PNGHunt-com-2

شعر الحرية :الناقد العراقي كريم القاسم

(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( شعر الحرية )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن تملّق القصور ومدح الامراء لم يكن حكراً على الشعراء العرب وحدهم دون غيرهم .
وحال البلاط في (غَرب) الارض لم مكن ختلفاً عن بلاطنا، فالانسان هو هو، والنفس البشرية هي هي، والمال ذات المال، والقصور ذات القصور إن لم تكن اكثر زُخرُفاً وزَخرفةً، وأكبر فساداً وبَهرَجة.
لكن بعضاً من أدباء الغرب بدأ يرفض خنوع الحرف الحُرّ النبيل الى حضيرة الخنزير ، واستجداء الامير المنتشي بالخمرة والسلطة والصولجان.
وعَرفَ بأنه هو السيف المُعَلّى لا سيف السلطان والقيصر ، وهو الكلمة القاصمة لا أوامر  البلاط والقصور .
فانبرى شعرائهم بالهَجْوِ الصريح للظلم والاستبداد، والصراخ بطلب العدالة للحصول على لقمة عيشٍ بكرامةٍ، لابذلٍّ وانكسار ، حتى بانت تباشير عصر التنوير في اوربا، وظهر (فولتير)ذاك الفرنسي الذي ذاع صيته أديباً متنوع التأليف، رافضاً لأساليب البلاط والصولجان، والذي أهان الاميرَ الفرنسي الشاب ذات يوم دون خوف أو وَجَل، ونُفيَّ إثرها خارج فرنسا سنيناً طوالا ، وعارض حتى افكار الكنيسة البالية، وناهض الظلم والكبت والاستبداد وهو خارج الحدود، لكنه عاد آخر ايام حياته الى موطنه مُعززاً مُكرماً خالد الذكر.

- ويستمر الرَكْب، فتنجب الساح (فكتور هوغو) الذي قال فيه الشاعر حافظ ابراهيم :

أعجميٌّ كاد يعلو نجمهُ ....
في سماءِ الشِعِر نجم العربي
صافحَ العلياءَ منها والتقى
بالمعرّي فوق هام الشّهبِ

وكان (هوغو)شاعراً قبل ان يكون روائيا، وهو صاحب (البؤساء) و(احدب نوتردام)
وكان عنوانه الحرية ، وكشف عوالم الزيف، ورفض الخنوع والاستبداد .
ولذلك خلَّده الشعب قبل التاريخ، ليصطفَّ أكثر من مليوني فرنسي تحت (قوس النصر) خَلفَ جنازته يحرسونها حتى الصباح ، وشَيَّعَهُ الشعب الى مثواه الاخير وعلى رأسهم رئيس الدولة، وحَزَنتْ معهم كل ثقافات العالم.

- وساحة العرب لم تكن بعيدة عن ذلك الهدير ، حيث برزت اصوات عربية قديماً وحديثاً ، انتهزت فرصة ثمينة لتزف لنا قصائداً تزهو بحروف ومعاني الحرية ونصرة الحق وكشف الحقيقة.

• فهذا (الفرزدق) خير مثال على ماتقدّم . فرغم نفيّه في الصحراء من قبل هشام بن عبد الملك معاقباً إياه على قول الحق ، إلا إن وقفته لنصرة الحق جعلت موقفه خالداً عبر التاريخ ، والذي كان في يومٍ ما قناةً اعلامية للخلفاء الامويين .

-حيث إن هشام بن عبد الملك زوحِمَ عليه مِن قِبل الناس في موسم الحج، فلم يستطع استلام الحجر الاسود .
وحين اقبل (علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب) رضيَّ الله عنهم وارضاهم ، فسحوا الطريق له تبجيلاً وتكريما، فأراد شاميٌ -كان برفقة هشام- رَفْع الحَرَج عن الخليفة فقال :
- مَن هذا ؟
فأجاب هشام :
- لا أعرفه.
وكان الفرزدق حاضراً ، فقال :
- لكني اعرفه .

فانشد ميميته الشهيرة الرائعة مُرتجلا ، كما جاء في (تاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر - مجلد ٤١ صفحة ٤٠٠)
منها :

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وَطأتهُ ...
والبيتُ يعرفهُ والحلُّ والحَرمُ

هذا ابن فاطمةٍ، إن كنتَ جاهلهُ...
بجدهِ أنبياء ُ الله قد خُتموا

وليس قولكَ مَن هذا بضائرهِ...
العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعَجمُ

ماقالَ لا قط ُّ إلا في تشهُّدهِ...
لولا التشهّد كانت لاءهُ نَعمُ

مِن مَعشرٍ حُبهمُ دينٌ وبغضهمُ...
كفرٌ، وقربهمُ مَنجىً ومعتصمُ

إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئِمَتَهم ...
أو قيل مَن خيرُ أهل الارض قيل همُ

-هذه القصيدة الخالدة جعلته خالد الذكر على مَرّ السنين، كَون المدح المضاد للخلفاء لم يألفه شعراء العرب آنذاك، ولا السلطان كان يألف النقد أو كيل المديح لغيره.

- وفي الوقت الذي كانت اوربا تعيش حقبة عصر التنوير كان الشعر عندنا يحبو ويزحف مُتذللا مُنكسرا خانعاً مُستجدياً موائد السلطان تقبيلا وتمجيدا.

وكان الجهل والتجهيل المفروض على الامة العربية والذي نخر جسدها نتيجة تتابع الصراعات الخارجية على ارضها ، جعل الشعر منزوياً في بحبوحة ضيقة ، والشاعر يعيش في عَوَزٍ مادي ، وفي أزمة ذوقية ونفسية ، علاوة على فرض القيد الحديدي ومقصلة القصر.
وآخرها الفترة التي سَمّوها المؤرخون بـ (الفترة المظلمة) أبان سقوط بغداد بيد المغول وما تلاها من الحكم العثماني ومحاولات التتريك، والذي امتد تأثيره ارجاء الوطن العربي كله.

- ولمّا تلاقحتْ الثقافات وخاصة بعد الحرب العالمية الاولى وجد العرب انفسهم مُتخلفين ثقافة وفكراً ومنهجا.
ووجدوا تاريخهم مُغَلَّفاً بأسواط الخبث والخباثة، والقلم مكسور الجناح، والحروف باتت هي الاخرى ترتجف خوفاً من حرارة نصلٍ  متعطّش للدماء،  أو مِن جَمرةِ رصاصةٍ لاتفارق الهدف.
فوجدوا بصيص أمل في بعض الشعراء الذين اقتحموا أسوار الطغاة، وامتطوا صهوة الشعر المخالف لشهية السلطان، والاستعمار ، والتحفوا جدران السجون المظلمة ، واحتضنوا قضبان الغياهب والسجون رافضين المناصب والنياشين ومكرمة البلاط ، ليقدموا لنا أنموذجاً لايجيد العزف والتغريد إلا في فضاء الحرية.

- لنأخذ بعضاً من الامثلة على سبيل الدلالة :

• مثلاً في مصر نجد مصطفى لطفي المنفلوطي الذي هجا حاكم مصر الخديوي عباس يوماً ما ، فقال :

قدومٌ ولكن لا أقول سعيدٌ...
ومُلكٌ وإن طال المدى سيبيدُ

• وفي لبنان نزار قباني يصف الحاكم العربي فيقول مستهزئاً به:

أيها الناسُ أنا الاول والأعدلُ...
والأجملُ،مِن بين جميع الحاكمين
وأنا بدرُ الدجى وبياض الياسمين...
وأنا مخترعُ المشنقةِ الاولى وخير المرسلين
كلّما فكّرتُ أن أعتزلَ السلطةَ ينهاني ضميري...
مَن تُرى يحكمُ بعدي هؤلاء الطيبين

• ولايخرج العراق من هذه الشرنقة الحريرية فيأتي (أحمد مطر) ماطراً من غير انقطاع فيقول:

رأت الدول الكبرى تبديل الادوار
فقرأتُ إعفاء الوالي
واقترحتُ تعيين حمار
ولدى توقيع الإقرار نَهقتْ كل حمير الدنيا باستنكار:
إن حموريتنا تأبى أن يلحقنا هذا العار

• والقائمة تطول وتغطي ارجاء الوطن العربي كلّه .
فهناك احمد فؤاد نجم وهناك مظفر النواب و مارسيل وناجي العلي، ومنهم مَن كتبَ بالعامية ومنهم بالفصيح ، لكن النهج كان واحدا.

• وهذا الشاعر التونسي(منوّر صمادح )الملقب بشاعر الحرية الذي قادته المطاردة والمضايقة الى الجنون ليرقد في مشفى الامراض النفسية ، يقول في حاكم بلاده:

عهدي به جدا فكان مزاحا...
بدا الضحية وانتهى سفاحا
مَن حرّرَ الاجساد مِن اصفادها...
عَقَلَ العقولَ وكَبّلَ الارواحا
كان السجينُ فصار سجّاناً لها...
يامَن رأى سَمَكاً غدا تمساحا

- وهنا بدأ شوط جديد لشعر الحرية ، كاسراً ومُحطّماً ابواب القلاع المُحصنة.
فارتعدتْ فرائص الصولجان ، وقَضِّ مضجعه سوط الحرف الحرّ الشريف.
وكان ومازال الامراء والملوك والرؤساء يبحثون ويستعملون كل السُبل للَجْمِ هذا الصهيل المُنبعث الجديد ، ولكن دون جدوى.
فطعم حلاوة الحرية لا يضاهيه طعم ، والعزة بالنفس اجمل ماتختزنه الذات البشرية ، فإن تَحطَّمَتْ تَحطَّمَ الانسان معها، ويصبح عيشه مرارة وعلقما.

- هؤلاء الشعراء حتى وإن كان الاحتفاء بهم في مشافي الامراض النفسية او مقابر المهجر عبر الحدود ،أو  في مدافن مجهولة الجغرافية ومخفية التضاريس ، او تختفي اجزائهم في احواض (التيزاب)لكن أرواحهم تخلد بخلود قصائدهم.
وما زال القصر جاذباً لذاك الصنف المدّاح والردّاح ، ومازالت المقصلة جاذبة لهذا الصنف الحُرّ  النبيل الشريف ، فلم يتعب الحرف النبيل  ولكن تَعبَت المقصلة.

• والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.

• احترامي وتقديري.

(كريم القاسم)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي