لماذا نكتب ؟ :بقلم الروائي جمال قيسي
لماذا نكتب ؟
بدأ الصباح ،كالعادة ، يوم آخر بخطى حثيثة في السير نحو الهشيم وربما إيغال في خيبة جديدة ، وعينا هو من يصنع الخيبات ، ذواتنا عندما تتفاوت مع إيقاع الآخرين او الموضوع، اي موضوع خارجنا تتشكل الخيبات كأنعكاس شرطي في دواخلنا، ولاننا محملين بقضيتين لافكاك منها الاولى هي محاولة إنكار الموت والفزع منه ومع كل الوعود الدينية التي تعتبره بوابة للمروق الى عالم آخر إلا انها تبقى وعود لاتخفف من الفزع ، والقضية الثانية هي التمثل ، المسعى لحصولنا على أعتراف الآخر بِنَا وهو ما يخفف فزعنا من القضية الأولى ، في إحدى تساؤلات العظيم ديستوفسكي ، عن " أن لايكون للانسان مكان يذهب إليه " يطرح حيرة الانسان برؤية عبقرية ، عندما يفتقد للانتساب الى دفء القطيع او المنظومة الاجتماعية ،العائلة او الوطن او الاصدقاء ، سيتولد لديه شعور بأنه عبء على الآخرين بل على الحياة نفسها ، عندها لايرى سوى باب الخروج من الحياة ، .
ربما بداية كئيبة ، لكن لا أعرف لعل سلسلة الحوادث التي مررت بها يوم أمس وأن بدت بسيطة لكنها فتحت بوابات في نفسي ، ولأقل أمر ، ربما هي مفتوحة دائمًا لكني كنت أغض الطرف عنها ، مثل كل يوم جمعة من الاسبوع منذ ثلاثين سنة وأكثر أذهب الى شارع المتنبي ليس لغرض العمل انما للقاء الاصدقاء او البحث عن كتاب ما، من الباعة الذين يعرضون كتبهم يوم الجمعة فقط وفي أغلب الأحيان أحصل على كتاب نادر ليس بالمفهوم العام أنما اكتشف اني لم أنتبه لمضمونه سابقًا ،في الجمعة المنصرمة مارست نفس الطقوس ،مع ان كل شيء تغير إذ ان الاصدقاء انفرط عقدهم منذ سنين ورواد الشارع غير الذين كنت أعرفهم ، ألفيت نفسي غريبًا أسير وحدي ،عائدًا الى عزلتي التي طالما اجتهدت في الهروب منها ،مضيت سائرًا بلا هدي او هدف معين مجرد صرف للوقت وزاد من هذه العزلة النظارات التي بت مجبرًا على وضعها ، تشعرني وكأني محجوز داخل قنينة زجاجية ، ومن ثم صادفني احد الاصدقاء ممن يتابع كتاباتي وتسائل ان كنت بخير، فأجبت في سريرتي ( لا ياسيدي لست بخير ابدًا ) ،واستمر بالحديث معي وعن عزوفي عن الكتابة منذ مدة ليست بالقصيرة، بررت له ان السبب هو انهماكي بكتابة عمل روائي قد تفرغت له ،المهم مضى منا كل الى حاله ،لكني دخلت في دوامة من المراجعة المحبطة ، ولماذا توقفت عن الكتابة ، واسترجعت فكرة غونتراغراس عن الكتابة في احدى مقالاته القصيرة والتي مفادها أن داخل كل نص هناك مقاومة ، هي الفعل والإجراء الذي يروم الكاتب منه إبداء رفضه للواقع السيء ،الحقيقة ان الفكرة في غاية العمق مع انه لم يتوسع فيها ابدًا ، وفي دراسته القصيرة عن النحات ألبرتو جوكامايتي ذكر جان جينيه ، ان هناك داخل كل مبدع وفنان جرح سري، يظهره متمثلاً في عمله ، كلاهما غنتراغراس وجينيه قد لمسا السبب المباشر الذي من أجله نكتب ، أما اننا نقاوم محيطنا من أجل التغيير وبالتالي نقاوم تسلط فكرة الموت الكامنة في اللاشعور ، او اننا نخفف من وجع جرحنا السري من خلال مشاركة الآخرين بما يعتمل وجداننا ، في هذه الأثناء تذكرت مقال سابق للاديبة الفاضلة سهير خالد وهي طبعًا تنتمي لحزب جان جينيه إذ تعتبر الكتابة نوع من الألم فهي تذكر ( الكتابة عندي اشبه بالدمعة سقوطها يعني الإقرار بالخذلان والالم .. هي تعني لي موطأ تجثو عنده الروح تتعرى بلا خوف او وجل تخط بلا رتوش كل لحظات الموت والحياة ..الهزائم والانتصارات والحب والكره التي مررنا فيها دون اعتبارات للوزن والقافيه والتفعيل )
بينما ذكرتني مقالين للرائعة جنان محمد ، بالمقاومة التي ذكرها غنتراغراس
(إنّنا حين نكتب،
نختار ما نريد أن يعرفه عنّا الآخرون،
وهذا في حد ذاته تحايلٌ جيّدٌ إذا ما اخترنا مصفاةً بثقوبٍ صغيرةٍ جدًا،
لكن الأمر يختلف عندما تكون الكتابة نوعًا من مقاومة الاختناق،
وتصبح ثقوب المصفاة الصغيرة هذه هي المعبر الوحيد للهواء،
فإننا حتمًا نريدها أكثر اتّساعًا بما يكفي لنتنفّس..) /
( تتيبّس أصابعي حين يمرّ الوقت دون أن أكتب، وأشعر أنّ روحي غريبة عن محيطي حين أفقد قدرتي على التّواصل مع الكتابة، كنت حين أحزن، أفيضُ نصوصًا، لكنّني اليوم أحزن بطريقة الكبار الذين يبكون في الظلمة كلّما خدشتهم كلمة.)
هنا جنان تؤكد ما ذهبت إليه في بداية المقال ، ان الإنسان يحمل قضيتين لا فكاك منهما ، هي إنكار الموت والتمثل ،
اما الحكيمة سيدة قصيدة النثر سعاد محمد ، قد عرضت ما تطرقنا اليه بصورة مبهرة وكعادتها تسحرك بدفق من الصور الذي تثملك لا محالة من حلاوتها مع دقة التعبير وتطويع للكلمات بل توسعت الى الايغال السايكلوجي ، والى البقعة التي يبدأ فيها الفعل الأولي للكتابة ونرى في قصيدتها الرائعة بعنوان القلم ذلك الفعل الأولي ، وقد اخترت منهما مقطعين :
(القلمُ متطيّرٌ وسرابيُ..
يحتاجُ وضوحاً أقلَّ ليرى القصيدةَ
يدمنُ مسامرةَ اللاشيءِ..
وتزجيةَ حبرهِ في إغواءِ التّوريةِ..
فيسترَ خاطرةً محرجة..
وقد يخزُ ذاتَهُ بفكرةٍ مسالمةٍ..
ليجرّبَ متعةَ الكتابةِ عن الألم!)
(لكنّهُ وبرشاقةِ طيفٍ..
يصطحبُكَ إلى أعاليكَ
فتطلُ عليكَ
و تتلألأُ أنواتُكَ الحرّةُ..
لتلهيكَ عن تبعثرِكَ الأدنى حولَ:
عددِ وجوهِ الحقيقة!
فتمضي هناكَ قصيدةً صوفيّةً قصيرة!)
اخيرًا وليس آخراً، أقول لكل الأصدقاء مع اني ابتعدت في الفترة الماضية عن الكتابة إلا انني متابع ومراقب عن كثب لكل نتاجات الأصدقاء ومتفاعل معها ومدون للملاحظات ،مع تحياتي للجميع
جمال قيسي /بغداد
١٩شباط ٢٠٢٢
تعليقات
إرسال تعليق