القراءة ج1 :بقلم الناقد كريم القاسم
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( القـراءة )
ـ ج1 ـ
ـــــــــــــــــــــــــ
يقول المؤرخ الكبير (أرنولد توينبي) :
" ليست العبرة في كثرة القراءة ، بل في القراءة المُجدية "
• ابتداءً يجب ان نفرق بين الموهبة والمهارة .
ــ لننطلق من تعريف مٌبسَّط جداً لهاتين المفردتين :
• الموهبة / هي قدرة ذاتية على القيام بأمرٍما دون تمرين أو تدريب ، وهي تُولَد مع الفرد ، وتكون كامنة مخفية ، تحتاج حين اكتشافها الى صقلٍ ومعالجة لتنمو وتتطور .
• المهارة / هي قدرة ذاتية على القيام بأمرٍما نتيجة تدريب ومران ، ولاتأتي إلا من خلال التعلّم المُنظَّم والدرس والمثابرة للوصول الى الخبرة والتمكّن .
ــ وبعيدا عن المصطلحات التي ترهق القاريء مثل (السيميوطيقا) وبعيدا عن (الهيرمينوطيقا) وبعيدا عن استعراض تلك النظريات التي تتصدى للقراءة والغوص في لججها او .... أو ... أو ..
ــ أودّ أن أبسّط للقاريء الكريم تلك المفاهيم الخاصة بعلاقةٍ تُعرِّف القاريء بفن القراءة ، و العلاقة بين القراءة والنص ، بأسلوبٍ واضحٍ ناضجٍ خالٍ من التعقيد والاستعراض المشوَش .
• لنبدأ بسؤال :
ـ هل تُعتبر (القراءة) مهارة ؟
ــ اذا كان الجواب بـ (كلا)
فسيكون هذا الجواب مخالفاً للبديهيات ، لأن ما نجده من قراءات لدى مختلف الناس بالتأكيد هي قراءات مختلفة المنازل والمراتب ايضا ، بل إننا نجد البعض لايفقه مايقرأ ، والبعض الاخر ينفر من فعل القراءة أساساً رغم امتلاكه القدرة عليها ، والبعض يغوص في القراءة باستمتاع ولذة وفائدة . وهذا دليل على ان فعل (القراءة) لم يكن متساوي النضج والادراك والاستيعاب لدى الجميع .
ــ إذاً هذا التباين والاختلاف في القراءات لابد أن يقودنا الى الجواب بـ (نعم) لأن (القراءة) لابد ان تكون ( مهارة وفنّاً ) تحتاج الى تدريب وخبرة وممارسة ، وهي ليست (موهبة) متوارثة .
ـ فهي مَلَكة معرفية ذاتية تحتاج الى تدريب ومران على القراءة ، كي نفهم مانقرأ ، ونخرج برؤى مختلفة حسب الفلسفات والمعطيات والمعارف المكتسبة التي نمتلكها . وهنا تتحدد الابداعات والنتائج حسب قدرة القاريء المتلقي .
ــ وقبل الولوج في هذا الامر ، علينا ان ندرك مايلي :
• (إن الـنـص هـو حـقـيـقـة مـعـرفـيـة)
ـ تعلمنا سابقاً في مراحل الصِبا ؛ ان تدريب مَلَكَة القراءة الذاتية لايتم عشوائياً ، بل لابدَّ لهُ من مراحل يمر بها مِن حيث معرفة العلامات ، ومعرفة لغة النص المقروء ، للوصول الى مرحلة التفسير والايضاح والإبانة والتأويل ، وبعد ذلك يغوص القاريء في مرحلة معايشة النص وإستيعابه ، وهي قمّة الفعل القرائي .
ــ ولذلك سنضع بين أيدينا سؤالاً :
• ماذا يحدث عندما نواجه نصّاً أدبياً ؟
ــ مما تقدم يتبين لنا أن هنالك لحظة تفاعلية بين النص والقاريء تبدأ من أول وهلة .
إذاً يمكن ان نترجم فعل (القراءة) بأنه (إدراك) لشيء محسوس ضمن العالم الخارجي بواسطة خبرة مناسبة لمعرفة ملامحه ، والغوص في مكنوناته ، للتعرف على أسراره من ناحية المعنى والوظيفة .
والإدراك هنا لايمكن أن يحمل علامات السلب ، كونه عملية انتقائية ، ستُحدِث ردّة فعل ذاتية تحتاج الى ضوابط والتزامات . حيث انكَ لايمكن أن تكون سلبيَّ التعامل مع نص تقبَّـلَتْهُ ذائقتك الادبية ، وهذا التقبّل هو الذي سَيُحدِث ردة الفعل الايجابية الذاتية لديك.
ــ وهنا يحضر بين ايدينا سؤالاً جديداً :
• هل يمكن لذات المتلقي أن تُدرك أيّ نص للتفاعل معه وفق مفهوم القراءة ؟
ـ الجواب (كلا)
لان الادراك بـ (المحسوس) الخارجي ـ وهو النص ـ لايمكن أن يكون عشوائيا ، بل يخضع للوعي الداخلي وللذائقة المعرفية ، ولذلك يحدث النفور من اول وهلة مع مالايوافق الطبع والفلسفة الذاتية ، كما يحدث لديك عندما تحاول ادراك ومعرفة شيء ، فتتلمسه ثم تسحب يدك بلا إرادة ، كَون ذلك الشيء بارداً جداً أو ساخناً جدا .
ــ وكان اساتذتنا ـ رحمهم الله تعالى ـ يوصون :
(بأنك حين تُقلّب كتاباً او تواجه نصّاً ما ، مهما كانت مرجعيته ، فستجد نفسك وإدراكك يتأرجح بين إدبارٍ وإقبال ، ثم ما أن تقرأ سطراً او سطرين ، حتى تجد ذاتك أكثر قوة على اتخاذ القرار مِن حيث الاستمرار في القراءة أم القطع . فإن قرَّرتَ الاستمرار ، فذاك أمر قد أراده الادراك ، وتقبلَّه الشعور الذاتي لشيءٍ جاذب يتوافق مع مضمون النص ، ومع بعض مكنوناتك المعرفية ، ووجدتَ فيه شيئاً جاذباً يقود الى معرفة تحتاجها خزانتك المعرفية .
أما إذا قرَّرتَ القطع ، فذاك أمر قد أراده ادراكك لعدم تقبّلك الشعوري ، ولعدم توفر عناصر الجذب التي تتوافق مع مدركاتك كقاريء ومستواك المعرفي ، فعندها ستتولد لديك الرغبة بالقطع والنفور )
ـ وإلا مِن المستحيل أن تستمر بالقراءة إذا كان المضمون لايُحرّك الإدراك والذائقة .
• لذلك نجد طالب الابتدائية مثلاً تتوافق قراءاته مع مداركه الذاتية . فهو يتطلع الى قصص قصيرة ، وإلى كتيبات تحوي معلومات توافق خزينه المعرفي ، وتوافق ذائقته الطفولية ، ولكن هيهات أن ينجذب الى كتب الفلسفة والعلوم الأخرى ، التي لاتُسجّل لديه أي تفاعل في الوعي المعرفي ، حتى وإن قرأها ، فهو لايستوعب ما قرأ .
• ومن الخطأ الفادح أن نجبره على قراءة مالايفقه أو مالايحب . لذلك يجب تدريب الذات الطفولية تدريجياً لحب القراءة وتنمية المدركات الحسية بمايوافقع تطلعاتهم حتى الوصول الى المراحل المتقدمة من الغوص في القراءة والتحليل .
وهذا مايعاني منه ـ للاسف ـ معظم التلاميذ ، وحتى في سنٍّ متقدمة من المراحل الدراسية ، وهو النفور من قراءة (المادة الدراسية) بسبب عدم تدريب (مَلَكَة) القراءة لديهم منذ الصِغَر .
ـ وأحيانا نجد القاري يَفهم مايقرأ ، ويُجيد تحليل حيثيات النص ، لكنه ينفر من قراءة النص لمجرد التقاطع الفكري او الفلسفي وفق معطيات هو يؤمن بها .
وهذا مانجده نحن الادباء عند تطلعنا في الدواوين الشعرية او القصص والروايات والمقالات الصحفية وغيرها من الامثلة الحياتية المحيطة بنا ، والتي نتقاطع معها فكريا وفلسفياً . وهو الشرك والفخ الكبير الذي يقع فيه الكثير من الاخوة النقّاد.
• وكان أحد اساتذتي ـ رحمه الله تعالى ـ يقول في فعل القراءة العميقة :
(إن فعل القراءة هو فِعلُ وعيٍّ بعيدٍ عن العفوية ، وهو كذلك فعلٌ إدراكيّ مُعقّد ، ذو مستويات متعددة )
ثم يحدد هذه المستويات بـ (الادراك ، التعرّف ، الفهم ، التفسير).
ــ الادراك / مستوى يعتمد على الحواس.
ــ التعرف / مستوى يعتمد على عملية تفاعلات ذهنية للتعرف على العلامات ذات المعنى الدلالي .
ــ الفهم / مستوى يعتمد على محاولة القاريء لفك الشفرات والرموز للوصول الى معاني الدلالات ، وهنا تتطلب المَلَكَة الذاتية للقاريء معرفة لايستهان بها لمعايشة هذا المستوى ، وللعبور الى المستوى الرابع (التفسير) .
ــ التفسير / لايمكن الوصول الى مستوى (التفسير) دون استيعاب مستوى (الفهم)
ـ وكثير من الاحيان تتوقف القراءة عند المستوى الثالث (الفهم) وخاصة عندما تتوقف الذات المعرفية عند معنى دلالي معين بحيث يكون الفهم مبتوراً أو مغلوطاً ، وهنا نحتاج الى التوغل في المستوى الرابع (التفسير) أكثر للتعرف ، ولتفسير بواطن المعاني والرموز ، او نحتاج الى فك رموزٍ اخرى لفهم دلالات معينة ، للوصول الى معنى المعنى ، كي نصل الى المعرفة المنشودة .
• لنبسّط ماتقدم من مفاهيم مجرَّدة الى مفاهيم محسوسة نتفاعل معها يومياً :
ـ مثلاً عند قرائتك لرواية (الشيخ والبحر) للكاتب الأمريكي الكبير (أرنست همنغواي) ستبدأ مستويات الفعل الادراكي (الاربع) بالتفاعل تدريجياً وتباعاً . وستختلف قرائتك وفهمك وكشفك للشفرات والوصول الى المعاني والدلالات عن قاريء آخر ، بل وسيختلف فهمك وكشفك للشفرات والوصول الى المعاني والدلالات عندما كنتَ تقرأه في مراحل الدراسة الابتدائية او المتوسطة او الثانوية ، ولو تتبعنا أو تفحصنا الامر لوجدنا تباينا واضحا في الفعل الادراكي ومستويات الفهم .... فمثلاً :
ــ قد تصل بك المعرفة الذاتية الى فهم النص من خلال ترابط الاحداث بين (الإعصار في البحر، والحوت ، والقدرة البدنية للشيخ العجوز).
ــ وقد تتركز المعرفة الذاتية لقاريء آخر بعنصر (الحوت ، أوالقارب والحبال ، أوالفتى الصغير ، أو إصرار الشيخ على التحمّل ، أو الإرادة الذاتية للانسان).
ــ وقاريء آخر قد تتركز معرفته الذاتية على مستويات أخرى من الرواية تتناسب مع رؤاه ومدركاته .
وهذا شيء بديهي يحدث لتفاعل القاريء مع اي نص . فالحركة ، والسكون ، والعام والخاص ، والفصل والوصل ، هي مستويات معرفية تحتاج الى وفهم وتفسير ، كما اشار اليها الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) بغض النظر عن الادب ، كونها مستويات ندركها في الحياة العامة في كل شيء ، وهذا جانب كبير يحتاج الى غوص أعمق .
ــ لنتعمق اكثر في فعل القراءة كي نتسائل :
• عمَّاذا يبحث القاريء عند مواجهة النص؟
• مانوع الآصرة التي ستتشكل بين القاريء والنص ؟
• هل يمكن الفصل بين القاريء والنص ؟
• ماهي العلاقة التي تنشأ بين النص والقاريء ؟
ــــ ذلك ما سنبيّنه في القادم بعون الله تعالى ....
ــــ احترامي وتقديري .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق