الذات الشاعرة : قراءة للناقدغازي احمد ابوطبيخ الموسوي في جوهر نصوص الشاعر جلال سعد
الذات الشاعرة
هي جوهر النص الشعري عند الشاعر جلال سعد ( مصر)
غازي احمد ابوطبيخ الموسوي
…………………………
يقول الناقد ورذروث: (إن الشعر انفِعال يستعيده الذهن في سكون)1.. فالشعر وسيلة تعبير عن العاطفة والذات ولا يصبح كذلك إلا إذا تحول إلى هاجس فكري عميق،والفكرة الآن هي الرهان الذي تخوضه قصيدة النثر أو النثر عامة والنجاح رهين بالإبتعاد عن السطحية والاختلاف في نقل الشعور والذكاء في طرح الفكرة هما وسيلتنا للتميّز.
ألشاعر جلال سعد وفي بحثه عن الاختلاف يجعل من ذاته جوهر قصيدته وبأدواته الخاصة يصور لنا حالة خلق القصيدة عنده ويكشف عن طبيعة تجربته في صياغتها بعد أن يحدد موقعه إزاء الشعر عامة،ساعياً إلى لغة شعرية مختلفة .
في ومضته الاولى يستعمل الميتاشعرية لتصبح "قصيدته موضوعاً"كما يقول أحد شعراء الميتاشعر البارزين (والاس ستيفنز)2.
فهو بلغة شعرية ومضية يحاكي فيها أدونيس الذي يهدم اللغة ليعيد خلقها في بنية لغوية أخرى تتفق مع المتخيل ولكنها تختلف في الصياغة .
ولانكتم إحساسنا معه بوجود كينونة حية واعية وفيرة بنشاطها النفساني المحفز على التلقائية الصادقة في مجمل نصوصه التي اطلعنا عليها.ولأننا بصدد عرض مشهد شعري مختصر ،فسنختار نصاً نثرياً ،ثم ومضة لافتة ،نعتقد بأنهما كفيلان بتقديم فكرة موجزة عن شاعريته المتميزة
بالرشاقة السياقية المكتنزة. التي لاتميل الى الحشو الزائد الآيل الى الترهل.فقصيدة النثر نشأت بالأصل في أحضان الكثافة النوعية القادرة على ملامسة الشريحتين نخبة وعامة في آن واحد.
ثم إن أصل الومضة والهايكو والنانو والقصيدة الإلكترونية عند أنسي الحاج، يكمن في هذا الايجاز المدهش.
١-يقول الشاعر:
(أُغافلكم
بابتسامةٍ ناعمة
ويدٍ ماكرة
أدَّعى أننى هو من تعرفونَ
ومثل عازفٍ فاشلٍ أضيقُ بالمحاولة
لَ كَم تَعِبْتُ
تَعِبْتُ
وها أنا الأنَ أعترفْ
أنّى أدسُّ بجيبِ الحكايةِ أخراً
قبل الخروجِ إلى النص
ولأننى لا أُجيدُ الغوصَ
لأبعدَ من ومضة
أكتفى بنصوصٍ خاطفة
وأعودُ مسرعاً أدراجى
فذلك الهشّ هناكَ
لا يستطيعُ الحياةَ طويلاً
بلا رئة)..
هكذا نص جرئ يقرأ الذات بكل بسالة كمشروع فادٍ،ويقرأ الآخر بهاجسٍ إحتجاجي دفين ايضا،متبنياً
الوضوح الفني الذي يضع في أيدينا فاكهته خير من النص المعترك مع ذاته بغية حاصل ما،من غير طائل،لأنه لايغني من جوع ولايشعل فتيلًا.فأما الشفيف الرشيق العميق الكاشف كهذا النص الحميم الصادق المكتنز بالرؤى،وإلّا فلا فضيلة للمغامرات السوفسطائية المجلجلة بمخاض من دون وليد.
ومع ان عموم الإبداع القولي يتعامل مع الالفاظ بالاساس،كونها وسيلته وأداته وبنية حمله،ولكن الشاعر الموهوب سيخلق منها كائناً حيّاً شديد الفاعلية من خلال ضخها بالرؤى والاحاسيس العالية النشاط.
عندها سيمسك النص بتلابيب المتلقين عامة ونخبة في آنٍ واحد.
٢-
(أيها الأعمى
سبقتك القافلة
ياابنَ لحظةٍ ثكلى
وفكرةٍ قاحلة
سَلَبتكَ الحقيقةَ كلها
إن موتَك فرضٌ وحياتك نافلة.. !!)
رب قائل: إن هذه الومضة لاتكفي دلالياً كإنموذج للتعبير عن آفاق الشاعر ،نقول:
انت واهم،أعد النظر،وستجد أن الشاعر جلال سعد قد اختصر حيواتنا بهذه الومضة،ذلك لأنها تضرب على وترين معاً:
*التعبير عن الذات.
*والتعبير عن المجموع .
كحاله في ومضته الأولى.
ولأن ماينطبق على الفرد ،سينطبق حكماً على الجماعة في هكذا نص بالذات،سيما والجميع في إطار مصيري واحد،ومناخ تغريبي خانق.
تجدر الاشارة إلى أن هذا النص مشبع بالموسيقى،
وإن وجود التقفيات زاد إيقاعه صدى وقوة،مع أننا في المعتاد نستثقل وجود السجعات في النثر الحداثي،وننتقدها كثيراً ،ولكنها هنا تختلف تماماً كونها تخفي تحت جلدتها نوعاً ساخراً خبيئاً من الكوميديا السوداء والتي أسهمت هذه السجعات في الإلماح إليها ولو من البعيد الخفيّ،وكأنها تَحْذَرُ الرقيبَ هي الأخرى.
كما ونجد من الضروري جداً تبيان مضمون كل مقصور، كصورة تفصيلية في جانب ثم بيان المعنى الإجمالي المستخلص من التفاصيل،لولا أننا في حدود عرض مستويات التنويع في منجز الشاعر .
من هنا لابد من السؤال الآن:
ترى هل أن هذا المشهد الوجودي الذاتي،والموضوعي،ينطبق على العالم كله،أم إنه يحكي عن مناخ بالغ المحلية.
وبلا ريب فإن أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو الشاعر نفسه.
كما وأن ألشاعر جلال سعد لايقف عند حدود النص النثري،وإنما يكتب التفعيلة أيضا،بمعنى أنه يمتلك أذناً موسيقية مرهفة بدلالة هذا النص الرشيق:
3-
(لأن القصيدة
بنتُ الحنين
وأختُ المسافةِ بينى وبينى
شَبَكْتُ بأطرافِ فستانها
نبضَ قلبى
وهيأتُ عمرى
فراشاً
لكل احتمال
أضاء الغياب
وأخلى إلى مقلتيها
سبيل السفر).
هذه في الحقيقة أغنيه غاية بالرقي.أين منها مغني اوبرالي فخم،يجيد التناوب مع تفعيلة بحر المتقارب( فعولن)المكررة المتلاحقة ، في عمليات تبادلية موقعيه بين الايقاع والكورال والملفوظات وصوت المؤدي المحوري،ذلك لانها أغنية نظيفة اللغة قوية الدلالات شعورياً، ذات أفق مفتوح ،لا يمكن حصره بعلاقة عاطفية بين رجل وامراة فقط،بل يمكن أن يكون ذلك جزءاً من كلٍّ شامل،قد يمتد إلى مايشاء ، بحسب خصوبة مخيال المتلقي،مع ان بطل النص هو القصيدة المعشوقة ذاتها،إنما حتى مفهوم القصيدة غاية بالمرونة والحيوية كما نعلم جميعا..
…………………
[1]كتاب الفنون والإنسان، اروين إدمان ص42، 43.مكتبة مصر لطباعة الاوفست
[2]والاس ستيفنز شاعر امريكي 1879 - 1955 جريدة عكاظ العدد12 مايو 2015
تعليقات
إرسال تعليق