PNGHunt-com-2

تجليات السهل الممتنع في قصائد الشاعر عاطف الزبيدي : الناقد غازي أحمدأبوطبيخ الموسوي

إعادة نشر:
"""""""""""""

تجليات السهل الممتنع في قصائد الشاعر عاطف الزبيدي Atf Alzubaide( العراق).
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""

سمعنا وقرأنا الكثير حول موضوعة السهل الممتنع ،هذا المركب الّلغوي المعبر عن نوع معين من الأداء الشعري المحبب لدى النخبة والعامة في آن واحد.
فماهي أدق تفاسيره الإتفاقية ؟..
لقد أجمع غالبية الباحثين في هذا الشأن على التعريف التالي:
السهل الممتنع (تعبير عن النص الشعري
السهل الفهم والصعب التكوين)،وهذا التفسير لايتعلق بالشعر وحده،وإنما يتسع لكثير من تفاصيل الحياة،وشؤون الإبداع تشكيلاً وتعبيراً،ولتقريب فكرته يضرب الباحثون المحدثون مثالاً بالكاريكاتير الموحي الناجح الذي يوصل فكرته المعمقة المدهشة بيسر وسهولة،
ولكن تنفيذه فنياً عسيرمستصعب،إلّا على أصحاب المواهب الخاصة.
ولقد سألت زميلَ حَرْفٍ واسع الآفاق ذات حوار: ترى لماذا تكتب بكل هذا التعقيد التعبيري ياصديقي العزيز !!..
فأجابني بكل شجاعة وأريحية: ذلك لأنني لا أستطيع،فذلك الذي تقصده لايتسنى لي ياصديقي الّا في احوال نادرة.
وكنت أدرك أن كتابة السهل الجميل المدهش العميق صعب مستصعب لايتسنى فعلاً إلّا للخاصة من الموهوبين كما قدّمنا آنفاً..
هذا المطلب لايتعلق شعرياً بالعمود التقليدي وحسب ،وإنما يتعداه إلى قصيدة التفعيلة الحرة وقصيدة النثر أيضا.
وكلنا سمع بأبيات الشاب الظريف الشهيرة:
(لاتخفِ ما صنَعتْ بك الأشواقُ
واشرحْ هواك فكلّنا عشّاق
.
فعسى يعينك من شكوتَ له الهوى
في حمله فالعاشقون رفاقُ)!!).
وأغلبنا يظنّ أنه قادر على نظمه لشدة سهولته،ولكن التناوش من بعيد شيء،والقدرة الذاتية التلقائية شيء آخر ،فالأمر متعلق بخصوصية المواهب،وهذا لايعني الطعن بالمصنوع،بقدر مايعني الفرز والتدقيق،ولقد قيل قديماً(جرير يغرف من بحر،والفرزدق ينحت من صخر)،وماأروع شاعرية جرير ،وما أعظم شاعرية الفرزدق.
لكن يبقى الحال مرتبطاً بنوع الذائقة ،وطبايع الناس.
ومعلوم أن هذه الظاهرة الإبداعية شديدة الإرتباط باصطلاح شهير آخر هو( المطبوع والمصنوع).
وتعتبر قضية الطبع والصنعة من القضايا النقدية التي أسهب النقاد العرب في العصر القديم، في الحديث عنها، قصد التعريف بها وتفسيرها، إلا أن الغموض ظل يسيطر عليها، إلى أن جاء ابن رشيق (390هـ -456هـ ) ليدلي بدلوه في هذه المسألة النقدية . فبعد أن بين أن الشعر ضربان: مطبوع ومصنوع راح يبين مدلول كل منهما بقوله «فالمطبوع هو الأصل، الذي وضع أولاً وعليه المدار . والمصنوع وإن وقع عليه هذا الإسم فليس متكلفاً تكلّفَ أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمُّل، لكن بطباع القوم عفواً، فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف، يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفا من التعقُّب»(1).
ولقد أعجبتني شخصياً إشارة الحصري المغربي حول هذا الموضوع كونه
ينتهي إلى رأي وسط في هذه القضية فيقول: «و أحسن ما أجري إليه وأعول عليه التوسط بين الحالتين والمنزلة بين المنزلتين من الطبع والصنعة »(2) .
وعوداً على موضوعة بحثنا نقول:
إنّ الزبيدي البصري شاعر مطبوع،وشاعريته سهلة ممتنعة، قوي الحضور جاهز الفكرة منذ بداياته،وسِرّه يكمن في هذه العفوية الجريئة والشجاعة المرهفة (البريئة والناضجة) معاً،وما أروع وأشف قوله على عروض الكامل مثلاً:
(يَحتارُ خَصمُكَ فيكَ حينَ يَراكا
فأعْمَلْ بأصلِكَ لا بأصلِ سِواكا

دَعهُ فَما لَكَ فيهِ شِغلٌ شاغِلٌ
فَهواهُ أصلاً ليسَ مِثلَ هَواكا).
فهو لعمق مخامرته للحياة الواقعية يستلهم روحها وأمثالها ونبضها التعبيري،كما ويجاور موسيقى رابعة العدوية هنا،ولكنه يختار لذلك مضموناً يجمع بين الحكمة الإجتماعية ذات الجذور الأصيلة،والخبرة الطالعة في ذات الوقت من تجربته الحياتية العميقة.
فقد فتح عينيه وسط الحياة المكتظّة بزحام المدينة البصرية العريقة وأفاد منها مالا تستطيع الجامعات ان تمنحه وعياً سوسيولوجياً وفراسة عميقة سابرة واكتنازاً بالخبرة والحيوات المتنوعة.
هذا الغور في عوالم ومناخات البصرة وتفاصيلها المتخمة بالمكتبات وحشود المثقفين،
بمافيهم أصحاب التوجهات الآيديولوجية المتناقضة فتح أمام شاعرنا بوابات واسعة اخرى مفعمة بالثقافات المتعددة الروافد.
ولقد قادت كل هذه المماحكات العملية المباشرة إلى بلورة رؤية كثيفة محورها الأساس حب الأرض والإنسان.فمع ميوله اليسارية المبكرة،ولكنّ جذر ها الأساس بل منطلقها المحوري هو تراصفه الشديد مع الإنسانية الطيبة بدءاً من محيطه المعيش،وانطلاقاً منه باتجاه الآفاق الانسانية الواسعة.
كل هذه الاحاسيس شحذت همته،وقدحت نبوغه،ومنحته رؤية بصيرة خبيرة،وكأني به يختصر أهم ماذكرناه حين يقول:
( تعلمتُ..
أن اللجوء للعنف قصور في الفكره..
تعلمتُ..
مهما كانت الفكره مُرة توصلها حلاوة
الاسلوب..
تعلمتُ..
أنني لاأشرب البحر كله لأعرف انه
مالح..
تعلمتُ..
أن الخوف في الشواطئ والطمأنينة في
الاعماق..
تعلمتُ
أن الصدفة قد تلعب دوراً أكبر من كل الحسابات..).
وهذا يعني أنه يكتب النص النثري ايضاً فضلاً عن التقليدي والحر.
وخلاصة القول: عاطف الزبيدي شاعر جاد حتى في وجدانياته،جاد حتى في غزلياته،كونه فقد زوجته وأم ولديه في ميقات صعب،كان فيه بامس الحاجة إليها،وتعبيراً عن هذا الإحساس يقول على عروض الطويل:
(يقولونَ لي جَرّبْ لعلكَ تَنساها
فقلتُ لهمْ مازلتُ أحيا بِذكراها
.
واني وانْ ماتتْ فعنديَ لم تَمتْ
فَمازلتُ سهراناً عليها بِمشفاها
.
توارتْ عن الانظارِ
قبلَ دقيقةٍ
وغابتْ عن الدُنيا إلى حيثِ مثواها).
من هنا نكرر أن بعض قصائده لاتحتاج في قراءتها الى كلام كثير كونها بعيدة كل البعد عن التعقيد بجميع أشكاله سواء أكان فكرياً أو تعبيرياً،حتى أنه لايضع عتبة أو عنواناً لنصوصه رغم تساؤلات الآخرين..
يقول في إحدى قصائده الحرة مايلي:
(هذه قصيدة
عن مدينتي التي أحبها كثيرا
مدينة البصرة.


سنة أخرى
لا ادري في العام
القادم كيف
تعود بنا
الذكرى..

فكوني شيئا اخر
حتى لا
اهواك
كوني غير
البصره..

اه منك ومن عينيك
ومن سمرة
خد الارض
وأناقة طالبة
مجتهده..

ما أجمل حزن
العشاق
ما أجمل أن ننزف
مافي القلب
على الاوراق..

كم تعشقني
كم تهواني
وانعقد الشوق بطرف
لساني

سيدتي البصرة
أكتب منك وعنك وعليك
وإليك
لكن ماذا اكتب
تهرب مني الكلمات
كالطفل المذعور يجر
وراء طفولته
الطرقات

أكره شكلي الجديد
سلامي الجديد
وارصفة الدم والنار
والحديد
والعرق المتصبب من
جسد امرأة مقتوله
يرسمني اسئلة
مذهوله
كانت كل
الطرقات تهرول
نحوي والابنية
المجهوله

سيدتي البصرة
سيدة الصيف الحار
سيدة الوجه المتعرض
للامطار
وقهقهة السكرانين
وعودة اصحاب
العربات..
وزفة عرس في
"الكورنيش"
أرجوك اذا اصطدت
جناحي لاتنزع
منه الريش!!..).
...
من الواضح جداً
أنها أغنية مرفرفة مموسقة تجمع في معزوفتها الحانية المشوبة بالحزن والهيام جُلَّ تنغيمات دائرة المتفق بريادة الخبب عبر انتقالات حداثية إيقاعية حميمة ومحببة.
واختزالاً لمشروعه الابداعي نقول:
  إنه شاعر يتمتع بموهبة طافحة بالعطاء وان كان قليل النشر،وأروع مافي شاعريته أنه عصاميٌّ لم يجلس بين يدي معلم  إبداعي محترف قط ،كما وإنه لايعرف منذ بداياته الا العفوية الواعية الصادقة..وكثيراً ما يذكرنا بشاعرية الحصيري ،ولا نعني غربته الوجودية والزمكانية،فالزبيدي لايعاني من غربة جغرافية مثلاً وعلى العكس من ذلك ،إنه شديد التمسك بوطنيته انطلاقا من محليته(كنز خبرته الميدانية المعمقة)،وهو حاد الذكاء،واسع الأفق،شديدة الوطأة في مواجهة الإعوجاج والإضطهاد مع انه معارض قديم للعهد القديم ،ولكنه أثبت مع الايام أنه معارض لكل ظالم ومن كل نوع، يقول على بحر البسيط:
(مازلتُ أطوي جِراحاتي علىٰ الأَلَمِ
أنا العراقُ أبو الأخلاقِ والقِيَمِ
.
أنا الحَضاراتُ مُذْ قامَتْ وَمُذْ نَشَأَتْ
وَبابِلٌ تَسحقُ الأعداءَ بالقَدَمِ
.
أنا اليراعُ يَراعي فَهوَ من قَصَبي
أنا المِدادُ مِدادي فَهوَ من قَلَمي
.
أنا الرَشيدُ وسَنحاريبَ من لَدُني
أنا عليٌ وماعاناهُ من سَقَمِ
.
انا السَخاءُ بِما في القَولِ من شَرَفٍ
أنا المروءةُ لي إرثٌ من القِدَمِ
.
أنا الذي قاتلَ الدُنيا بأكملِها
مُميزٌ دائماً عن سائرِ الأُمَمِ
.
صلىٰ الفراتُ وصَلّت دجلةٌ مَعَهُ
وَحمدُ بُشراهُما للأرضِ من نِعَمِ
.
واللهِ إنْ عُدتُ لنْ يٰبقىٰ لكمْ أَثَرٌ
أرعىٰ بِكمْ مثلَ رَعيَ الذيب ِ في الغَنَمِ
.
أقسَمتُ أَنْ لا أَدَعْ مَنْ خانَنَي أَبَداً
يَبقىٰ لِزاماً عَليَّ البرُّ بالقَسَمِ
.
سَيدفعُ الأجرَ أضعافاً مُضاعَفةً
مَنْ كانَ يَنهشُ بيْ كالجّائعِ النَهِمِ).

هذا الشاعر يقول ويفعل وينزل ساحات المواجهة كلما دعت الضرورة،وإنه شديد البسالة حد إثارة الإستغراب،عميق الإحتجاجات،لايستوحش من قولة حق،ومستعد لتقديم حياته فداء لوطنه العراق الكبير،مهما كانت التحديات،وتلك سمات يشهد عليها كل من عرفه،ولسنا نقول عنه إلّا ما أثبته الزمن الصعب،والتجربة الطويلة.ونحن ((على ذلك من الشاهدين)). 
……………………………… 
1-العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/129 .
2-النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي، لأحمد يزن، ص555-556

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي