PNGHunt-com-2

قراءة تحليلية للناقد د. ناظم حمد السويداوي لنص الشاعرة مرشدة جاويش

#فجوة #الهدم #والبناء
#في #قصيدة ( #صحوة #الصهباء )
للشاعرة مرشدة جاويش
بقلم الناقد الدكتور ناظم حمد السويداوي
......
إنَّ حضور الشعر , كشكل تعبيري , يطرح الكثير من الأسئلة المعبأة بكثافة المعاني واختلافها , ولم تكن هذه الاسئلة يومًا إلّا متاع قصيدة تؤسّس لشيء من الإنسكاب اللغوي الذي يستفز المتلقي , ويجاهر بما هو داخل النص من الرمز المتنوّع لغةً وجمالًا . فحينما يريد الباث خلق عالم شعري خاص به , لابُدَّ وأن يستحضر مجموعة من الصور المتلفعة بغموض مقصود , ليحيي بها القصيدة , ناهيك عن إذكاء اللغة بالأداء والتصعيد , كل ذلك ليتجاوز المطابقة والمشابهة والتماثل النفعي مع غيره من الشعراء . 
ويبدو لي , انّ مقاربة أي قصيدة , لابد وأن تحظى بشيء من مجازية اللغة , خشية الإسراف في الحقيقة , التي سرعان ما تحترق عند أول وهله للقراءة , ويترتب على ذلك , الكثير من الرغبات المضمرة في باطن النص , لأنّ الواقع المفروض , لابد وأن يختزل مقتضيات الحال , ليصبح المستحيل ممكنًا في فضاء الشعر إتساعًا وعمقًا .
لقد كانت طاقة الشاعرة مرشدة جاويش , تكمن في مشاعرها الإنسانية المتفرّدة والمقيّدة بآخر ذي سطوة , مستحدثة بذلك صورًا شعرية ناطقة , تبرز فيها مدّها السيميائي المصطبغ بتحولات ترميزية , تنقلها من مكامن الجمود , الذي نعرفه على أغلب الشواعر من جيلها , إلى مكامن الطفح اللغوي بأثر إشاري بالغ الخصوبة  والتفرّد . وهنا تغدو قصيدتها , علامة مثيرة في عالم الشعر النسوي , لكونها تطرح حقيقتين , أولهما : هذا المد الجمالي في سماء المطلق واللامطلق . وثانيهما : إبتعادها عن العادية المألوفة , كونها جنحت الى تقريب حقيقتين متباعدتين بشكل يغاير المألوف , وينهض بمستويات فنية جديدة . فهي عندما تختار صورة ما , فإنها تلامس التحّول والجّدة في طرح هذه الصورة , بمعنى أنّ مصطلح ( التبعية ) لم يكن قريبًا من قصيدتها , لأنها تربط بين عوالم مختلفة يحكمها منطق النص .
ولكي نكشف عن الظاهر والباطن , عن المعرفة والذات والحلم , لابد وان نمر بقصيدة ( صحوة الصهباء ) التي تتحرك داخل معاناة التجريب , وتلبس صيغًا مختلفة من فن القول . فالشعر عند مرشدة جاويش , هو نتاج شعور ولغة وصياغة , تخفي خلفه الكثير من صور البلاغة المعاصرة المنفلتة من قبضة الواقع , ما يجعل لفتة القارئ إليها عبارة عن تلوين عاطفي , وتميّز فكري أخّاذ , يأخذك , وأنت تقرأ , إلى عالم مشدوه بالصور التي تمرّر رسائلها بحمولة معرفية , وأفق استبدالي جميل . آخذين بنظر الاعتبار , أن متعة القراءة , لا تأتي إلّا بإنصهار أفق النص بأفق المتلقي :  
( #النص )
عجنتَ شهد الليلِ في شعري
هزيعًا واحدًا
وبقيتَ تسري
مُثّاقلَ الخطوات ألوانًا على رئة الوجوم
فالعمر يرشح من أصابعنا
والوقت جرح لا يعود
كيف تبني من نقيع الروح مملكة البنفسج
حين توغلُ في الغياب
وأنا أَعلّق حتى حدّ ثرثرتي على تنور لهفة
في شِهاب فرَّ من رئة المجرّة
وردٌ بركاني يضوع
أشعل العطر أغاني
وعصافيرَ على حمّى السهر وابتكارات خيال
وارتكابات كلام
الليل نصَّبَ لجّة الإبحار فخًا
غارقٌ أوليس في بحر التياع
أنثاي من موج إلى موج على موج وغربتها شراع
بقايا زورق حافٍ بعرس الماء
شقّت شفيفًا لا زورديًا
ففاجأها الضياع
القت رنين شموعها وظِلال كأس أسكرتها صحوة الصهباء
هشّت بأورقة الحضور سخونة الوادي المقدّس
فاخلع عليك الويح وأمشي
أنت في هزج الرياحين
وفي ظلّ مضاء
وأنا عصير الشوق أرسمُ فيه أكوانًا بلا سبب
سوى طقس الحداد
كي لا تدور رحى الزمان
بكل بهرجها عليَّ
وغبار عطرك يُسرجُ الأمل المطهّم بالضلوع
يحتل موسيقا النعاس الفاخر الأنواء
يسحب باحتدام الصّهد
من جَفنيَّ
أغنية السراج
فأراقص الظل اليتيم
وأعشقك .
إنَّ النسق الخطابي للقصيدة , يسمح لنا أن نعدّد الاشارات ونفهمها على أنها رتبة مفتوحة في عالم الشاعرة المليء بالتناقضات المتشاكلة مع (الآخر) . وضمن هذا الوعي , يأتي الفعل برفقة فاعلة المتصل : ( عجنتَ ) , ليقلبَ لنا النظرة من الخارج إلى الداخل , بممارسة استبطانية , نحدّد فيها فعل الوعي وبنيته . وهو بمثابة الجواب على أي استدراك تأتي به الشاعرة , كفعل إنجازي تتوارى خلفه الكثير من حمولات الذات التي تسعى إلى تدمير نفسها من أجل الحصول على بدائل معرفية أخرى , تمسك بهذا الجدل المتصاعد في لحظة استفتاحية متوترة ( وبقيت تسري ) تحتوي هذه الجملة لحظة شعرية مقترنة بلحظة تدبّر وتأمل لقراءة ( الآخر) وامتداداته في خريطة الروح , وهذه احدى موجّهات الوعي واستثمار قصدية الرسالة , للوصول إلى شفرة المعنى , ومحاولة إدراك ( الآخر ) قبل فوات الأوان :
(فالعمر يرشح من أصابعنا)
وفي مثل هذا التعارض الافقي والزخ العرفاني , تنصرف الشاعرة إلى إيجاد البدائل , وكأنها القوة المانعة التي تختزل أسئلة الوجود , بفكرة مستقرة ومشعة , تختزل فيها الطريق , وكأنها تنزع وتنجذب إلى شيء لا يمكن إدراكه بسهوله , لكن يتم التعلق به بصعوبة :   
(كيف تبني من نقيع الروح مملكة البنفسج
حين توغل في الغياب)
ذلك فالمسافة التي تفصل بين الذات والآخر , هي كالمسافة بين الوهم والواقع .
إذ لا يمكن للذات , أن تدرك نفسها , ما لم تعدّد المضامين والحجج المشبعة بلاءات الآخر الذي يخترق اللغة بوجود ضاغط , ينبش الذاكرة ويمنعها من الاستسلام , والشاعرة تسعى إلى تأصيل هذه الغاية , وتجعل من اللغة إمكانية معرفية توصل إلى القصد المحمول على نواة المعنى . وبهذا الإجراء , تحيطنا الشاعرة بهالة من الانقسام الروحي , فنراها تفكّك هوية الآخر وذاتيتة , وتمحّي كل الفواصل الواصلة بينهما , وكأنَّ هذا الفاصل قد انكشف بفضل العلاقة الآيلة للذوبان :
( وأنا أعلّق حتى حدَّ ثرثرتي على تنور لهفة
في شهاب فرَّ من رئة المجرَّة)
ولكي تحقّق الذات استكشافات جديدة في فك عزلتها , راحت تبالغ كثيرًا في تقديم قرابين الشوق. فالفعل اللاعقلاني ( أعلّق ) يقتحم مجال المفهومية المعتادة في نسق تعبيري جمالي يخضع لسلطة النار , أي أنه يحقّق كفاءَة إنجازية , يريد بها إيصال رسالة بعيدة عن إدراك وفهم المتلقي وهذا هو الوجه الآخر للمسكوت عنه .
وفي مثل هذا التداخل المعرفي , تنفتح الشاعرة على أشكال متنوعة من الملفوظات , في ظل ترحال الآخر , الذي لا ينتهي عند نقطة محددة تعرفها الذات , لكنه يؤسّس لمعنى جديد , ومنظومة جديدة , انطلاقًا من تهشيم الواقع , وتوسيع منطقة الغياب :
( الليل نصّب لجّة الإبحار فخًا
غارق أو ليس في بحر التياع)
يبدو أن أسطرة الاشياء , واسترجاع ما مضى , يعني أنَّ المعنى يرتبط بالقصد , ويتماهى كثيراً مع الخيال , على أنَّ الشعر كما يعلمنا /بيكاسو/ : ليس حقيقة , لكنه كذبة , تجعلنا ندرك الحقيقة , أو على الأقل تلك الحقيقة التي كُتب علينا أن نفهمها .
وقريبًا من كسر المواضعات التي لا تريد لحلم الشاعرة أن يتصادر بزاوية خفية ضيّقة , وسلوك وهمي فارغ , نراها تمارس سلطة الكتابة بمهارة سحرية فائقة , بينما ( الآخر ) يندس عميقًا بدهاليز الذات المتألمة , ليمنحها شحنة تعبيرية طارئة , تحاول من خلالها أن تتماهى كثيرًا مع الخيال عبر خبرةٍ جمالية ترتقي إلى التصوير العفوي للأشياء :
( أنثاي من موج إلى موج على موج وغربتها شراع
بقايا زورق حافٍ بعرس الماء
شقّت شفيفًا لا زورديًا ففاجأها الضياع)
  إنَّ هذا الجسم الجديد في قصيدة مرشدة جاويش , ما هو إلّا فكرة تخضع لمقاييس ( الآخر ) المنفي عن الذاكرة , الداخل فيها وهذه ( الثورة ) المقلوبة في استحضار الاشياء هي ذاتها التقاطعات والتلاقيات التي تأتي بها الشاعرة وتوظفها بشكل يثير الانتباه في متن القصيدة ففي الحب تجسّد الذات هويتها في التنّوع ,فهي منتجة الانفعال في الاتصال , والمتعة في الألم , والحياة في الموت , وهذه الجدلية في أدنى احتمال , هي المفازة التي تريد الشاعرة تفسيرها لنا بطريقتها الخاصة .
إنَّ علامات الهدم في قصيدة الشاعرة , تجمع بين المتباعدات , فنراها تنفلت من قبضة الواقع , وتتجاوز حدود العقل , لأنها تربط مجموعة العلائق المهيأة لها , بلغة لا معهودة , تعكس فيها مديات تعبيرية , بصيغ إحالية , وهي بهذا تضاعف نسق خطابها للآخر , بزخم شعوري غير متوقع :
( فاخلع عليك الويح وأمشي
أنت في هزيج الرياحين
وفي ظل مضاء
وأنا عصير الشوق أرسم فيه أكوانًا بلا سبب
سوى طقوس الحداد
كي لا تدور رحى الزمان
بكل بهرجها عليَّ)
لم يكن هذا الإنتقال ممكنًا بين الذات والآخر , لولا أن هذه الفجوة قد ازدادت , ففعل الأمر ( إخلع ) يشي بأنَّ الذات ادركت أنها محاصرة , بل أنَّ ظروفًا تعارضية إفترضته , وأنَّ تحولات ( عشقية ) كانت تمور بها الذات قد اقتضته , فهو , أي الفعل ( إخلع ) هو السهم الأخير الذي كان على الشاعرة أن تطلقه تجاه الأخر , وهو – أيضًا – استكمل مبررات الشعور بالهزيمة , واعطى للافعال المتبقية ( أمشي / أرسم / لا تدور )  جميع عناصر البقاء , أخذين بنظر الاعتبار , أنّ ( الآخر ) يتحرك بخفاء , لكنه يسمح بالرؤية , ويبعث على استدراج ( الأنا ) وتحفيزها على الكلام .
وفي ظل هذه الإنعكاسية التي تتوسّل بها الشاعرة , لتضمن لها مرتبة الانتماء , والالتحاق بالآخر , نلحظ بشكل ملفت مقبّلات الأداء , الذي اختارت له مارأته مناسبًا للإحتواء , فهي – أي الشاعرة – أرادت أن تتعاظم في ذات الآخر لذلك بدا عليها هذا النموذج الطقوسي المبهرج بتقنيات الاستدراج وبسيمياء حواسية وايحاءات شعرية خصبة , منحت الفرصة للخيال أن يكون حاضرًا :
( وغبار عطرك يُسرج الأمل المطهّم بالضلوع
يحتلُّ موسيقا النعاس الفاخر الأنواء
يسحب باحتدام الصَّهد من جفنيَّ
أغنية السراج
فأراقص الظل اليتيم
وأعشقك)
الواضح , أنَّ ( الأنا ) أرادت تغيير ( الآخر ) وتقريبه برؤية جديدة على أنها الوعي المثير للإستجابة وقد هيّأت الشاعرة كل هذا التلازم التعبيري في ذهن السامع كتفريغ لغوي لعلامات الجذب والانتباه :
عطرك / الأمل
الموسيقا / النعاس
الصَّهد / اغنية السِّراج
تكمن جمالية هذا التقابل اللفظي في خلق المفاجأة عند الآخر والانتقال به من حالة الاختفاء إلى حالة الظهور فضلًا عن كون هذه الرسالة التقابلية تحمل وراءَها فرصة للبحث عن أسرار الآخر فالذات أرادت أن تجمع شظاياها المتناثرة بتفاعلات نصية مّزجت فيها حالة شعورية إثارية تعطي لمشاعر الآخر مجالًا للانتعاش في مقامٍ عجزت فيها كل محاولات الشاعرة في التلبية والمثير للجمال أكثر , أنَّ الشاعرة قد حصّنت لغتها بمثيرات جوانية , تعزّز من إنتشارها في فضاء اللاوعي , فكان العطر منها , الذي هيأت له إتصالًا روحيًا , والأمل من ( الآخر ) بحضوره الطيفي , الذي تريد الذات أن تتجاوز فجوة فراغه , وجاءت الموسيقا , لتخلق جوًا تلاحميًا تندرج تحت عباءَته عوالم وضمائر مسكوته , كعين ثالثة تلتقط انفاس الحضور في حين تماهت حرارة الجفن مع السّراج في سياق صورة مجازية للقاءٍ لم يكتمل :
( فأراقص الظل اليتيم
وأعشقك)
بهذا نستدرج وعينا إلى أن قصيدة مرشدة جاويش , هي إعادة تشكيل للهوية ومساءَلتها بمدلول ابداعي متجدد في سياق حوارية الوعي فبينما تتحد ( الأنا ) بجذورها الروحية  يغيب ( الآخر ) إلّا من صوته الافتراضي المتعالي , لتكون علامة الهدم أبلغ من علامة البناء , لكون الهدم يميل إلى معنى اجرائي , خلق كل هذه الدوال المتضاربة والمتداخلة في بطن القصيدة بهذا تكون مرشدة جاويش قد صنعت لنا نصًا من وعيها وهوسها الدائم بالتجديد والتنويه  فهي في حالة بحث دائم عن اكتمال لا محدود تشد القارئ بفنية وجمالية مغايرة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي