PNGHunt-com-2

كنت أتمناه أليفا : بقلم د. جميلة كوجك

كنت أتمنّاه أليفًا
   اقتربتْ مني هامسة بصوتٍ لا يكاد يُسمع: هل يمكنني
الجلوس إلى طاولتكم، فقد طال وقوفي وأنا أحمل طبق طعامي هذا، فالطاولات جميعها وحتى الكراسي مشغولة.
   نظرتُ إليها فإذا هي سيّدة مسنّة، وقد بدا عليها التعب والإرهاق، عيناها منتفختان حمراء، وجفونها تكاد تخفي رموش عينيها. عندئذ شعرت بالحرج وقلت لها: تفضّلي، رغم استهجاني لتصرفها ومشاعر الفضول والحذر التي انتابتي - فهذا ممّا لا يصحّ في مجتمعنا -  فقد يحدث أن يطلب أحدهم كرسيّا أو ينتظر حتى يرشده النادل إلى طاولة غادرها الزبائن للتوّ.
  كنت آنذاك أنا وابنتيَّ وزوجة أصغر أبنائي وتسعة من الأحفاد. نتناول طعامنا في مطعم للوجبات السريعة في "مول" قريب من منزلي.
   وقفتُ وقدّمتُ لها كرسيِّ أصغر الأحفاد، ثم جلست بقربها حاملة حفيدي ذاك. فبادرتني قائلة دون مقدّمات وهي تنظر إلى طبقها: كنت أتمنّاه أليفًا.
استغربت قولها، وسألتها: مَنْ؟
فأجابتني: كنت أودّ أن يكون لدي حيوان أليف خاصة بعد أن كبر أبنائي وغادروا العش الذي احتضنهم سنين طوال، كنت أطمع أن أتمكّن من معاودة تربية قط صغير يشبه النمر المرقّط كما في طفولتي، أو أرنب أبيض كالذي اصطدته من مغارة كانت خلف منزلنا، أو كلب له فراء أبيض كالذي قفز إلى حضني عندما زرنا أنا وابنتي الوسطى منزل صديقتها.
   حقيقة لا يهم أيّا ما كان هذا الحيوان: قطة، كلب، سلحفاة، أرنب، أو حتى سعدان كالذي هرب من صاحبه ليحتمي بشبّاك منزلي، لكنني من شدة الخوف - وقد كنت في بدايات الحمل - أغلقت الشبّاك على ذنبه، فارتبكت وتوقّف ذهني عن التفكير ويداي عن أن تمتدّ لتفكّ أسره.
   المهم، بعد كل هذا العمر الطويل، أخذت عاطفة الأمومة تتحرك في صدرى وتقضّ مضجعي، وتدفعني دفعًا إلى محاولة الحصول على حيوان ليشبع غريزة الأمومة عندي ويملأ شيئًا من الفراغ الذي تركه أبنائي في حياتي.
   حقيقة لم أكن لأرغب بذلك لولا رفض زوجي القاطع، قبول فكرة تبني طفل مات والداه، كما لم ترق له فكرة إحضار حيوان ليشاركنا حياتنا. ولم أكن لأفعل أيٍ من الأمرين لو كان لدي حفيد قريب مني. لكنها مشيئة الله أن أُحرم من وجودهم حولي، كما حُرمت نعمة وجود الزوج بعد ذلك، فقد مرض وتوفي خلال أشهر قليلة وأصبحت وحدي في منزل واسع كبير، تحيط به حديقة، من يراها يظنّها غابة لشدّة عظمتها واتساعها.
   وفي صباح يوم مشمس دافئ خرجت لأتفقّد أشجار الكرز والمشمش القريبة من مدخل المنزل، لكن الأرض كانت موحلة بسبب غزارة مطر الليل. وكانت أغصان الشجر بنيّة تميل إلى الإخضرار وقد كست البراعم كل عُقَلها، فانتشت روحي وشعرت بسعادة غامرة، لكنّها لم تدم طويلًا.
   سكَتَتْ المرأة لحظة ونظرت إليّ والدموع تتساقط فوق طعامها، فإذا بعينيها كجمرتين تشتعلان في موقدٍ، فلم أدرِ كيف قفزت الكلمات من فمي عند سكوتها، إذ بادرتها بالسؤال: لماذا، ما الذي حدث حينها؟
   عدّلت المرأة جلستها ثمّ أكملت سرديّتها - وكأنّها لم تسمع السؤال - قائلة: بعد لحظات قليلة من شعوري بالفرحة تلك، أثار انتباهي كتلة من الطين تتحرّك بالقرب من قدميّ ففزعت، وابتعدت أمتارًا عنها وأنا أردّد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمان الرحيم، قل أعوذ برب الفلق، غفرانك ربنا.. ما هذا؟
   شيئًا فشيئًا بدت تلك الكتلة تزحف نحوي وتهتزّ، فإذا بكائن صغير جدًا، لا يكاد يتعدّى طوله ربع المتر. يبدو ككتلة من اللحم.
في البداية ظننته أرنبًا. فرفعته بين يدي وسلّطت عليه ماء صنبور مخصص لري المزروعات، لكنّني تفاجأت بعد أن زال الطين عنه أنّه كلب حديث الولادة مغطّى بشعر أشقر ناعم، يميل إلى البياض، عيناه مغمضتان، يحاول أن يلتقم شيئًا غير موجود. يحرّك فكّيه ولسانه. ويصدر صوتًا يشبه الأنين.
   حزنت عليه وأدخلته إلى المنزل ولففته بشال صوفيّ ثقيل. ووضعته قرب المدفأة. ثم تناولت هاتفي وبدأت أبحث على "جوجل" عن كيفية العناية بالجراء حديثة الولادة.
   بدأت بإرضاعه مواد مخصّصة للجراء قرابة ثلاثة أسابيع ثم أخذت أعرض عليه بين وقت وآخر القليل من لحم الدجاج والخراف المطبوخة المخفوقة فاستساغ طعمها ثمّ أخذ يأكها بنهم.
   أشهر قليلة فإذا به يكبر ويكبر ويكتسي جلده بشعر أشقر داكن. وبعد سنة واحدة أصبحت قامته أطول من قامتي، يمكنه أن يضع يديه على كتفيَّ ويسند فكّيه على رأسي.
   كنت أخرج معه مرّتين يوميًّا أسير به في حديقة المنزل ساعة في الصباح وأخرى قبيّل الغروب، نلعب ونلهو معًا حتى أنساني وجوده فراق الأحبة. وفي الليل لم يكن يرضيه إلّا أن ينام على السرير بجانبي.
اعتدنا أنا وهو على هذا الروتين اليومي الذي أمدّني بالحيوية والنشاط، واعتدلت قامتي وبدوت أصغر من عمري بسنوات.
   بقينا على هذه الحال حتى قفزت كلبة إلى حديقة المنزل، فتركني وأسرع نحوها، فهو لم يعرف القيد منذ وجدته، ولا وضعت يومًا طوقًا حول عنقه.
   كان ذاك أول لقاء لكلبي بحيوان من جنسه. فهو لم يعرف الكلاب إلّا من خلال برامج التلفاز التي كان يراقبها ساعات وساعات. أتركه يشاهدها كي يتسنّى لي تدبير شؤون منزلي. ولا أدري أيّهما الذي دفعه باتجاه الكلبة: الغريزة الطبيعيّة أم مشاهدته للكلاب على الشاشة. وما أن وصل إليها حتى بدأ التعارف فيما بينهما بصورة مقزّزة، ورغم معرفتي السابقة بتلك الوسيلة للتعارف عند القطط والكلاب، حيث يدورون حول بعضهم البعض، لكنني لم أتخيّل قط أن يصل أنف وفم كلبي إلى ما وصل إليه. اشمأزّت نفسي وصمّمت أن أبني له بيتًا في الحديقة ولا أدعه يدخل غرفتي أو ينام في فراشي.
   لكنّه كان قد تعوّد البقاء داخل المنزل، فبدأ بالعواء من دون انقطاع، إلّا إن نال منه التعب أوالنعاس ليهدأ قليلًا ثم يعاود النباح، كما توقّف عن الأكل ثلاثة أيام متتابعة.
حزنت عليه حينها وأدخلته إلى غرفة المعيشة، لكنّني وضعت طوقًا حول عنقه وقيّدته بحبل كي أحدّ من حركته، فلا يتمكّن من دخول غرفتي. 
   بعد أيّام قليلة بدا وكأنه أخذ بالتحوّل من كلب هادىء لطيف إلى آخر شرس، هو أقرب إلى الذئاب منه إلى الكلاب. فاحترت في أمره، وتساءلت في نفسي هل أفكّ قيده وأعاود الخروج معه أم أتركه كما القطط، وأنا أدرك في قرارة نفسي أنّه لن يعتاد حياة القطط أبدًا.      استسلمت، لكنّني أبقيت على طوقه وقيده وعاودنا التنزه كما كل كلب وصاحبه، لكنه أخذ يزداد شراسة، ويصرّ على النوم في سريري، وإلّا فالنباح والحركات الجنونيّة وتمزيق الأثاث، ونبش كل ما يمكن نبشه.
   وأخذ الوضع يزداد سوءًا عامًا بعد عام، لا أنا تقبّلت كونه كلبّا كما كل الكلاب، ولا هو تغيّرت طبيعته. حتى كانت ليلة الأمس قبل خلودي للنوم، وقد غضبت منه غضبًا شديدًا، فوجّهت له بضع كلمات وكأنّما هو إنسان يعقل ما سوف يسمعه مني.
قلت له: متى سيأتي اليوم الذي أتنفّس فيه هواءً نقيّا لا يمازجه زفيرك، وأستيقظ صباحًا من دون صخب نباحك. ويخلو سريري منك. لكنك الآن كلب عجوز، ولا يطاوعني قلبي أن أودعك في مصحة للكلاب، وقد يؤنّبني ضميري إن لم أعتنِ بك، لكنّ شراستك قد تدفعني لإطلاقك دون قيد، وإغلاق باب منزلي في وجهك.
لكن المفاجأة التي لم أتوقعها أبدًا حدثت صباح هذا اليوم وقد كانت صادمة جدًا إذ استيقضت فإذا بي أجده باردًا متشنّجًا، وقد فارق الحياة. كان منظر جثّته الضخمة مخيف، ذا وحشة.
   ناديت الحارس ليقوم بدفنه في طرف الحديقة حيث كان يلتقي بكلبته. وها أنا عدت كما كنت وحيدة، لذا خرجت عصر هذا اليوم لأختلط بالنّاس علّ وجودي بينهم يخفف عني فقدانه.
   قالت كلماتها تلك، ورفعت طبق طعامها الذي لم تتناول ممّا فيه شيئًا، ثمَّ غادرتنا وسط دهشتنا ومضت، كأنما كانت شبحًا ظهر، وما لبث أن اختفى.
  د. جميلة الكجك - Jamileh Alkujok

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي