PNGHunt-com-2

الشاعر عامر العراقي في موقف الإلتزام الإبداعي : الناقد غازي احمدابوطبيخ الموسوي

الشاعر عامر العراقي
في موقف الإلتزام الإبداعي..

غازي احمد ابوطبيخ
       الموسوي
…………………………..
كان الشعر ومايزال يمثل ذاكرة الثقافة الخالدة التي تؤرّخ لأحاسيس  الشعوب الحية باتجاه الممر الحضاري العام والخاص،ولهذا يمكن اعتباره من هذا المنطلق وثيقة إنثروبولوجية المنحى تسجل مناخات الشعور البشري لفترات تاريخية كاملة بمختلف تفاصيلها المَعيشة،ولكن بلغة الأدب وطبيعته المفعمة  بالنشاط النفساني الغامر،
لأنه في حقيقته موقف من الحياة "فالقصيدة بالذات بنية لغوية مركبة يكشف تفاعل عناصرها عن موقف الشاعر "من الحياة. [1].
ولقد تابعنا مداخلات الساعدي الشعرية على الممر الوطني التاريخي على وجه الخصوص،وتلمّسنا تراصفه الكبير مع الإنسان،في كل بقعة من الوطن،بعيداً عن أية مؤثرات أخرى،فالموقف من العراق شعباً وأرضاً وتاريخاً هو مجسّه الراصد ،ومكياله الذي يقيس به كل ماحوله،وتلك سيمياءٌ مُطْبِقَةٌ على كل حرف كتبه على وجه الإجمال،بل نستطيع أن نعدّ الساعدي العراقي  من بين ثلّة من الادباء الذين تمسكوا بمنهج الإلتزام الإبداعي قولاً وفعلاً.فكان يكتب بروحه،ولكن بوعي عميق،يقول في مقدمة إحدى قصائده :
(سأشعل الحزن شعراً
لأرميه في جب القصائد)،وياله من تفسير عميق الدلالة لطبيعة الفعالية الشعرية الإبداعية.
وقد عاصر  الساعدي فترة اجتياح داعش لمدينة سنجار وأراضي الايزيديين،وكان شاهداً بالسمع والبصر للفظاعات التي ارتكبت ضدهم، لذلك تضمن نصه عدة شواهد تاريخية قدمها في صيغة شعرية ناجحة تؤكد متانة العلاقة ما بين الشعر والتاريخ الممتدة من العصر الجاهلي الى الآن ،كشعر حرب البسوس مثلاً[2].
ولا بأس هنا من تبيان المعنى اللغوي والإصطلاحي لمفهوم الإلتزام فنقول:
" لزم الشيء يلزمه لزماً ولزوماً ، ولازمه ملازمة ولزاماً ، والتزمه ، وألزمه إيّاه فالتزمه ، ورجل لُزمة يلزم الشيء فلا يفارقه. واللّزام : الملازمة للشيء والدوام عليه ، والالتزام الاعتناق."[3]
والالتزام كما ورد في معجم مصطلحات الأدب : " هو اعتبار الكاتب فنّه وسيلة لخدمة فكرة معيّنة عن الانسان ، لا لمجرّد تسلية غرضها الوحيد المتعة والجمال"[4]
وانطلاقاً من المعنى الاصطلاحي ،تجدر بنا الإشارة إلى ميل الساعدي العراقي إلى التحديث،مع الارتباط الإسلوبي العميق بمناشئ قصيدة النثر غرباً وشرقاً،حيث كان النص الذي بين أيدينا إنموذجاً لهذا التوجه،بما في تفاصيله من تمظهرات ذات بنية سردية حكائية ،
تجمع مابين الموروث والمستلهم من آخر الحداثات الشعرية في قصيدة النثر التي يتخصص بها شعرياً ،فضلاً عن كونه كاتباً وباحثاً أنطولوجياً وناشراً بات ذائع الصيت.
(نص الشاعر:
………………..
بدعوة كريمة من قبل الاخوة في سنجار ، كنت ضيف شرف عليهم في 2/ 8/ 2018
لمشاركتي بالذكرى الثالثة لمجزرة القرن الحادي والعشرين مجزرة (شنكال).وقد شاركت بهذا النص:
         *
أبناء  الشمس:
……………….………
كانت هناك شمس
وكانت هناك امرأة
تمثل آلهة
من خلق الرب
والمعبد الوحيد الذي تطل منه الشمس
صار بلا ضوء،
ولا حرية،
سوى صوت الصغار
وهم يبحثون عن لالش!!
الخوف مثل جرّافة حرب
صوت معلق
بأميال كبيرة البرد،
أميالٌ
جائعة لحطب
من غابات الحرية
نذور الامهات
دم على الجبل
والشمس تخرج سمراء
تشبه تلك الالهة العشرينية
حينما أغتصب حياءها
قبل أن تتعبد بآخر أمنية
و تمسح شعرها عند المقام
أعرف أم صديقي الأرملة
رأيتها عند الفجر تخبز
لتطعم أبنائها النيام
وهي تحدثني عن الامس
أما أنا
فقد قرات الشعر
عند الصخور الرمادية
التي تعرف مقاس الفتيات
وتعرف ألوان شعرهنّ
وتحفظ حتى همساتهنّ
قرأت شعراً
عند الصخور
حينما رأيت اسمين لحبيبين
كتبوا اسميهما
قبل أن تصير الشمس مخسوفة
بقعر الوجود).
،،،  
هكذا نلاحظ أن شاعرنا يدخل منذ بداية النص بمفردة ( كان الناقصة) التي تدلّ على وصف الاسم بالخبر في الزمن الماضي،كما ويتمدد زمنياً  باتجاه الحاضر والمستقبل ايضاً،خاصة إذا كانت طبيعة الحدث تتحمل مثل هذا الإمتداد،فالدمار ما انفكّ قائماً،ولربما يستمر إلى اجل غير منظور ،ولإيضاح هذه الفكرة سنستشهد بالآية الكريمة التالية : “وكانَ اللهُ عليماً حكيماً”*
هذه الكينونة لاتختص بالماضي اتفاقاً،وإنما تمتد في حقيقتها لتشمل الحاضر والمستقبل الازلي،ذلك لأنّ علم الرب القدير سبحانه لايختص  بزمن ماضوي وحسب،وإنما يمتد علمه تعالى إلى الأبد..
هذا الفعل ذاته هو علامة السرد الاكثر شهرة على مستوى السرود العربية الموروثة( كان ياما كان).فكان شروع الساعدي بالسردية الواصفة الحية المفعمة بروح الواقع الراعف،لكي يطلق من بعده عنان الحكاية،
مُلَمِّحاً إلى أن هناك مايسترعي الإنتباه والتوقف من الأحداث الجسام ،كما وأنه يسترسل بعدها في ذكر ما حدث في هذه البقعة الجغرافية من أرض العراق، وما نتج عنه من تداعيات مؤلمة على الشعب الآيزيدي المظلوم ،ثم ليتوجه بخطابه إلى عنصر خلق محوري  متمثلاً برمز جوهري في عقيدة هذه الشريحة الجريحة،
ونعني به  الشمس التي يقدسها الايزيديون ، وقد سعى إلى إعطائها توصيفات حيوية  متنوعة كأن تكون إمراةً أو آلهةً، وليس هذا بالغريب على شاعر سارد حداثيٍّ يعتمد المجاز على اعتبار ان الحقيقة الكبرى هي الله سبحانه، أما الشمس فكانت تعبر عن الحقيقة والمصداقية كنوع من الإستعارات البلاغية العميقة المفاد.
لكنّ الإنتهاء من توصيف الحال إبداعياً،لا يعني انتفاء الحدث،وكما قدمنا ،ستكون مثل هذه النصوص القارئة الواصفة أداة سرد واسترسال وتأطير للقادم من الأحداث ،فكل العناصر التي تجتمع في بنية هذا النص ذات دلالات عقائدية أو مجتمعية موجودة على ارض الواقع، والفقد الموجع  يمس أعزّ ما يُعنى به الإنسان الحر ،ونقصد به هامش الحرية ،حرية الفكر والخصوصية الخاصة،وذلك يعني حرية المعتقد التي من أجلها دُمِّرت المدينة ونكل بأهلها .
ولكن ألرائع اللافت أن  الشاعر يفصح عن تفاؤله بهذا الشعب، اذ يرى صبيته في عدوهم وهم يبحثون عن معبد (لالَش) حيث قبر الشيخ عدي بن مسافر المقدس لديهم،وهذه إشارة ذكية وعميقة إلى أن المعتقد لا يموت في قلوب أهله،مهما حدث ،لذلك وإنْ ٱسْمَرَّت الشمس ومالت الى السواد فإن ما حدث من تنكيل بالآيزيديين ونساءهم سيجعل  للشعب نفسه قداسة خاصة ،عبرت الحدود إلى العالمية بجدارة أهلها ،واصحاب الضمائر الحية الذين لم يألوا جهداً،وهذه إشارة تشمل الآنسة الباسلة  (نادية) الأيزيدية التي انتصرت وهربت من سجانيها لتواصل نضالها ضد اضطهاد الأقليات،حتى حازت على جائزة نوبل للسلام .
ختاماً تجدر بنا الإشارة إلى أن حضور الشاعر في موضعية الحدث بشكل مباشر تعني الكثير الكثير لسببين:
أولاً :لم تكن دعوة شاعرنا إلى شنكال اعتباطاً،بل كانت تعبيراً عن العرفان لمن كانت لهم إسهامات عميقة الاثر تراصفاً مع هذا الشعب..
ثانياً :لقد شهد بأم عينه آثار الدمار،والدماء الجافة على الأرصفة،حتى كان نصه الحميم إنموذجاً وقع عليه الاختيار ،وكأنّ روح المضطهدين قد حلت في كاتبنا،فانهمر مخلصاً ،واعياً،لطبيعة السرد الشعري المعاصرة،وكانت حكايته الشاعرة عن الأرض والإنسان بالغة التأثير لمن يعي ماتنطوي عليه سياقات وانساق النص.فقد لامس بحرفنة والتحام محطات قوية التعبير عن حيوات الشعب الدفينة ،وصبوات الفتية الحميمة،بما يعتصر القلب ألماً،يقول:
(أما أنا
فقد قرات الشعر
عند الصخور الرمادية
التي تعرف مقاس الفتيات
وتعرف ألوان شعرهنّ
وتحفظ حتى همساتهنّ
قرأت شعراً
عند الصخور
حينما رأيت اسمين لحبيبين
كتبوا اسميهما
قبل أن تصير الشمس مخسوفة
بقعر الوجود).
لقد اختصر الساعدي بهذا المقطع وجدان هذا الشعب الطيب،ثم ختم النص بضربة صادمة حكاية عن آخر صورة للفجيعة ( قبل أن تصير الشمس مخسوفة بقعر الوجود).
وهي ذات الشمس المقدسة التي تحدثنا عنها آنفاً-شمس الحرية-ثم هذا الإنخساف الحاصل بعيدأً عن الأفق،بل في قعر الوجود!! ،وتلك لعمري مشهدية تستحضر الطبيعة والإنسان والتاريخ في آن واحد..
...
من هنا سنستظيف في ختام دراستنا نصاً للشاعر العراقي الآيزيدي المغترب خالد الشيخ  باعتباره الوجه الثاني والشاهد الحي للمرآة التي نقش الأديب الساعدي وجهها الأول،فكان نص الشيخ دليل إثبات يحكي لنا عبر سرديته الشاعرة حقيقة الواقعة،كواحد من أبطال الحدث ،الذين لم يألوا جهداً إعلامياً وأدبياً في توفير أعلى مستويات الإقناع بأحقية شعبه المضطهد،وليكن نصه نوعاً من العناق يتعالق بقوة وحميمية مع نص الساعدي العراقي،   بما يشبه التحية لزائر شنكال،في جانب،ولاستكمال صورة الحدث الأخيرة عن سنجار عموماً ،وشنگال خصوصاً،ونص الشيخ المبدع يشرح نفسه بنفسه بإسلوب سلس وعميق في نفس الوقت:
نص الشاعر خالد الشيخ:(ألمانيا)..
…………………..
زمن الإبادة
..................
في مثل هذا اليوم
مثل هذا التوقيت
كنا نجمع الغبار
ونضعه داخل حقائب الرحيل
وصلتنا رسالة
تقول : لم يبق لكم الكثير
عاصفة الرياح السوداء
قادمة من جنوب الجبل
إحزموا حقائبكم
لاتنسوا المذياع
والماء ..
والخبز...
وصوركم الشمسية..!
ركبنا جميعنا صهوة الحصان الأحمر
كنا واحداً وثلاثين،
والباقون يركضون وراء الغبار
بينما كنا نَمرُّ بين المقابر
رأينا جدائلاً ترقص
في الهواء
رأينا بيادرَ القمحِ تحترق
في أفواه الجراد
والقرية البيضاء (حردان )
تنثر الدموع على أرصفة الحداد
رأينا قلوبا تصرخ من الوجع
والدم كالجداول يخرج من افواههم
أغرب ما رأيناه
أن الموت يقتل أولاده!!..
ويعلن تمرده ضد عزرائيل
مشينا كثيرا فوق أقدامنا
علنا نعبر مجموعتنا الشمسية
ونعيش بسلام في مجموعة اخرى..).
.……………………..……… 
1-مداخل إلى علم الجمال الأدبي ص71.
2-ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ص632 .
[3] ابن منظور ، لسان العرب ، 15 مجلّد ، دار صادر ، بيروت / ط5 ن 1956، ج12 ، ص:541- 542.
4] أبو حاقة ، أحمد ، الالتزام في الشعر العربي ، دار العلم للملايين ، بيروت ،1979 ، ص 14.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي