PNGHunt-com-2

قراءة الناقد غازي أبوطبيخ الموسوي لنص الشاعرة الأردنيةآمال القاسم

البحث عن ديمومة الشغف عبر الحوار مع  المثال: الشاعرة آمال القاسم  -الأردن..

غازي أحمد
ابو طبيخ الموسوي
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
ستكون رحلتنا مع هذا النص النثري العميق بمستوى وعي الضرورة تحليلياً،بما يعيد الحيوية لحياة الإنسان،وبمعنى إعادة الشغف إلى المناخ الإجتماعي العام،فالشاعرة لم تلمّح إلى جغرافية محددة ،ولا حتى إلى زمان محدد ولا عنصر خطاب محدد.
بهذا يكون خطابها الشعري مطلقاً ،متحللاً من قيود الزمكان، والعلاقة الفردانية ذات المستوى الشخصي،إنها تصنع إنموذجاً وتحاكي إنموذجاً أيضا. 
لكن هل نكتفي بالمعنى المعجمي لهذه المفردة التي نتوخى منها الإرتفاع إلى مستوى الإصطلاح ،حتى وإن كان خاصاً مقنعاً،خاصة وقد كان لهذا الإصطلاح حضور كبير في سورة يوسف.ع.حكاية عن زوجة العزيز:  ((قد شغفها حباً)).
ولا تغيب صلة الشغف بالشغاف اشتقاقاً،فهو يصيب شغاف القلب كمركز للإحساس ،وكموضع يستوطنه طيف المحبوب،عربياً وعالمياً :
أما تعريف و معنى شغف الحب قلبه في قاموس المعجم الوسيط ،واللغة العربية المعاصرة ،والرائد ،،ولسان العرب ،والقاموس المحيط،والصحاح1: فتجمع على أنّ شغفه الحبّ:فتنهُ وأصاب قلبَه ،ومنه قول بن الملوح:
(وما حُبّ الديار شَغَفْن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا).
من هنا فإنّ مفهوم الشغف لايتوقف عند حدود الرغبة أوالشهوة في قصيدة القاسم،فالحافز هنا ليس إيروسياً محضاً ،إنما يتوسع مفاده بحيث يعني الدعوة لإيجاد حياة بديلة،أوبمعنى أدق إعادة الحياة لمناخات الحب المُغيَّبة بمعناها الإنساني الجمعي،بعد أن تعرّضت إلى نوع من الإغتيال والخمود أو الكسل في أهون التعبيرات،حتى تصيّرتْ فردوساً مفقوداً بحسب ملتون ،وكم هي دقيقة مقولة لورنس تعبيراً عن الواقع الراهن المعيش،حيث يقول:
(ألغيت كل الكلمات العظيمة عند أبناء جيلها: الحب، المتعة، السعادة ، البيت، الأم، الأب، الزوج، كل هذه الكلمات العظيمة الحافلة بالحيوية، أصبحت شبه ميتة الآن، وتحتضر من يوم لآخر ( من رواية عشيق السيدة تشاترلي، للكاتب د. ه. لورنس).
وهذا بالضبط ما رفعت شاعرتنا عقيرتها عالياً من أجل تغييره،فتلك إحدى مهمات الشاعر المحورية،بل مهمة كل قصيدة أيضا هو الإسهام في التغيير الإيجابي،وفي تخليق حياة بديلة وجميلة في آن...
من هنا تبرز جلية وظيفة الفن،حيث يؤكد فيشر( إن الفن ضروري للإنسان لكي يفهم العالم ويسهم في تغييرة)2. 
نص الشاعرة:
……………....
قُبيْلَ ميلادِكَ  ..
كنتُ معلقّةً في جداريةٍ
من صنعِ أبجديّتي
تعاني الصقيعَ والعتمةَ
ووجهي يلهثُ بعبثيّةِ الألوانِ
يختنقُ بالاشتياقِ والاشتهاءِ
وفوضى الروحِ في التّصحّرِ

منذُ روحِكَ  ..
وشمْتُكَ لهفةً على مخارجِ الشّرودِ
لأحتويكَ في هوسِ البياضِ
وأنا سكرى منذُ بدايةِ الحضارةِ
وشهقةٌ مهيّأةٌ للعشقِ
يغريني فيكَ النّبيذُ وزهرُ الليمونِ

منذُ عطرِكَ ..
والشموعُ تعاقرُ خمرتي
بعبقِ الحبِّ
تحتفلُ بعناقٍ ووصالٍ
لتنجبَ اللذةَ والانتشاءَ
فأهزُّ أنفاسَكَ على مهلٍ
لتأتيَني سحابةً من غَمامٍ وأحلامٍ

منذُ جبينِكَ ..
وأنا أرسمُكَ ناراً ثائرةً
تنزُّ بشبوبِ الطّيوفِ
بريشةٍ من ضفائري
تغني مواويلَ الحقولِ
فأشكِّلُكَ معجوناً بعرقِ الوقتِ والتعبِ

منذُ كفّيكَ  ..
نحتُّكَ قصيدةً من الدفءِ
تتراءى في قاعِ الرّوحِ
أسدِلُ عليها أنوثتي
من ماءٍ ونارٍ
تتشاقى في تضاريسِكَ
تدثِّرُكَ بالغزلِ والقُبلِ ..

منذُ جنونٍ ونصفٍ ..
وأنا أغزلُكَ موسيقا بقوافٍ
تفيضُ على الضفافِ
كما عزفٌ شَغوفٌ
يا أولَ عينيّ
وآخرَ شفتيّ
وخاصرةً وُسطى توّاقةً
لشبقيّةِ الماءِ في الارتواء

منذُ قصيدتِكَ التي لم أكتبْ بعدُ ..
يهامسُني الوردُ   :
أيَّتُها اليانعةُ كما طفولةٌ ضاحكةٌ
يتزاحمُ فيها الياسمينُ ،
أين أحاديثُ الهوى
التي تؤرِّخُ الذكرى
في الخافقِ والعيونِ  ..!؟
أين امتدادُ الأبجديّةِ
على مقاسِكَ والشجون ..!؟

منذُ ميلادِكَ  ..
وأنا أمتلئُ بكَ عمراً آخرَ
أبحثُ عن تاريخٍ يكتبُني
أفتِّشُ في فراغي
عن حاضرٍ يحتويني فيك َ
لأطبعَكَ بصمةً مشرقةً
في عينِ الشمسِ ..

حين خاصرتي  ..
تتزاحمُ من أجلكَ الأمواجُ
في فستانيَ الليليِّ
عقودا وأساورَ وخلاخيل
أتيمّمُ بقبضةِ يديكَ
لأُتمَّ صلاتي
وأسكبَ على ساحل ِ الدهشةِ
عطشي وعباداتي
كيف تشاءُ ومتى شئتَ
يا روعةَ الاشياءِ أنتَ ..

وحين أنت .. يا نبضَ الوقت
أتوسّلُكَ .. دعني ازرعُكَ في دمي أكثرَ
أحصدُ المدى بعينيَّ العاشقتين
يا كلاً يملأُ كلّي
يا طيفاً يتنفّسُهُ ظلي ..
دعني أهمسُ لعطرِكَ ..
لثغرِكَ ..
لعُمرِكَ ..
أنا وقصيدتي والشوق ُ ثالثُنا
ندعوكَ  لأنْ ...
نطفئَ شمعة وخمسين
نحرقَ قُبلةً وحنين
حتى يغدوَ ميلادُكَ وردةً
تتمدّدُ في انحناءاتِ السّكّرِ
تهبُّ في وجهِكَ باسمةً لتقولَ لك  :
كلُّ عامٍ وأنتَ ملاكي ومليكي..!).
……..
……..
من هنا فإن الشغف الذي نتحدث عنه وتتحدث عنه شاعرتنا آمال القاسم لايختص بعلاقة الرجل بالمرأة كأنثى وذكر وحسب،كلّا،إنه يُعنى باستعادة الشغف بالحياة ذاتها،بعد هذا المتراكم المتلاحق من الخيبات الضاغطة.
ومادام الرجل والمرأة كمثالين وإنموذجين هما عنصر الحوار الحركي فليكونا إذاً عنصري الحوار الشعري في قصيدة القاسم،فبهما معاً، سوف يتم التنوير والتعمير للأنفس وللحياة سوياً،لأنهما وسيلة التغيير،مثلما كانت مفردات النص وسيلة للتعبير:
(منذُ قصيدتِكَ التي لم أكتبْ بعدُ ..
يهامسُني الوردُ   :
أيَّتُها اليانعةُ كما طفولةٌ ضاحكةٌ
يتزاحمُ فيها الياسمينُ ،
أين أحاديثُ الهوى
التي تؤرِّخُ الذكرى
في الخافقِ والعيونِ  ..!؟
أين امتدادُ الأبجديّةِ
على مقاسِكَ والشجون ..!؟)
إن تركيزنا على مكنون النص ودفائنه ،لايعني عدم الإلتفات إلى قوة النسيج الشعري،بوحدته الموضوعية والعضوية،ولكننا نعلم مسبقاً رسوخ التجربة الشعرية بقصيدة النثر عند الشاعرة القاسم ،
فمن كتبت هذا القصيد تخطت  مثل هذا المفاد ،وإنْ كان التعرض له بالتوصيف اللائق به نافعاً،كإسوة ذات تحققات مشهودة،عبر منجز لافت للإنتباه،نقول ذلك إفصاحاً منا عن الإعتزاز بمستويات الحضور المميزة لهذه الشاعرة المهمة،ومن حق الشاعر..ة أن يعرفا طبيعة الأثر،ونوع البصمة التي تركاها أيضا،
فسيرى كل منهما مستوى إبداعه  ومديات رسوخه،في عيون المتلقي نخبة وعامة من ناحية..
ومن ناحية أخرى لإعمام الفائدة، من خلال توسيع دائرة الفهم بنقل توصلات المبدع والناقد معاً إلى المتلقي.
وفي ذات السياق تجدر بنا الإشارة إلى روعة الإيقاع ،وبديع اتصاله من البدء حتى نهاية النص،  والإشادة بموسيقى هذه القصيدة الواعية تعني ضمنياً الإشادة بالسياقات المكتنزة البليغة الرصينة.
بعدها لابد لنا من العودة إلى محور اهتمامنا ،
وأملنا أن ما سنورده يمكن أن يؤدي الغرض أو بعضه لشديد أهميته.
فموضع تركيزنا موجه إلى قوةمشروع هذا النص الابداعي.
ونحن هنا نقصد هذا الاصطلاح،
إذْ يساورنا سؤالٌ
كبيرٌ ربّما خطر على البال تأثراً،ولكنه وقف شاخصاً حد إثارة الانتباه:
ترى هل يمكن للشعر وعموم الإبداع أن يجدد الحياة؟،ان يبعث في عروقها الدماء ، أن يضيف بهاء جديداً عليها ؟..
هل يمكن للمشاعر وحدها ان تكون بديلاً حيوياً خالداً?
هل يمكن للمبدع بحسب طاقته أن يُحدِثَ التصعيد الفني فيخصّب أزمنة اللذة ، من خلال توظيف هذه المشاعر، لخلق بيئة تنتقل بالانسان من منطقة الكسل والركود والرتابة والسكونية والتسليم بٱنتظار خطاطيف الردى ،إلى منطقة الاضاءة الجمالية المحمية بنوع من الحيوية التي لايصيبها البرود، نوع من( السوبر) الجمالي الدينامي الذي لا تأفل كواكبه المنيرة بالحيوية وأعماق الرغبة واسرار اللذة الخفية بكافة تنويعاتها الفردوسية ،بما فيها فراديس المعرفة ومرابع الجمال،جسداً وروحاً وعقلاً.؟!
ترى هل هي فعالية تثويرية تقوم بها شاعرتنا،  لتحريك الساكن وتنوير الخامد؟..
ولا ننسى طبعا ،أن من يُذكّرنا أو يستحضر أمامنا كل هذه التساؤلات، أديبة شاعرة..هذا يعني إنها امرأة.. وهذا يعني إنها أنثى..؟! 
لكن هذه الانثى تشكل محوراً..أو ضميراً جمعياً لجميع بني جنسها على الاطلاق..
فهل كانت تصنع
إنموذجاً خارقاً لعنصري الحوار الأكثر تأثيراً في هذا العالم؟!..
هل كانت تقترح على بني جنسها جميعا تصعيداً لا يسمح للقطب الآخر بتجاوزه ابداً؟! 
نحن هنا نركز محوريا على إطروحة النص.. ماذا اراد النص ان يقول؟..
كل صورة مشهدية قدمتها لنا الشاعرة  آمال القاسم لوحة تمنع من رؤية غيرها في نفس اللحظةالراهنة،ذلك لأن كل تفصيلية من أوجه التفاعل الواقعية بين القطبين-موضع الحوار الازلي- أصبحت هنا على يد هذه الشاعرة العميقة المكتظة بالمقترحات الجمالية الحية،التي تمكنت بحذق ومرونة جزلة من ضخها في سياق لغة لم تكتفِ بسلامة السياقات ،وإنما بما انطوت عليه من أنساق قوية المداليل،بحيث نشأت عن هذا التلاقح الجميل أداة تعبيريةمشبوبة ناطقة بالرعشات الحركية العميقة الغور، بحيث أصبحت
متمرّدة على المعتاد،عابرة للسائد،كاسرة للمألوف..
..ولكي نشتمل على بعدي الرؤيا نطرح السؤال التالي:
هل كانت آمال القاسم تقترح علينا معاً أنْ:يا
أيتها الخليقة التي فقدت كثيراً من شعورها بالجدوى،تعالوا أدلكم على كلمة سواء تنجيكم مما أنتم فيه من الكساد وانخماد الحيوية ،وشيوع السأم والملل والضجر، مع تقارب المعاني..؟!
وللإجابة الواضحة عن كل هذه التساؤلات التي أضمرنا مالا حصر له منها ،نطرح الاسئلة الختامية  التالية: 
ألم يكن جمال المرأة التي قدمتها آمال القاسم كمقترح بديل  مدهشاً مذهلاً حقاً؟!..
ألذي نعتقده :
نعم لقد فعلت ..
إذاً كيف توثبت به الى هذا المستوى من الرقي و الجاذبية؟!..
أخيراً ماهو عنصر الخلق الخبئ الخفي الذي كان يمثل ( الداينمو) المحرك لجميع عناصر  التصعيد الجمالي الحيوي الاخرى؟!..
لا أظن بعد كل هذا ان بنية حمل جميع هذه المقترحات العظيمة الإثارة،والخالدة اللذة مازال بعيداً عن ذهن المتلقي الواعي..واضح جداً،إنه سفينة الحب المثالي الصادق الحميم التي من ركبها عاش حياته سعيداً  ونجا..الحب بمعناه الخاص،والحب بمعناه الإنساني الواسع النطاق..
………………………………
1-الصحاح ،باب شغف،ص340.
2-ضرورة الفن،ارنست فيشر،ص23.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي