِئلّا يبصرَنا الدمع
كم عضوٍ من جسدِهِ أطعمَ الفناءَ ليلهيَهُ عنّا
وهو يستعيرُ عمراً من الفناء! (35 – 36)
يستبطن المقطع السابق حزناً دفيناً يأبى أن يفارق الشاعرة وهي تعاين التضحية السامقة التي يجترحها الشهيد في حضرة الفناء, كي نعيشَ نحن خارجَ الدمع, ولكن الحقيقة العارية التي تتجلى لبصيرة الشاعرة تقول: إن موتَ الشهيد حياةٌ له, فيما حياتُنا موتٌ مستمر بأشكال مختلفة, على الرغم من أن الشهيد يموتُ لنحيا.
وبعد, تُدرك سعاد أن الكتابة كالحزن (ضريبةٌ على كلِّ ذي سَعةٍ في الأحداق), وأن ليل الكاتب (مُتَبَّلٌ بالمُتع الحزينة), وأننا نكتب (لننقلَ جبلَ الهموم كلمةً كلمة, بعيداً عن قلب الأرض الأخضر), فكان الشعر خيارها الذي ساقها نحو أمداء واسعة من الجمال, على جناح الصورة الإيحائية الباذخة, فسعاد التي تنفر من المباشَرة الدلالية, وتتخلى عن الموسيقا الخارجية التي يمكن أن ترفد المعنى, تُخلص لإيقاع ذاتها التي ترفض التقنين الصارم, وتسعى بكل ما أوتيت من شعر نحو فضاء من الحرية الواعية, حرية الفكر والعاطفة, وحرية التعبير والأسلوب, وهكذا تبني سعاد هويتها الشعرية بكثير من الفرادة والتميز, فطوبى لمن تصالح مع ذاته فأنتج شعراً يشبهه, ولا عزاء لمن ارتضى أن يكون مجرد صدى لأصوات أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي