النار والهشيم : ق ق الكاتب أحمد نصر الله /مصر
النار والهشيم
قصة قصيرة
مختلف عمن سواه، هكذا في أعماقه يشعر بهذا التميز الكبير ،
متفردا عن الأكثرية الذين يعرفهم أو وعى عليهم إدراكه،
قوة كبيرة تتدفق في عروقه، كلما نظر لوجهه في المرآة،
أو عقد مقارنة بينه وبين أحد أقرانه، لمعة عينيه ؛وعيه بالعالم من حوله،
أراؤه التي تتخطى عمره بمراحل، إحساس متجذر بالاختلاف
والتفرد والقدرة على صنع المستحيل، يتنامى في داخله مع مرور الوقت،
حتى شعوره بأسرته الصغيرة ،
كان مختلفا وعميقا ؛ فرغم قلتهم في البلدة ، بأعدادهم التي يمكن حصرها على
أصابع اليد ، إلا أنهم مختلفون ؛متميزون وخلاقون ،
بداية من هيمنتهم على الحرف الرئيسية , فتجد بينهم السباك ؛الكهربائي ؛ النقاش
وما إلى ذلك من الحرف التي لا يستغني عنها أحد
نزولا لتجارة الحبوب والأعلاف والخردوات حتى المحال الصغيرة والجملة
كان لهم النصيب الوافر بالسيطرة عليها،
يفتخر بهم ويتباهى بالصغير فيهم قبل الكبير مات عمه في سن مبكرة جدا ، ورغم هذا فقد
حققت تجارته أرباحا أبهرت الجميع، مرغمة إياهم بمداهنته والتمسح به
ونيل البركة منه، فالمال يفتح أمامك الكثير من الابواب
التي تستعصي على عوام الناس الذين يعيشون اليوم بيوم، أما هو فقد كان شعلة
اقتصادية لا تنطفئ نارها،
والقرش كما يقولون بيجيب قرش
وكان يتوقع أن هذا العم سيقلب خارطة القوى رأسا على عقب،
لكن جاء الموت ليغلق هذا الفصل المشرق في مهده،
حين أتم المرحلة الأعدادية اختصر على نفسه الكثير
من العناء ،بعد حسبة بسيطة، ومغامرة درس كل مخاطرها من كل الجهات،
ليكمل تعليمه في الثانوية الصناعية،
متوفقا نابغا ليدخل بعدها كلية الهندسة، دون المرور بكابوس الثانوية المزعج،
ليتعاظم الشعور بالخيلاء والقوة في داخله،متعديا الحد الذي معه ، تتضخم الأنا
مفرزة هرموناتها وشحناتها العصبية،
متصغرا كل شخص وكل شيء ، أمام إرادته الحديدية
ولأنهم قلة فالأمر لم يكن يخلو من المضايقات، هكذا دائما هو الحال مع القلة المتميزة، فيتعرضون للنبذ ، والحسد ، والغل أحيانا
الذي بدوره يتحول تدريجيا لتربص شديد ، واحتقان لا حد له
فتحدث المشاجرات لأتفه الأسباب ، وأقلها تأثيرا ؛ وأضعفها إقناعا
في ذلك اليوم
تم طرحها أرضا ، تناوبوا الاعتداء عليها
ضربا وركلا ، مزقوا ثيابها،
جروها من شعرها،
ومرغوا كرامتها في التراب،
وقتها اقتلعه الغضب من جذوره، شعلة من الجحيم اقتادته حيث هم،
ضاربا الأول في وجهه ، ومهشما فك الأوسط ،
وفي المنتصف سقط تحت أقدامهم ، غلبته كثرتهم،
ولم يكن أمامه سوى العودة، مهزوما
مختنقا ؛ متورم الوجه
واضعا جراحه بجوار جراح أمه الكسيرة،
ينظر إليها؛ وكبرياؤه يتهاوى مع كل نظرة؛
مع كل ارتجافة،
وفي قلبه يتعاظم الإحساس بالضعف والغضب،
سريعا يضع للحزن حدا، مقسما بينه وبين
ذاته التي يقدس عنفوانها وجبروتها،
أنهم سيتمنون لو لم يوجدوا.
يصب اهتمامه على الناحية البدنية،
يتدرب بعنف وإصرار تنتفخ عضلاته يبرز صدره
تقوى عزيمته، الأن لن يستطيع أحد أن يعتدي عليهم مجددا
بعد أن صار نموذجا للبطل الأولمبي في رفع الأثقال وكمال الاجسام،
يحمل أنبوبة البوتجاز بيده مرغما الجميع على الجري أمامه ، خائفين وجلين
من هذا العملاق الذي يلاحقهم وحده كان كفيلا ببث الرعب في قلوب الجميع .
مهابا تجده، مقداما تكتشف ذلك مع كل نازلة،
عنيفا جدا وغبيا في ردود أفعاله، أو بمعنى أكثر دقة وبلفظ عصري، صاحب
رد فعل مبالغ فيه، كشخصية منتفخة في أحد أفلام الرسوم المتحركة
صوت جهوري وعضلات منتفخة ، وعقل يبحث عن الشر ، الشر فقط.
لكن برغم مرور السنين لم ينس الذي حدث،
ندبة في القلب لا تلتئم أبدا،وشرخ عميق يتسع في داخله مع مرور الوقت،
هذا الشرخ يشعر به طافيا على وجهه،
وصوته ، يحتل ذاكرته، يفاجئه
صاحيا ونائما ، يقتحم عليه خلواته بينه وبين زوجته وأولاده،
ينغض عليه حياته، لقطات مؤلمة لاتفارق خياله تزيد غضبه وجموحه وثورته،
مرت السنوات ولم يحدث أي خلاف يذكر بينهم بين تلك العائلة، التي أثرت السلامة
وبائت كل محاولاته في النفخ في الرماد بالفشل،
فالنار قد خمدت والصلح قد تم، وليس في نية أي أحد كان في استعادة تلك
المشاهد ثانية،
وهو لن يستطيع فعلها وحده، خاصة مع تداخل المصالح فيما بينهم،
يتصورن أنه نسى هذا التاريخ القديم
لكنه هناك قابع؛ هناك في العميق نصب خيامه وأوتاده،
مسيطرا عليه بالكلية، تراه ضاحكا لاهيا مستمتعا
لكن المسخ في داخله يكبر ويكبر ومع كل هذا ينتظر في هدوء ، كأسد جريح ، ينتظر،
يتربص به ، متحينا اللحظة التي
تحدث فيها الشرارة، لينقض على تلك الفرصة، مثبتا أنه
وحده يستطيع قلب المسلمات رأسا على عقب.
والآخر كان يدرك ذلك، يدرك مدى ما يتمتع به أحمد من قوة ، ويشفق
عليه من الغضب الذي لا ينطفئ إلا نادرا في عينيه، يشفق عليه
رغم كل هذا ، موقنا أنه لن يهدأ حتى يحيل الكون من حوله رماد
هكذا يتجنبه محمود هذا اسمه ،
يهادنه
ينأى بنفسه وبعائلته عن آية مواجهة بينهم
بحكمة وروية، رغم الاستفزازات المستمرة؛ التي يتعرضون لها دون انقطاع،
وكأن الصفعة التي نالوها في البدء،
أحالتهم لكلاب مسعورة لارغبة لديها غير نهش لحم المسالمين
عائلته لم تكن أبداً طرفا في هذه المعركة،لكن بحكم أشياء معقدة ،
من بينها الجوار ومن منطلق من جاور نافخ الكير يكتوي بناره،
كان لابد من حدوث هذا التصادم بين الحين والآخر ، ولاثمة فرار من
هذا القدر المحتوم،
هدوءه لم ينفع ، وابتسامته العذبة
كانت أول ضحايا ماجد ، الذي صار
لايعبأ بشيء بقدر ما يعبأ بإثبات قوته وقاهريته،
الأطفال يلعبون سويا، لهم حسباتهم الخاصة
ومنطقهم المختلف عن عالم الكبار، ولا مناص من نشوب الخلاف بينهم،
وعندما يتحفز الكبار ، يكون المردود غبيا ومفجعا
لطمها المرأة على وجهها ، ووقف أمامها
بكل ما يملك من ثورة
_أنتوا عايزين مننا إيه ياولاد الكلب
ولم يكن هناك أي سبيل للمراوغة أو لمداهنة الشر القادم
والأن وبشكل مأساوي الوالد تم ربطه بالحبال في منتصف
الشارع ، ممزقة ثيابه ، يبصق الصبية في وجه ، وينضحون الرمال
في وجهه ،
ماجد يحترق من فوق سطح منزلهم الكبير،
ذي الطوابق الخمس ثائر ، مجنون ، صارخ ، يدور في مكانه،
وكأن الأرض كلها بطولها وعرضها صارت لا تتعدى متر واحد
يقطعه جيئة وذهابا،
ذئب يعوي في رأسه، وألف جرس إنذار
يدقون في نافوخه،
مشاهدا والده بهذا الشكل المأساوي،
النار تلتهم أعصابه، والصورة القديمة
تختلط بالصورة الحديثة
ومن أسفل الشوارب مفتولة ، والشيطان يجلس
على كرسيه
يأمر وينهى
عدا محمود وحده كان يرى الحقيقة
النور ينبض في قلبه، والحزن يكتنفه من أعلى رأسه
حتى أخمص قدميه
العنف ليس حلا ، وما يحدث هو الجنون الكامل
لكل منا عذره في التنفيس عن مكنون
صدره، لكن تبقى لكلمة العقل سلطانها
لهذا تحرك وحده
تحرك بمحبة وحنو،
تحركه حمامات السلام؛
ورغبة ملحة في إنهاء هذه المهزلة،
ماجد من فوق منزله يطيح بقطع السيراميك من عل وسط الشارع
هو وزبانيته
متزعما كتبية من الحمقى ، متحكما
في سوادها وغلها؛ يقذفون هنا وهناك
ويرمون زجاجات المولوتوف على الرؤوس،
محمود يقرر حل وثاق الرجل الكبير،
مشفقا عليه من عبث الصبية
يتمزق قلبه كلما لمح نظرة القهر
في عينيه؛ ووجهه الذي تمكنت
الشخوخة من قسماته
مبتسما يقترب
مشفقا يدنو
ومن عل يهوي حجر خبيث
مقتنصا تلك البسمة ، مفترسا تلك الطاقة
النوارنية من جذورها
سقط على وجهه ومع سقوطه
هوت الإنسانية من عليائها
الصمت يحتل الصدارة ،
والصدمة تجتاح الجميع،
سقط محمود
وأعلن ماجد انتصاره فارضا سطوته وقوته،
لكن لم يدر في باله
أن هذا الحجر الذي أصاب محمود
لم يكن إلا أول لبنة في قبر جماعي
يضم كل أفراد عائلته
على بكرة أبيها
وأن هذه اللحظة هي لحظة
النهاية نهايتهم جميعا
تعليقات
إرسال تعليق