وقفة نقديةفي مطلع قصيدة (آمنت يالحسين) للشاعر الجواهري :الناقد كريم القاسم
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقـفـةٌ نـقـديـةٌ في مطلع قصيدة
(آمنتُ بالحسينِ )
الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عينية الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) رحمه الله (آمنت بالحسين) والتي القاها في ذكرى استشهاد الحسين ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ في حفل أقيم في كربلاء يوم 26 تشرين الثاني 1947، لذكرى استشهاد الإمام الحسين(رضي الله عنه وارضاه) .
وهي من ابلغ وأروع قصائده ، بل من أروع ما نُظِمَ في تلك الفترة وحتى وقتنا الحاضر ، وكُتِبَ منها خمسة عشر بيتاً شعرياً بماء الذهب طَرَّزَتْ الباب الكبير لضريح الامام الحسين .
عندما يتصدى الناقد او الشارح لشعر الجواهري، عليه ان يكون مُلمّاً بأصول النقد والتحليل ، مستعيناً بعتادٍ وثروة لغوية لايستهان بها ، فالجواهري لايرصف لفظاً كيفما اتفق ، ولاينظم شعرا من غير دراية ورعاية.
فهو ربيب مدارس العلم وتلميذها النهم المتعطش الى الادب واللغة.
كيف لا وقد دَرَجَ في احضان العلم ، وبين اركان بيتِ علمٍ وعالِمٍ ، حتى درس الفقه والبلاغة والفصاحة والبيان .
وكان لايلقط في اذنه إلا الجزل الفصيح البليغ من اللفظ .
إذاً نحن امام قامة ادبية رفيعة المقام سامية الاهداف، راقية الفكر، شاسعة المعرفة، خبيرة النَسج والنظم بنول ماهر خبير.
ــ القصد من التعريف الموجز أعلاه هو أن ماينظمه الجواهري ليس بالهين او التقليدي او المعتاد ، وإنما يأتي بالنص وهو يحمل تأويلات ودلالات ظاهرية وأخرى باطنية، كلها تقود الى ذات المعنى وذات القصد ، كما في اشعار المتنبي وغيره من كبار الشعراء ، وهذه الاستطاعة لايبلغها إلا من سبر غور البديع والبلاغة وتوغل في اسرار النظم .
وهذا المعنى الباطن هو الذي يدعونه اصحاب الصنعة بلُبِّ المعنى ولُبّ الاشارة.
ولذلك نجد شعر الجواهري قد نَفَذَ الى قلوب عشّاق الادب ومريديه دون استئذان .
• مطلع قصيدته العينية (آمنتُ بالحسين) :
فِدَاءً لمثواكَ من مَضــجَعِ
تَـنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنــانِ
رُوّحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ
وَرَعـيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"
وسقيَاً لأرضِكَ مِن مَصـرَعِ
وحُزناً عليكَ بِحَبسِ النفوس
على نَهْجِكَ النَّـيِّـرِالمَهيَـعِ
وصَونَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال
بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ
***********
- كنتُ قد اشرتُ قبل سنين الى ماسيأتي بيانه :
للاسف ؛ الكثير من الاخوة النقاد والشارحين تناولوا شرح البيت الشعري الاول من مطلع القصيدة تناولاً سطحياً معتمدين الدلالة الظاهرية ،دون الولوج الى اعماق النص وارتباطات أواصره فيما بينها وبين ماتلاها.
• السؤال /
هل يكتب الجواهري هكذا قصيدة عصماء يُشار اليها في رثاء الامام (الحسين) رضي الله عنه وارضاه ، ليجعل مطلعها بيتاً شعرياً مبتور الاساس ، أو يتيم المتابعة والبَعدية ؟
ــ لنتناول معاني البيت الشعري في مطلع القصيدة بشيءٍ من التكثيف والايضاح :
الشاعر يخاطب الحسين وهو يستقبل قبره الطاهر الشريف فيقول :
( فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ
تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ )
ــ في الشطر الاول :
(فداءٌ لِمثواك مِن مَضجعِ)
• جاء في (المعجم الوسيط) :
الفِدَاءُ : ما يقدَّم من مال ونحوه لتخليص المَفْدِيّ.
و الفِدَاءُ : ما يقدَّم للَهِ جزاءً لتقصيرٍ في عبادة.
و الفِدَاءُ : الأضحيَّةُ.
المثوى : المنزل.
وهو المكان الذي يُنزَلُ فيه .
المَضْجَعُ : مَوْضِعُ الضَّجوع.
المَضجَع : مكان النوم .
ــ وبهذا يأتلف معنى الشطر الاول من ثلاثة الفاظ متناسقة النظم ، حيث كان الشاعر ذكياً في خطابه ، فهو يخاطب جثماناً قد اضطجع على تراب كربلاء ، فيقول له :
نفسي فداء لصاحب هذا المثوى والمضجع ، كونه اهل قدسية متراكبة ومتراكمة تستحق الفداء والتضحية .
- ثم يُكمل الجواهري البيت الشعري بشطر آخر قد تناوله الاخوة النقاد والشارحين بتسرّع وعبورٍ سطحي ايضا ، بغية الوصول الى عمق النص ، دون الالتفات الى هذه المقدمات الرائعة وترابطها مع ماسيتلوها من نظم ، والتي لايمكن ان يكمل شاعر مثل الجواهري قصيدته دون هذه الثوابت والاسس .
ـ الشطر الثاني :
(تنوَّر بالأبلجِ الأروعِ )
ـ لنتأمل الآن معاني مفردات الشطر الثلاث :
•جاء في (لسان العرب)
الأَبْلَجُ : الأَبيضُ الحسَنُ الواسعُ الوجه ، يكون في الطول والقصر.
الأَرْوَعُ : الذكِيّ الفؤاد.�و الأَرْوَعُ : المُعْجَب بحسنه وجَهَارَة منظره أَو بشجاعته.
- الآن نأتي الى هذه المفردة :
تنوَّرَ : هذه المفردة بالذات قد بَنَى النقاد عليها معنىً غير مُصيب ، فتناولوا معناها منفصلاً دون تأمل الرابط بين معناها ومغزاها وأجزاء ماتلاها من نظم ومعنىً .
لذلك فالكثير منهم جاء بمعناها الظاهري وهو : الاستضاءة والتنوير ، ليكون المعنى هو :
(ان هذا القبر وهذا المثوى قد تَنوَّر واستضاء بالوجه الأبلج الابيض الجميل الحسن )
وهذا يلائم جدا مواطن المعاني الوجدانية لمفردات البيت الشعري ومرجعية الصفات الى الامام الحسين رضي الله عنه وارضاه .
ــ لكن مثل الجواهري عندما يصف الحسين فهو يأتي بما يُدهش الذات ، ويجعلك تعيش في فضاءات ومساحات كونية أخرى ، فمثلاً يقول في ذات القصيدة :
(فيابنَ البتـولِ وحَسبِي بِهَا
ضَمَاناً على كُلِّ ما أَدَّعِـي
ويابنَ التي لم يَضَعْ مِثلُها
كمِثلِكَ حَمْـلاً ولم تُرْضِـعِ
ويابنَ البَطِيـنِ بلا بِطْنَـةٍ
ويابنَ الفتى الحاسـرِالأنْـزَعِ
ويا غُصْنَ "هاشِـمَ" لم يَنفَتِحْ
بأزْهَـرَ منـكَ ولم يُفـرَعِ
ويا واصِلاً من نشيدِ الخُلود
خِتَـامَ القصيـدةِ بالمَطْلَـعِ)
ــ نعم هكذا يخاطب الجواهري حسينا ، وبهذه السمات المشرقات المزهرات الشامخات ينظم قصيده.
ــ لذلك نجد الشارحين والنقّاد وبعد أن ينتهوا من تحليليل وشرح بيت المطلع يمرون مرور الكرام على البيت الثاني :
(بأعبقِ مِن نفحاتِ الجِنان
رَوّحاً و مِن مِسكِها أضوَعِ )
• جاء في لسان العرب :
عبِق المكانُ بالطِّيب : انتشرت رائحةُ الطِّيب فيه.
النَّفْحَةُ : الطَّيبُ الذي ترتاح له النَّفْس.
الرُّوح : (معنويَّاً) الجوّ أو الحالة النَّفسية التي تؤثِّر في النفس وهي الراحة .
ضَاعَ العِطْرُ : فَاحَ و اِنْتَشَرَ .
ــ فيتناولون المعنى كالآتي:
(بأن المكان عَطِرٌ وفيه نفحات جنان مصدرها جسد الحسين)
وهو تفسير مجازي يناسب عادة شروحات النقاد للقبور والاثار المقدسة .
وهذا يتنافى مع اركان واسس النظم . فلابد للشعر المنظوم بحنكة ودراية من معنىً ظاهرياً وآخر باطنياً .
فمعنى البيت الشعري الثاني يحمل دلالة ترابط او استدراك لما سبقه من النظم .
• لذلك يجد المتأمل الحذق ان الجواهري قد حمَّل الشطر الثاني من البيت الشعري الاول (تنوَّرَ بالأبلجِ الأروعِ ) معنىً يحمل تأويلا آخراً ، كي يكون الشرح ويكون التناسب عالي المقام ، ويكمل معناه ماتلاه في البيت الشعري الثاني.
ـ فالجواهري يقصد بمفردة (تنوَّرَ) ان المكان اصبح مُزهِرَّا بـ (الابيض من الزهر)
و(النَور) هو الورد الابيض .
ــ فقد جاء في المعاني الجامع :
النَّوْرُ : الزّهْرُ، أو الأبيض منه .
واحدته: نَوْرَةٌ
ــ برهان ذلك هو ماتلاه من نظم في البيت الشعري الثاني:
(بأعبقِ مِن نفحاتِ الجِنان
رَوّحاً و مِن مِسكِها أضوَعِ )
ــ فهل يأتي عبق العطور وراحة النفس وضوع المسك من الضوء والتنوير؟
ــ بالتأكيد لا .
فالجواهري ضَمَّنَ وأودعَ تأويلين للتنوير وإضاءة القبر ، فمرة بوجه الامام الحسين ومايحمله من سِمات جمالٍ ونورٍ وإشراق ، ومرة بالأزهار البيضاء .
إذاً ؛ فالمعنى الباطن يكون :
(إن المثوى والمضجع المتنور بوجه الحسين قد تعطَّرَ وانتشرتْ فيه الروائح الزكية كالمسك ، كونه مُزهرَّا بـ الورد الابيض ، فتشعر النفس بالراحة والدَعَةِ والانشراح .)
• لاشك ان مثل الجواهري يفهم النظم واسراره . لذلك قال اهل الصنعة :
" بأن الالفاظ لها خصائص وهيئات "
ونظم ابيات الشعر كنظم خرز القلادة أو حبات المسبحة ، الواحدة تسند الاخرى ، فإن كان البيت الشعري منفصلا عما سبقه فستكون الفكرة متشظية ومشوشة الارسال والاسترسال . والجواهري قد أبحر في هذه الصنعة وهو غضٌ طريّ العود ، فكيف وقد شاخ مع الشعر حتى تمازجا روحاً وبلاغة .
• وافر الاحترام والتقدير ...
• والى بيانات قادمة ان شاء الله تعالى.
(كريم القاسم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق