الحرف الإنساني :الناقد العراقي كريم القاسم
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق ، إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الـحـرفُ الإنـسـانـيّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاسف يظن البعض بأن الادب الابداعي الرصين هو إبراز أو إظهار لغة جديدة على السطح ، ويتوقعون بأن جديد اللغة هو فرش ألفاظ قديمة عسيرة الفهم على مائدة الادب ، والتي عفا عليها الزمن لغرابتها ولقلّة تداولها .
لانقصد باللغة الجديدة هو تعقيدها، أو تعقيد رصف المفردات وتكوين العبارات وتعشيقها بأشكال ملتوية ، إنما هو الابداع في اختيار المفردات ، وإبراز معانيها بثوبٍ جديد ، وإبتكار طُرِق رصفٍ لم يأتِ بها الغير ، محافظين على متانة السَبك وجودة الإسلوب ، مخترقة لحدود الجغرافية ، تتفاعل مع الوجدان الانساني دون فواصل ، لتبحث وتناقش قضية انسانية شاملة .
لا يُسجّل الحرف الادبي إبداعاً رصينا إلا إذا كان انسانياً ، وهذا مايفتقر اليه أدبنا العربي في العصر الراهن ، وإن ظهرتْ نماذج مِن هنا أو مِن هناك ، فهي متأثرة بالادب الغربي ، لأنهم سبقونا في هذه النَزعة بسبب الحرية الفكرية والاستفادة من تجارب الانسانية .
لذلك نجد اعمالهم تُترجَم الى كلّ لغات العالم ، ويقرأها كل العالم . وهذه العالمية لاتَحضَر إلا عند الحرف الانساني البَحت ، وهو يحتاج الى وعيٍّ أدبيٍّ وسياسيٍّ ومجتمعيّ وحضاريّ منفتح بعيداً عن الغلوِ والإحْنَةِ والعداوة والشناءةِ .
فمَنْ مِنّا لايعرف نجيب محفوظ مؤلف (ثلاثية القاهرة) ومَن مِنّا لايعرف (تولستوي) مؤلف (الحرب والسلام) ومَن مِنّا لايعرف (فيكتور هوكو) مؤلف (احدَب نوتردام ) و (البؤساء) ومَن مِنّا لم يقرأ لـ (إرنستْ همنغواي) مؤلف (الشيخ والبحر) وغيرهم الكثير . هذه المؤلفات اكتسبتْ العالمية من خلال مضمونها . عِلماً إنهم كتبوا عن قضية معينة في بلدانهم ، لكن نهج التأليف هو نهج إنساني شمولي صرف وخالص ، كون القضية ذاتها محركها الفاعل بخيره وشره هو (الانسان) بغض النظر عن انتمائه الجغرافي والعرقي والديني .
هم كتبوا عن قضية انسانية معينة ، ولم يتناولوها بسطحية ، بل غَوصاً في الأعماق . متصفحين عالم الروح ، ليلتقطوا منه بذوراً يبحثون عنها ، تُشكّل عقدةً ورابطاً انسانياً شمولياً يبحث عن جوهر السعادة البشرية ، بحيث يصبح مِثال قضيتهم مُجرَد مِثال ، أما المعنى الحقيقي فلقد صارَ شعاراً عابراً لحدود الجغرافياً ، ومُلْكاً إنسانياً عامّاً.
ـ اذاً عندما يكون الحرف عابراً للحدود فذلك حرفٌ انسانيّ ، وإلا مافائدة أن أركن في مكتبتي ديوانيّ الشعري أو روايتي ، او مجموعتي القصصية ، وهي لاتجتاز بلاط غرفتي ، اللّهم إلا من خلال الاعلان عنها وقتَ طباعتها .
• مَن قرأها ؟
• ومن اشار اليها عبر الحدود ؟
• وهل اتصلتْ بنا دارُ نشرٍ للسماح بشرائها أو طباعتها نظراً لكثرة الطلب عليها ؟
ـ كل هذا لم يحدث ، حتى وإن تمت ترجمة كتاب او مقال أو قصيدة، بل وحتى الكثير من الادباء على مستوى الوطن العربي ، اللهم إلا الندرة النادرة كالأديب الكبير (نجيب محفوظ) رحمه الله الذي استفاد اخيراً من تلك التجربة الغربية ليكتب بمداد وحرفٍ إنسانيِّ عالميّ عابرا حدود الجغرافية ، رغم تركيزه على حيّز (الحارة) الشعبية ، إلا ان النظرة الانسانية الشمولية هي التي خطط لها نجيب محفوظ بعناية ودقة وقَصْد .
ــــ إن حرفكَ الادبي هو عنوانك الانساني .
ــــ هو البؤرة التي يمكن لها ان تشكّل شعاعاَ إنسانياً ولو كان ضعيف الطيف ، لكنه سيُحدِث فارقا .
ــــ هو زادك الفكري ، فانظر اين تفرش مائدتك .
ــــ هو صهوتك التي تسابق الريح ، وتستنشق طعم الحرية .
• أتذكّرُ قولاً لأحد اساتذة الادب في العراق :
(أن ادبنا العربي يخرج مِن بابين ، أما من باب قصر ، أو من باب كوخ ، وكلاهما لايخرج مِن عباءة التملّق والرياء والاستعطاء والاستجداء )
ـ وهذا استنتاج صادق مسؤول .
فمازال القلم العربي جباناً ، يخاف الحقيقة ويخاف كشفها ، و يخاف أن ينشر كل بضاعته ، بل مازال يتقيَّأ بما يزيل عنه بعض المَغص الادبي لا كلّه . وعندها ستبقى انسانيتنا شعارها ( التغاضي وغض الطرف) سننتج ـ بلا شك ـ أدباً مُعوَّقاً يتكيء على عُكّازِ التملّق ، أو جالساً على كرسيِّ العَجزة ، تُحركّه دواليب زاحفة مِن سريرهِ الى مِرحاضهِ ، ولاخير في كلماتٍ خطُ مسارها مابين السرير والمِرحاض .
ـ لذلك نجد الادباء الاكثر حرية والأكثر جرأة في الفكر الانساني وإفراغ الذات هم الاكثر شيوعاً والاكثر عالمية وابداعاً .
• وكما يقول الاديب والناقد الكبير (عزرا باوند) :
" أرى إن الادب لا ينتمي إلى بلدٍ معين ، بل هو شيء عالمي ، يتمثل في كل بلدٍ جزء واحد منه "
ــ لذلك أقول :
• عندما تكتبْ وتؤلفْ ؛ لاتستند الى العاطفة ، ولاتتوهم بأن العاطفة هي التي تحرّك المَلَكَة التاليفية ، أو هي وحيّ الشعر والنثر كما قد يتصور البعض ـ رغم حضور الموهبة ـ إنما هي صنعة ومهارة وخبرة تحتاج الى دقّة تنظيم وتخطيط في الافكار والمُعدّات ، وحذاقة في الاسلوب والمعطيات والاستحضارات ، وفهمٍ للأدب العالميّ . وأن لا يكون الاديب مُغلقاً مُنغلقاً .
• عندما تكتب أكتب بروح إنسان ينتمي للانسانية جمعاء .
• عندما تكتب أكتب بتواضع .
• اكتب دون منافع شخصية او تحايل على الذات وعلى من حولك .
• اكتب بقلبكَ ، واخرج المعاني والالفاظ من بين ضلوعك .
• اكتبها ثم تحسَّسها بيدك ، وكأنك تعجنها .
• إروِها مِن دمك .
• إفتحْ لها كلّ أوردتك وشرايينك ، حتى وإن مزَّقتْ الأحشاء .
• أكتب عن عامل انساني مشترك .
• اكتب بضمير متحرر نقي .
• أكتب بماء جديد متجدد مع الحياة ، كي ينبض النص بحياة جديدة ورؤية جديدة ولغة جديدة ، فعالم الامس غير عالم اليوم ، ولكل عالَم ناسهُ .
ــ لنلقي نظرة فاحصة على اقلامنا ...
كم من الشعراء والقُصّاص والروائيين يكتبون القصائد والقصص والروايات يتلو بعضها بعضا ، وهي تحتضن بعضاً من نزيفً او رُعافٍ لفكرةٍ ما قد استقرتْ في الذهن ، لكن النص لايُترجِم كلّ الفكرة ، لأن الالفاظ والمعاني لم تُرَصّ بالشكل المطلوب و يصدر النص وهو يشكّل مغامرة أدبية جديدة كالتي صَدرتْ قبلها ، قد أوهنتها محطات ضعف وهزال هنا وهناك .
إن كل مغامرة أدبية جديدة تحمل نبضاً جديداً يتجدد مع الزمن ، وقد يكون معظمها تجسيداً لفكرةٍ قديمة كان يومها الشاعر او القاص لم يترجمها بالشكل المناسب والصحيح . وهذا ما نجده حتى لدى الادباء الكبار . ولكن في كل تأليف جديد يحتاج الكاتب الى البحث عن إبداعٍ جديد ، ليشكّل قفزة ، وليبحث عن معاني الانسانية التي تشكّل آصرة مشتركة بين الناس.
• هل نكتب وننشر كانتشار الاعشاب والادغال ؟
• هل نؤمن بالمقولة التي تقول : "إذا كَـثُـرَ الشيء صارَ رخيصاً ؟ "
• " الذين يستهينون بالشعر هم الذين يستهينون بالنشر. واذا كانت القصيدة لاتَعرِف إلا صاحبها ، فمن البلاهة الوقوف على أعتابها . وإذا كان الشاعر يريدها قصيدة تدخل قلوب العالمين ، فعليه أن ينظمها كعقد اللآليء الثمين " هذا ماقاله الشاعر الكبير (محمود البريكان) رحمه الله .
لانه يتصور بأن الذين يستسهلون الشعر يستهينون به هم لايعرفون ضوابطه ، وكلماتهم تتمدد كالدغل بين الازهار ، يتسلق عليها ويكبّل جنباتها حتى تكاد ان تموت ، فمن أين يأتي الابداع ؟
ـ علينا أن نُبَسّط نظرتنا للأدب ، كي نرى الاهداف على حقيقتها دون غشاوة ، ودون النظر اليه من خلال مرايا مُقعرة ومُحدبة ، او من خلال ثقب الجمود والانغلاق ، او من خلال نوازع نفس شريرة قد غلفها الحسد والغيرة ، فالادب منذ القدم يمثل قضية إنسان بكلّ مايحيط به من عُقَدٍ ومَسالك ومَشارب وأفكار وأهداف وفلسفات .
• وعندما تكون الرؤية بهذا المستوى من الصدق والشفافية والنقاء ، فمن المؤكد سيحضر أمامَنا عالم آخر جديد إنسانيّ بإمتياز .
ــ احترامي وتقديري .
ــ والى بيانات قادمة بعون الله تعالى .
(كريم القاسم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق