PNGHunt-com-2

هارب من الموت : الكاتب أ. هادي المياح

هارب من الموت
                                                                                                                                            مثل هزة أرضية خفيفة، أشعر بسريري يتأرجح تحتي، وألمح بصيصا من ضوء يقتحم القاعة، وينعكس لمعانه عند اصطدامه بالشراشف البيضاء.  أتذكر بقوة أنني شاركت بالحرب الطويلة، والحروب التي تلتها. وما سأقوله ليس مجرد "ذكريات من بيت الموتى". ولا هي تجربة تعود لميّت حاول أن يزاول الحياة. لقد بدأ الجزع ينخر في نفسي فانسلّت من جسدي تراقبه من على دكّة قريبة. في كل مرة، يتراءى لها جسدي متدليًا من نقطة ما في سقف بناية وهمية. صرت اكره الجلوس طويلا تحت سقف غرفة ما أو أنتظر..الأنتظار خاصية من خواص الحياة التي مضت، لا تتناسب مع هذا الزمن. لذا أجدني أمام احتمالين: إما أن اهرب أو أغفو وأنا في مكاني.
اعتذر منكم. ذلك لأنني قبل حضوركم بدقائق، لم يحالفني الحظ بالنهوض من غفوتي بسهولة، لذلك بقيت على حالي، بلا وعي تداعب اصابع يدي غطائي الناعم الملمس. وكان الحرس قد دفع المجموعة بكاملها وحُشرْنا في باب قاعة مربعة الشكل. بقينا فيها لفترة، جالسين القرفصاء على أرض ترابية. بعدها ربطوا أعناقنا بحبال علقوها إلى كلّابات مثبّتة في سقف القاعة. الكلابات تشبه علامات استفهام مقلوبة،تتدلى من السقف، ونحن مثل عناقيد عنب، نتدلىّ أيضا.
ثُمّ مرّ علينا شخص ضخم، تَفقّدنا واحدًا واحدًا للتأكد من إحكام التثبيت. وحالما انتهى ، صرخ بأعلى صوته:
تم!
خرجتْ تمتمة من أحدهم في أقصى القاعة مصحوبة بأنين. إذن لقد تم كل شيء دون إرادتنا، ولم نكن على علم بسبب واحد معقول يبرر مثل هذا العقاب! نسأل من يا ترى عن السبب؟ هل نسأل الكلّابات أم نسأل الجلادين؟
صار منظرنا للرائي واضحا لا يقبل غير تفسير واحد ، هو أننا نبدو معدومون توًا.
لا مجال لان نتصافح مع بعض، أو نلقي بالتحيات، فقط كنا نتبادل النظرات وقليل من الابتسامات اليائسة. صار الجو معتمًا، وسرت رجفة وارتعاش في أطرافي السفلى . ثم أخذت رائحة التراب تنفذ في أنفي حتى كدت اختنق.
خرجتُ من الحشر، مثل كائن هلامي،اخترقتُ الضباب والغبار ومررتُ بفضاء أكثر مقبولية ،تنفستُ بعمق خلال الطريق ،وخزّنتُ بعضًا من الهواء في رئتيّ قبل أن ينفتح أمامي بابٌ حديدي واسع، له صرير قوي .. في الداخل مساحة كبيرة تسع من الجنود وجبة كاملة من دعوة مواليد جديده. الارضية ترابية أيضا .. والحرب بلون التراب. الجنود، بانتظار مواجهة مع الموت في وقتٍ غير محدد. ممددين بشكل عشوائي، كنت أرى بوضوح رأس أحدهم  يندس في حضن آخر وقدم ما "تتدلى" من أعلى كتفي جندي بوضع نصف جلوس و يغطُّ بالنوم. ورغم أنهم  الآن بعيدون عن الجّلاد لكنّ معظمهم أشبه بالموتى قبل أن يموتوا فعلا في احدى الجبهات.
عدت إلى القاعة التي حشرتُ فيها مع اصحابي ،كان الصمت ما يزال يخيم بالداخل، إذ يستحيل على أحد البوح بشئ أو التحدث به.. كيف نتكلم ونحن شبه مخنوقين. بالكثير تسمع حشرجة هنا وهمهمة هناك. لكن فجأة وخلافا للعادة، تنفلت من أحدنا قهقهة عالية مثل حجر يقع على مياه راكدة في بركة. فضحكنا جميعا بلا وعي. لم يتساءل أحدنا عن سبب الضحك، فأن جميع أصحابي من المخضرمين عاصروا جلاّد ذلك الزمن، وجلادو الزمن اللاحق. وأن صاحب الضحكة لوحده، كان قد لامس حبل المشنقة عروق رقبته خمس مرات.
من الحشرجة،والقهقهة،والهمهمة، تشكّل لحن تدلى معنا، أشبه بدندنة تثير الشجن. لكنّا بالرغم من ذلك، لم نأبه لما قد يلحق بنا بعد لحظات حيث تنقطع أنفاسنا ، وتطير أرواحنا بعيدا خارج القاعة. وبما أننا لم نكن نفعل شيئا في حياتنا يتقاطع مع قوانين الكون والحياة، يكفينا ذلك كحد ادنى في اقناع انفسنا بلا جدوى الندم على أي شيء اقترفناه وما لم نقترفه. لا نأسف على قدر صنعه بشر احتال علينا. والأبرياء منا حين يقتلون، لا يفيدهم ندم ولا شفاعة! "  فقد دقت أبواق الساعة وأغلقت الحياة أبوابها.
بتنا لم نجد ممكنا واحدا نتلهّى به، فأخذنا نملأ فراغات الزمن الضائع بمواصلة الضحك إلى أن يتوقف ذلك تلقائيا. استمرت ضحكاتنا ترتفع عاليا، ثم شعرنا باتربة الأرضية تتطاير و راحت  تتصاعد بكثافة نحو السقف والجدران. حتى ملأ غبارها فضاء القاعة.
انعدمت الرؤية بشكل كامل. وفقدْتُ الإبصار. اختفى كل من في القاعة، عدا صوركم التي ظهرت لي وانتم واقفين أمامي كالملائكة. لا يُصدِّق أحد ما قلته لو أنني حكيته على اسماعه، كما لم أُصدّقه أنا نفسي.كنت اتمنى لو كنا جميعنا واعين منذ البداية لعبثية ما يُصادفْنا ويقف عثرة في تحقيق ما نحلم به! ما يحدث غالبا ما يكون مفاجئا وعصي على الفهم والإدراك. ليس هذا كل ما حصل.. إذ قبل أن أراكم بثوانٍ، شعرت بشيء ما يجذبني بقوة، وعاد الدم يجري في عروقي، ثم تركز اكثر قرب صيوان اذني.  سمعت الربّ الذي تكلم عنه الجلّادون بإسهاب وإطناب، يُطمْئنّي وهو يهمس لي: انت واصحابك في الجنة!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي