PNGHunt-com-2

الجرس والإيقاع في شعر غازي الموسوي :بقلم الناقد شاكر الخياط

الجرس والايقاع في شعر غازي الموسوي

لنقرأ النصين :

دجلةُ تتكلمُ بصوتٍ عال.

لانني
والشعرُ صاحبانْ
منذُ قديمِ العصرِ والاوانْ
أشهدُ
أنَّ الحزن في دمائنا
محبرةٌ
والارقُ اللسانْ
فلا ننامُ
حينَ يجأرونَ بالأذانْ
كعادةِ الطُغاةِ
والعُتاةِ
والغلمانْ!!...
بلى بلى
نضجُّ بالصحوةِ
حينَ يقطعُ الّلئامْ
وريدَنا
ورأسَ من نحبُّهُ
في زمن الخصامْ

ها نحنُ كُلَّ عامْ
نراهُ في اروقةِ المدينةِ القديمةْ
تجتالهُ المقامعُ الأثيمةْ
ورأسُه المقطوعُ في يديهِ....
يُعَفِّرُ الترابُ مقلتيهِ...
تتبعهُ النوارسُ الكريمةْ
وزمرةٌ من الجناةِ يُهرعونْ
يسعونَ خلفَ نعشِهِ
بالويلِ ثم الويل والنميمةْ
-ابعدَ قطعِ رأسه
تدعون بالثبورْ؟!
وا عجبا يا أمةَ ال……!!

ينطق فوق رمحهِ الطويل
يبلغ صوتُهُ
الوهادَ
والجبالَ
والوديانْ

-هذي انا.........
ذبيحةٌ مسفوحةُ الدماءْ
مرثيةٌ
قانيةُ الحِنّاءْ
هذي دماء مهجتي
وليسَ ماءْ
كطفلةٍ بريئةٍ
تعشقُ ملأ َقلبِها الصغيرْ
مسافةَ الحوارِ بينَ معبرين
قنطرةَ اللقاءِ بين مذبحِ الحلاجِ
واستباحةِ السراجِ
في دمِ الحسينْ

أحضنُ فوقَ صدرِيَ المزدانِ
بالاحزانِ والحنانْ
أيقونةَ المسيحِ قبلَ صلبِهِ
وسورةَ الرحمن

رؤيا
------
أفَيْلَقُ الشَّمْسِ ما أُطالِعُــهُ
أم ْ زحْفُهُ أبْرقَتْ مَطالعُهُ؟

.
مُضَمَّخٌ والخُصومُ في رَهَقٍ
مُحاصَرٌ والحصارُ ذائعُهُ
.
ما ٱنفكَّ مُحْتَسِبًا على أمــــَلٍ
يراهُ..... ، تسبقُهُ لوامِعُهُ
.
يكادُ يخْطَفُهُ مُعاجِـــلُهُ
هَيْناً ، ومِنْ حِلْمِهِ يُمانِعُهُ
.
ما أعظمَ ٱلمُبتلى، وفي يــــدِهِ
سِرٌّ يدِكُّ الجبالَ قارعُهُ
.
مَنْ مُفرَدٌ غيرُهُ وقدْ عكَــفَتْ
زعازِعٌ حولَهُ تُصارعُهُ
.
منْ راسخٌ والحتوفُ داهمـةٌ
بكَلكَلٍ تلتظي مطامعُهُ
.
من صابرٌ عارفٌ وغايتُهُ
فوقَ السُّهى مَقْصدٌ يطالعــُهُ
.
لكنَّ آيتَهُ تصبُّرُهُ
حتّى تَبِيْنَ لهُ جوامعُهُ
.
"وآجلٍ مُبْرقٍ" ، وصائتُهُ
يكادُ يبلغُ منهُ سامعـُهُ
.
صهيونُ تعرفُ وقعَهُ قِدَمًا
مذْ ارَّقَتْ ليلَها مدافعُه
.
أصدفةٌ وٱسمُهُ يُساوقُهُ
أم صدفةٌ والزمانُ تابعُهُ؟
.
مأمولُهُ مُجْلِبٌ على بُلُقٍ
شِماسِ لكنّها تُطاوعُهُ
.
من عزمةٍ فيهِ ليسَ تُدْرِكُــها
الّا النجومُ التي تُضارعُهُ
.
كواكبٌ سطعتْ وما بَرِحَتْ
بالعزمِ عاقِدةً تُشايعُهُ
.
ألشعبُ يعلمُ أنَّ مُخْتَرِقًا
بهِ الدُّجى حُرَّةٌ طبايعُهُ
.
يجودُ وهوَ الهِزَبْرُ من كَرّمٍ
يحنو فتسبقُهُ مدامــــعُهُ
.
ما ٱنفكَّ يمحضُهُ مودّتَهُ
رعْيَاً لِما جَوَّدتْ روائعُهُ
.
مُذْ أينعَ الفجرُ والدُّنا دَهَــشٌ
بأيِّ فَتْحٍ يَجِدُّ بارعُهُ
.
تحيّرَ الخلقُ في إرادتِهِ
ماذا يُخَبِّئُ بعْدُ رادعُهُ
.
هذا يَطيبُ ، وذاكَ مرتعِدٌ
كلٌّ تُهدْهِدُهُ نوازِعُهُ
.
الشرُّ يحسبُ أنّهُ خطَرٌ
والخيرُ في لهَفٍ يتابعُهُ
.
وَيْكَٱنَهُ خطَرٌ يجيشُ على
رَبائِبٍ راعَها وقائعُهُ
.
السّلْمُ ينهَضُ فيهِ مُدَّرِعًا
بهِ وذو حَسَدٍ يُقاطِعُهُ
.
يا ذلَّ مَنْ سوَّلَتْ مَظَنَــّتُهُ
لهُ ، وأحْرَنَهُ تراجعُهُ

+++

من الجميل ان تكون قصيدتا اخي واستاذي السيد غازي الموسوي معرض البحث هاهنا مدعاة للتحفيز باستعراض موضوعة شعرية فنية غاية في الاهمية ساتناولها قبل البدء بتشريح واستعراض قصيدتي اخي الاستاذ ابي طبيخ الموسوي:

قبل الولوج في الاستعراض الادبي لحالتين متلازمتين في الشعر العربي ( الجرس) و ( الايقاع)، والتي يتصور البعض انهما واحد لكن الحقيقة ان هناك فرقا بينهما على صعيد الموسيقى وهما ان وجدا احسنا الوزن وان غاب النغم المتواتر منهما احدث خللا او اقلق الوزن ( البحر) على اقل تقدير، وسيلاحظ ما مؤداه في الشعر العمود او الشعر الحر لمن خبر هذين الفنيين المترابطين..

تكتمل حالة الشعر بصفات لا يمكن الاستغناء عنها:

العمود:

الصدر والعجز، البحراو الوزن، القافية

الحر:

الشطر (والذي حل بديلا عن الشطرين الصدر والعجز)، الوزن او البحر، الخيار في وجود القافية او عدمه...

لاحظ ان التفعيلة والتي هي اس الوزن او البحر لكلا النوعين عمودا كان ام حرا لا يمكن الاستغناء عنها...

اذاً ماذا تعني لنا التفعيلة ولماذا الالتزام بها في النوعين..؟

هذا هو جوهر القصد وهذا الذي يفرق بين الشعر والنثر، وقد يفهم كثيرون الشعر هو ماتم التعارف عليه من تعاريف تم تداولها على الصعيدين الفني والاكاديمي متعددة ومختلفة ومتفاوتة الازمنة كلها تشير الى ماهو ابعد من حقيقة الشعر التي انا بصددها، وهذا ليس اكتشافا او اختراعا لكنه كشف لامر مدفون نتغنى به ونقوله ونحسه ونمارسه بجمالية عالية لكننا لا نلمسه ولا نمسك به بل في احيان كثيرة هو يلبسنا ونحن منغمسون به ولا احد يتحسس سور الجان هذا ورداءه الذي يكللنا على الدوام...

وقد لفت انتباهي في هذين النصين الكريمين للمبدع اخي الاستاذ ابي طبيخ انه كان على بعد مسافة ليست بالهينة بين العملين لكنه كان ممسكا بهما رغم بعد الزمن وبعد الموضع وهذه صفة لا اظن ان كثيرين يمتلكونها وهي صفة تميز (الشاعر الفنان) عن (الشاعر) خصوصا ان لي تجربة التعايش والمزاملة معه التي اهدتني معرفة تفصيلية دقيقة اكاد انفرد بها عن غيري من محبيه..

وهذا الذي انا بصدده في هذين النصين فالمتابع سيرى ان النص الاول جاء على شعر التفعيلة مسترخيا مهلهلا منسابا في ايقاع منسجم من اوله الى اخر النص، هذا الايقاع كان يحمله جرس سليم صاف، هو ليس تفعيلة الرجز اطلاقا انما هو ايقاع النغم المرجز والذي يختلف عن كثير من القصائد حتى وان كتبت على نفس الوزن او نفس التفعيلة وحتى ان كان في نفس الموضوع، على انني لا اغالي اذا طرحت اشبه بالتمرين على ايقاعات قصيدة التفعيلة ومتابعة هذا الايقاع المنغم بموسيقى لم يتكلف بصنعها اخي الموسوي، انما جاءت منسرحة كعادته كما في مواضع ابداعية اخرى اعرفها، وهذا الذي يفرقه ويميزه كشاعر فنان عن شاعر اخر ملتزم جيد النظم والبلاغة وما الى ذلك من مواصفات اخرى يتمتع بها الشعراء الاخرون، الفارق هنا ان من يمتلك اذنا صافية عالية الدقة في الالتقاط والاصغاء سينعكس بالتاكيد على الناتج الابداعي والمنجز الشعري الفني، وهذ رايناه في شعراء مماثلين، ولا غرابة ان الانجاز سيرتقي الى درجات اعلى كلما اتصف الشاعر بفن عال يبعده عن الكلاسيك المقيد الخالي من الروح، او الانفتاح غير المنضبط الذي يفقد الشعر قيمته العليا المثلى..

هذه الخصلة وهذه الصفة التي يقف عندها الشاعر الموسوي هي التي تجعلني اكرر هذا الموضوع واكاد اعيده في كل تناول لعمل شعري من نتاجه..

لو تناولت مثلا لا على التعيين من اي جزء من اجزاء القصيدة سترى الايقاع الذي اقصده في مقدمة القصيدة وفي وسطها وفي نهايتها، وهذا يشير دون ادنى شك ان العمل الشعري المقصود عبارة عن صورة تحمل شكلين : موجبا واضحا ظاهرا للعيان وهو مايدعى ( positive) والاخر هو المخفي او مايعرف بـ (Negative) وبينهما بعد كبير ومسافة غير قليلة من الملامح فيما بين المخفي دون ترتيب والظاهر المزوق الذي اضيف له مايجمله، كما في الصورة وطريقة انتاجها كما كان معمولا به سابقا، للتوضيح،

لنقرأ:

لانني والشعرُ صاحبانْ

/////

منذُ قديمِ العصرِ والاوانْ

///

أشهدُ أنَّ الحزن في دمائنا

///

محبرةٌ والارقُ اللسانْ

///

فلا ننامُ حينَ يجأرونَ بالأذانْ

///

انا هنا اسوق هذا المثال كحالة متشابهة مع المتن نزولا حتى الخاتمة، الجميل في الامر والذي اود التاكيد عليه، هو هذا الايقاع الراقص المموسق الشفاف المنساب الذي لايقف عند لفظه اللسان، يكاد يحركني حد الاهتزاز، كأن اصوات ابتهالات وانشاد (كورالي) كانك في حضرة رهبانية الموقف، تموج معها الاجساد دون شعور،

لو عدنا ثانية دون كلام وفعلنا الاهات فقط فانك ستجد ان ماتتاوه به وما تتناغم به مع اللحن هو الايقاع الذي حكمه جرس كان له كالجواد حيث يحمله الى ماشاء الله لكننا نرى الراكب دون ان ننظر الجواد وهذا ما اطلقت عليه (سور الجان)،

مايبهر اكثر هو الذي حصل في العمود وفي بحر من البحور التي نأى عنها الشعراء فيما تقدم من الزمن وفي القرنين السابقين الى وقتنا هذا، لاسباب عديدة، فالبعض يرى ان ايقاعها منساب بشكل يبعدها عن الجرس المأمول،  لكن الحقيقة التي لا يراها الا عارف ولا يؤكدها الا خبير بالعروض وموسيقى العروض، هو ان هذه البحور المقصودة، والتي انحصرت حول ( المنسرح، المضارع، المقتضب، المجتث، وربما السريع) كانت بحورا كتبت عليها العرب، وهي بحور قائمة بذاتها لها تفعيلتها التي تميزها عن باقي البحور، فاين الخلل؟ هل في البحور ام بمن يقرأ تلك البحور؟

الجواب ان الشق الثاني هو السبب، فالبحور قائمة ومائلة وباقية للعيان، لكن رغبة الناس في التجرد والابتعاد عنها ادت الى انزوائها بعيدا دون اكتراث وهذا سببه موضوع بحثي يحتاج الى غير هذه المساحة، وما يثبت صحة كلامي هنا اننا لو قرأنا قصيدة الاستاذ الموسوي (رؤيا) والتي كتبت على ( المنسرح) وهو واحد من البحور المذكورة ، لراينا الايقاع الراقي السليم والجرس الصافي الذي يحمل نغمة هذا الايقاع،

فلنقرأ:

من المطلع:

//// أفَيْلَقُ الشَّمْسِ ما أُطالِعُــهُ
  أم ْ زحْفُهُ أبْرقَتْ مَطالعُهُ؟ ///

ولنختر من الوسط:

/// تحيّرَ الخلقُ في إرادتِهِ
ماذا يُخَبِّئُ بعْدُ رادعُهُ ///

ولناخذ من الخاتمة:

/// السّلْمُ ينهَضُ فيهِ مُدَّرِعًا
بهِ وذو حَسَدٍ يُقاطِعُهُ //

اين الغرابة؟ اين الابداع؟

بحران بينهما بعد كبير، هذا سهل مستساغ، وذاك ثقيل لا يقبله كثيرون، هذا شعر تفعيلة، وذاك عمود موزون مقفى، اذا انا الذي امسكت بما لم يمسكه من قبلي احد، وهذا ما اتحدث عنه دائما، هل هناك من نقطة التقاء بعد هذه المواصفات الغريبة في الاختلاف فيما بينهما؟؟؟

نعم!! ماهي؟

هناك مايسمى (جُرْس)، وهذا الجرس هو الذي يبنى عليه النغم، وتبنى على النغم الموسيقى، والموسيقى  وايقاعاتها هي قوام الشعر، حتى وان كان الكلام  الطبيعي يتمتع بالايقاع والجرس الصافي فهو شعر لا يشترط به مايشترط لغيره، وهذا الفرق الذي اتحدث عنه يحتاج ان يطلع عليه ويقراه الشاعر لكي يصبح في النهاية شاعرا فنانا يمتاز عن غيره انه صافي الاذن سليم الايقاع وان يعرف الفرق بين الكلام ذي الايقاع وبين الكلام العادي المسموع الخالي من الايقاع..

لو جمعنا الان على سبيل المثال:

قصيدة التفعيلة:

/// لانني والشعرُ صاحبانْ

منذُ قديمِ العصرِ والاوانْ

أشهدُ أنَّ الحزن في دمائنا ///

مع شيء من العمود:

///  أفَيْلَقُ الشَّمْسِ ما أُطالِعُــهُ
   أم ْ زحْفُهُ أبْرقَتْ مَطالعُهُ

تحيّرَ الخلقُ في إرادتِهِ
  ماذا يُخَبِّئُ بعْدُ رادعُهُ

السّلْمُ ينهَضُ فيهِ مُدَّرِعًا
  بهِ وذو حَسَدٍ يُقاطِعُهُ  ///

هنا سنجد قرابة غريبة في الوزن ومن ايقاعاتها المتناغمة تكاد تجمع الايقاعين في ايقاع واحد في حين ان البحرين اللذين كتب عليهما الشاعر المبدع اخي الموسوي ليس بينهما ارتباط لا من ناحية الوزن فهذا عمود ولا من ناحية التفعيلة فذلك حر.. لكنني اؤكد على حسن جرسه وسلامة ايقاعه، الذي الغى بهما البعد الاكاديمي الشاسع القائم لدى النقاد..

ارايتم الان كيف تستسيغ الاذن الايقاع لا البحر؟ ارايتم الان ان هناك علاقة وثيقة بين الجرس والوزن؟ هذا الذي مكنني الله عليه، اتمنى ان يرى الاخرون الشعر ليس وزنا وقافية فقط، ويفهم المتابعون ان هناك ماهو موجود متوفر تحت البحر واوزانه، ومتى لاحظنا ذلك تمكنا من الشعر بشكل حرفي خبير..

هذه الوقفة اتمنى ان تنال رضا الاحبة من المتابعين وان يمعنوا النظر فيما استعرضناه وسنرى باذن الله ان صيدنا وفير...

كما اتمنى ان اكون قد وفقت في هذه الاقتناصة الجميلة..

مودتي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي