PNGHunt-com-2

مطر على خدود ياسمينة : بقلم القاص أحمد اسماعيل

مطر على خدود ياسمينة

الغيوم التي في السماء تجتمع مغيرة ثوبها الأبيض، تارة ترسم مساحات صغيرة من اللون الرمادي، و تارة يكاد يرى البياض قليلا،
هاهي الآن ترتدي لونا رماديا بتفاصيل لا تسمح للشمس بالمرور من خلالها و كأن ديسمبر يحضر لشيء جلل،
أما وسيم ماض في سوق الذهب، يحاول أن لا يعطي ملامح السماء أهمية حتى لا تكون عقبة في انتقاء هدية لتاج قلبه ياسمينة.
كل واجهات المحلات براقة،  القلائد تتحايل عليه واضعة كل حسنها على رقبة و صدر  درته،
و الأساور مصفوفة أمامه و هي ترتفع بتؤدة مع ساعدها الذي يمنح يدها الكثير من رسائل شفاهه مع القبلة الذائبة في الخجل،
اما الخواتم كانت في حالة سخرت الجنيات ليكن كممثلات مشهورات يبرزن فتنتهن بما يمتلكن من ماس و زمرد و ياقوت و عقيق.
يضع وسيم يده في جيبه حتى تطمئنه محفظته بدفئها، يدخل أحد المحلات بعد أن أسكت حيرته خاتم مرصع بقطعة ماس، يداعب أحلامه،  يمشي و الابتسامة تنير له الطريق إلى مطعم لن تنسانا،  الواقع في آخر السوق حيث ياسمينة تنتظره،
أسرع في خطواته خوفا من شدة اكتظاظ الغيوم الرمادية،
الوصول لم يكن صعبا و وسيم مشحون بصوتها،
كانت الطاولة المتفق عليها تنتظره،
سلم عليها مصافحا يدها،  وبقي الفرح الأخضر يهز الجسر الواصل بين يديهما للحظات،
وسيم يطلب منها الجلوس.
تحاول أن تفلت يدها حتى توازن جلستها.
يبقى ممسكا بأطراف أصابعها فيشرق ثغرها بانحناءة فواحة بعطر أخجلتني،
و قبل كل الاعترافات انطلقت من قلب وسيم جملة ( اشتقت لك).
أزهرت معها شفتيها لتحيطه بقصيدة.
لم يتمالك وسيم نفسه، جعل خاتم الماس يتكلم بما يليق بكلماتها، وضع الخاتم في إصبعها واقترب ليتنفس عطر يدها،
في هذه الأثناء بدأت موسيقى البجع لتشايكوفسكي بالعزف،
لمحت عيناه لها برقصة، كانت إشراقة ابتسامتها أجمل من كلمة موافقة بكثير،
أخذ بيدها إلى وسط صالة المطعم و بكل ما ملكاه من سحر أشعلا المكان بأناقتهما و  رقة حركاتهما.
كان الخاتم يخبرها بقدر الحب الذي يكنه لها وسيم،
ليس ذلك فقط فهو أيضا يعكس ردات فعل ياسمينة و إيماءاتها التي تفصح بشيء واحد (  لا معنى للحياة بدونك ).
في الجوار عينين تدققان النظر و تسجلان كل صغيرة و كبيرة، تنتظران لحظة الخروج.
انتصف الليل....
لم تحس ياسمينة كيف مر الوقت سريعا مع لذة الحديث و الرقص و الطعام.
طلب الخجل الذي يرافقها ضرورة ذهابها إلى البيت.
بينما الإلحاح بالمكوث يفيض على لسان وسيم،
لكن ما في اليد حيلة، يوصلها حتى باب التكسي و هو يقول في نفسه: يكفيني أنها قبلت عربون حبي .
انطلق التكسي و عيناها إلى الخلف تلتقط ما تبقى في عينيه من رسائل.
و خلف التكسي سيارة تتعقبها،  وعلى متنها العينين اللتين كانتا تسجلان حتى الأنفاس التي شهقا بها.
نزلت ياسمينة من سيارة الأجرة قرب منزلها،  كان الشارع خاليا باردا،  و الكهرباء المقطوعة تلعن ساعات التقنين،  لا شيء يشير إلى أعمدة إنارة المدينة سوى ظل باهت لها يظهره  بين الفينة و الأخرى قمر مختنق بين الغيوم التي أصبحت سوداء.
الأشجار العارية على الرصيف تهزها الريح لتصدر بعض الضوضاء، لكن دون جدوى، مازالت ياسمينة هناك تزهر بقصائدها مع أحاديث وسيم.
ينقض عليها اللص من الخلف مطبقا على فمها بيده الخشنة،  و يده الأخرى تنتزع الخاتم من إصبعها، خفة يده كانت رهيبة في استخراجها، 
لم تجد ياسمينة سوى نفسها ملقاة على الرصيف كخشبة يابسة اقتطع منها صك الحياة،
صرخت بأعلى صوتها:  لص... لص
لكن لا للعجب يا دمشق... أصبحت خاوية حتى من الكلاب.
لم تستطع البكاء لكن الغيوم ساندتها و أغرقت المدينة .....
قدرات ياسمينيةعظيمة لحظة الإنكسار تلك... ترتفع معها كل الأفكار السوداء التي من واجبها أن تقضي على تلك الشعلة المتقدة في قلبها،
هل سيتركني؟
هل سيكون كالباقين؟
كيف سيصدق أن ما أهداني إياه قد سرق وفي نفس الليلة،
ترفع سبابتها و تنحي بها على الرصيف الذي أصبح مبللا قليلا وترسم قلبها هناك وبجانبه الحرف الأول لمن تحب،
لكن الغيوم كريمة وسخية هذه الليلة،  حتى القلب الذي شغل مساحة من فراغ الرصيف، سال وكأن شيئا لم يكن هناك،
تقف رويدا رويدا،  وتندب حظها، الخطوات المتثاقلة تأخذها حيث لا تدري، وكأنها أصبحت لاتريد العودة لبيتها، تاركة نفسها تحت رحمة البلل، تقف بجوار ياسمينة متدلية من شرفة أحد منازل الجيران،
الأزهار رحلت عن أغصانها منذ مدة طويلة، والأوراق تقول للمطر ألا يكفيك انهمار، كل نقطة في جسدنا لا تزال تحمل ثقل قطراتك حتى مالت أعناقنا،
تتساءل ياسمينة هل تشبهني هذه النبتة إلى هذا الحد،
وأثناء تأملها للياسمينة المتدلية، يتسلل إليها صوت دافئ اعتادت على سماعه،
يا سكر الكلمات....
تلتفت خلفها لا شعوريا، إنه حقا هو...
ما الذي تخبئه بعد هذه الليلة،
الآن يجتاحها  شعورين غريبين متمازجين تبكي وتضحك،
تنظر في وجهه وتدير بصرها عنه بسرعة،
الخجل... الخوف... الألم... يمنعنها من البوح،
يحلق بكفه الحنونة نحو خدودها، ومن هناك يدير وجهها بدفء، رافعا بكفه الأخرى خاتم الماس المسروق، ويضعها في إصبعها حتى يعيد لها الشيء الأغلى و الذي سرق منها في لحظة استغراقها به،
لاشيء أغلى من ابتسامة ياسمينة على قلب وسيم.
هاهو يمسح الكحل الذائب على وجناتها كسيل أسود بمنديله المعطر بأحرف اسمها
العطر الذي لا يفارق وسيم منذ أن أهدته تلك القارورة قبل أسبوع، بعد أن اشترته من متجر جنة العطور الواقع في مفترق طرق أسواق دمشق، سوق الذهب والحميدية و البزورية ووووو
وكأنه جزيرة يقبل عليها الجميع
وكأنه ملتقى لجمال دمشق و روائح أسواقها
أوكأنه مبتغى لكل مسافر ضل الطريق.
كل ما مسحه وسيم بين جفنيها و خديها يعود للسيلان و كأن المطر يعاقبه على أنه تركها تذهب لوحدها في التكسي،
لكنه أراد أن يغير وجه سمائه وهو يلوح لها بالخاتم الماسي،
وحتى يوفر على نفسه أسئلتها،  الكثيرة، يضع سبابته على باب فمها، يومئ لها بالصمت، ثم يرفع أصبعها من جديد ليزينه بالخاتم.

لم يكتف المطر بهطوله الغزير، بل جعل سماء دمشق تضيء بوهج برقه،  وجعل من صوت الرعد هروبا لياسمينة إلى أحضان وسيم.
لكن ماهذا البرد الشديد،  تنظر إلى مابين ذراعيها، لا شيء يلامسها،
عجبا هل كان الرعد يسلط الضوء على ألمها، و الرعد يصرخ مزمجرا  ليشحذ همة الغيوم.
ترفع رأسها للسماء، ثم تنظر إلى النبتة المتدلية بأغصانها و تمسك بأحد فروعها وتقول: أنت الوحيدة التي تحس بوجعي الآن فأسعفيني ومع نهاية آخر حرف تسقط على الأرض تاركة الإغماء يقفل على حواسها.
لأول مرة تحس النبتة بحجم الحمل الذي رمي على عاتقها،
فكرت قليلا ثم جمعت كل ما لديها من طاقة لتوقظ به دمشق،
الآن عطر الياسمين يحلق بأجنحته مع الريح و المطر والطين، يتسلل من النوافذ و الأبواب، الكل بدأ يبحث عن مصدر الرائحة، وبسرعة كبيرة تجمهر الناس حول الياسمينة، أحدهم حملها إلى سيارته،  الكل يسأل إلى أين؟  يجيب إلى مشفى المواساة.
يدخلها إلى قسم الإسعاف، الأطباء يبذلون قصارى جهدهم لإزالة الحمى، هاهي إبرة المسكن  تأخذ مفعولها لتخلد في نوم عميق.
بعيدا عنها في الممر المؤدي للعيادات الإسعافية الكل يسأل: كيف حالها؟
هل هي بخير؟
وأثناء تطمين الطبيب للجميع،  تتسلل تلك العينان نحو سريرها،
ثم تبدأ كفاه بصفع وجهه بقسوة عدة مرات حتى تدمع عيناه،  و ينزل على ركبتيه ثم يبدأ بالتأسف و حتى لايطيل عذابه أكثر، يضع الخاتم في إصبعها،
ثم يخرج بخطا متسارعة من المشفى حتى لا يشاهد حماقته وعظيم جرمه أحد،
تبتسم النبتة بعد أن استطاعت بعطرها أن تغير من أخلاق السارق، وتعيده إلى أحضان دمشق كطفل يكره أي خطيئة،
ومن ثم تطلب من الغيوم أن تغسل كل هموم دمشق بانهمارها قدر المستطاع، يضيء البرق النافذة المطلة على سرير ياسمينة، ثم يزلزل البرق السماء بصوته،
تستيقظ ياسمينة، تشعر بثقل في أصبعها، يفاجئها الخاتم بأنه في مكانه، تبكي من شدة فرحها و تطير عبر أجنحة الأثير قبلة لمن وقف معها في شدتها.

بقلمي أحمد  اسماعيل  سوريا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي