PNGHunt-com-2

قراءة بقلم الناقد غازي أبوطبيخ الموسوي لومضة أ.د.محمد جواد البدراني

عجالة نقدية
وهمسة شعرية
       بقلم
أ.د.محمد جواد البدراني
       *****
قرات نص الشاعر الكبير غازي أحمد الموسوي،هذا النص القصير الذي  يمكن أن نعده ضمن ما يعرف بقصيدة الومضة التي تتسم بالإدهاش والتكثيف الموحي والَّلمح الدال .
ولعل من أهم ماتتسم به القصيدة الومضة أنها قصيدة رائية تستفيد من تقانات السرد لتبني شعريتها ، فضلاً عن انفتاحها التأويلي وابتعادهاعن المباشرة عبر التكثيف وهذا ما يجعلها عصية إلا على المبدعين، فقصيدة الومضة تنأى بنفسها عن المستهلك والمباشر وتكرار ما قيل وتسعى لأن تختصر ما يمكن أن يقال فتمنح الصورة روحاً متجددة
على الرغم من انها قد رافقت القصيدة التسعينية التي انبجست نهايات القرن الماضي ،إلّا أنها ارتبطت كثيراً بشعر التفعيلة وقصيدة النثر، وتأثرت بصورة مباشرة أو غير مباشرة بفن التوقيعات في تراثنا العربي من جهة وبشعر (الهايكو )الياباني من جهة أخرى، فضلاً على مؤثرات أخرى ليس هنا مجال خوضها بيد أن القصيدة الومضة يندر أن تكتب بطريقة الشطرين لميل قصيدة الشطرين للاسترسال والتدفق والاطالة وفخامة الالفاظ وصخب الايقاع الذي من الصعب أن يجتمع مع سرعة الومضة وإدهاشها غير أن الموسوي بشاعريته العالية، وتمكنه من أدواته استطاع ان يكتب (نصا وامضا) بادوات قصيدة الشطرين وهو أمر لا يجرؤ على خوض غماره إلّا كبار الشعراء،لأنهم واثقون من أدواتهم ،متمكنون من إبداعهم ومن رسوخ تجربتهم الادبية ، وهذا ما دفعني إلى كتابة هذه العجالة النقدية التي أعترف اني لم اتهيأ لها بل كتبتها مسترسلاً بعد ان قرأت النص وبعض التعليقات عليه في صفحة الشاعر على (الفيسبوك )، لذلك أستميح القارئ عذراً عن ما في تعليقي النقدي هذا من إيجاز .
النص جاء عبر أربعة أبيات من البحر البسيط ذي العروضة المخبونة والضرب المخبون ،ومن المعروف أن البسيط متعدد الأغراض،وهو بحر احتل المرتبة الثانية في شعر الشطرين بعد الطويل لكن الشاعر اختار أن يكتب به قصيدة الومضة المتسمة بالقصر والتكثيف -كما أسلفنا - واختار التاء رويّاً لنصه،فالقافية كما تقول نازك الملائكة إنها (مفتاحٌ سحريٌّ يقودنا إلى باطن الشاعر)،فقد اختار قافية متوسطة ليست من الذلل ولا من الشُمس، كما جاءت من النوع المتراكب (ثلاثة متحركات بين ساكنيها ) وهذا يساعد على الجهارة والشدة والوضوح السمعي ويتسم هذا النوع من القوافي بالمهارة والحاجة الى شاعرية متمكنة.
ألنص متعدد التأويل، مبتعد عن المباشرة،وهذا من سمات القصيدة المعاصرة التي تتسم بانفتاح تأويلها وتعدد مساربها بحيث لاتمسك بسهولة ،وهذا ما أوقع عدداً من الاخوة المعلقين بالوهم حين ظنوا أن الشاعر يرثي أباه المباشر، مستنيرين بكلمة (يا أبتي )،لكن الموسوي أكبر من أن يكون مباشرا  فشاعريته تنأى عن المباشرة التي تقتل روح الشعر وتحوله إلى نظم مقيت،فنصه هذا قراءة عصرية لملحمة الخلود حين وقف سبط المصطفى صلى الله عليه واله وسلم بعزم لا يلين مشرعاً صدره للسيوف والرماح ليكتب إسطورة التضحية من اجل العقيدة لذلك فكلمة (أبتي ) هنا تحيل على الحسين عليه السلام ،كون الشاعر  حفيد الحسين وابنه غير المباشر .
ألموسوي شاعر متمكن من أدواته، يعزف بمهارة محترف على إيقاع نصه ،ويعجن لغته بحنكة خبير يعرف انتقاء الفاظه ووضعها في موضعها المناسب، فقد اختار (ماء العين ) معادلاً موضوعياً للدمع وهي صورة طريفة لبكائه إذ أن الحزن لا يُعَبَّرُ عنه بطريقة واحدة، فلكل لغته ،لكن الشاعر تفرّد ببكائيته، فحزنه نهر لا ضفاف له، وهذه صورة شعرية باذخة استفزت كياني، لانها تنم عن خيال خصب خلاق وشعرية خارقة،إذ لا بديل عنها تعبيراً عن الاستطالة والامتداد واللا محدودية .ثم ينتقل للقول:إن مرثيته ليست بوحاً عاديّاً لمُترف لم يعش أبعاد المأساة فيجتر ما قاله سابقوه ببغاوية مقيته ،لكن بكائية الشاعر هنا بكائية انتماء جسدي وروحي، فهو ينتمي للمرثي من الجانبين،بل يجد هذا الانتماء هاجسا شعريا يمتد عبر قصائده كافة ،وقد جاءت الصورة الشعرية (فياضا بمحبرتي )بالغة التعبير اذ اختار صيغة المبالغة (فعال) ليؤكد أن جرحه الشعري وتجربته الانسانية المعذبة التي عاشها هي امتداد لجرح جده الحسين .ع.
وهذه ثيمة شعرية واضحة في تجربته الشعرية عبر دواوينه كافة. 
الموسوي شاعر إنسانيٌّ من طراز رفيع، يرتقي بنفسه فوق الطائفية، ويصرح جهاراً أن بكاءه جدَّه الحسين ليس نزعة تحركها عاطفة طائفية دينية مشبوبة، بل يرى جده صورة إنسانية نادرة جسدت التضحية الانسانية.  فالحسين أضحى من رموز القصيدة المعاصرة في الثبات على المبدأ والتضحية من أجل العقيدة، والشاعر يبتعد عن الطائفي ويسعى للإنساني، وهذا من سمات شعره التي اشرت لها في دراسة سابقة.
يختتم الشاعر  نصه بالقول:إن الحدث أجلّ واكبر من أن يحتويه الصبر،فكانت الخاتمة ضربة مُعلِّم تجلى فيها ما أسماه النقد القديم بحسن الخاتمة وأسماه النقد الحديث شعرية الضربة. 
ألنص مفعم بالدلالات، وإذا قصرت قراءتي عن فهمه فستغنيه قراءات اخرى لنقاد آخرين، فالموسوي شاعر كبير لم ينشر إلّا متأخراً،فليس غريبا أن لا تنتبه إليه أعين النقاد..

الومضة:
…………
ألنّاسُ تَبْكِي
بِمَاءِ الْعَيْنِ والُّلغّةِ
ومُهْجَتِي فَتَحَتْ
نَهْرَاً بِلَا ضفَةِ
.
وَحِيْنَ أَرْثِيْكَ
لا عَنْ بَوْحِ ذِي تَرَفٍ
لكِنَّ جُرْحَكَ
فَيَّاضٌ بِمَحْبَرَتِي
.
أَبْكِي
ولَيْسَ بِخلْدِي هَمْسُ طَائِفَةٍ
فَأَنْتَ أَزْكَى دَماً
مِنْ كُلِّ طَائِفَةِ
.
وَكَمْ حَفَزْتُ ٱصْطِبَارِي
حِكْمَةً وَحِجَاً
وَيْكَٱنَّ يَوْمَكَ
فَوْقَ الصَّبْرِ يَا أَبَتِي..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي