PNGHunt-com-2

العصفور المسكين : ق.ق بقلم الكاتب وائل غازي شعبان

#العصفور_المسكين

في إحدى المدن المزدحمة، وحيث لم يعد للعلاقات الإنسانيّة ما يؤطّرها أو يعلوها بمفاهيم واضحةٍ للعدالة، اعتاد أحد المقاتلين القدامى -وقد انتقل للسّكن في الحيّ مؤخّراً مع زوجه وأطفاله- الجلوس على شرفته الصّغيرة في الطّابق الثّاني، قبالة عصفورٍ في قفصٍ أزرق باهتٍ غير لافتٍ للنّظر معلّقٍ على شرفةٍ وادعةٍ لبيتٍ يبدو على حيطانه لون اليتم وقد بات رماديّاً وأقلّ جلبةً من باقي البيوت على الجهة المقابلة من الشّارع.

لاحظت الفتاة صاحبة العصفور، وهي صبيّةٌ ثلاثينيّةٌ غلبت الغرابة على جلّ تصرّفاتها وكأنّها متوحّدةٌ مع طيفٍ ما، أنّ جارهم الجديد الأربعينيّ شديد السُّمرةِ لا يكاد يزيح ناظريه عن شرفتها، ولم يمرّ الكثير من الوقت حتّى بدأ حديث النّظرات، وصار كلٌّ منهما يراقب الآخر بصمتٍ تتخلّله الابتسامات المشلولة.

أحب الرّجل العصفور، وصار رفيقه شبه الوحيد من حيثما ضاقت أحوال النّاس، ولم يعد هنالك ما يتيح محادثة البشر، فكان يلقي عليه التّحايا، ويستمع إلى شدوه بإنصاتٍ تامٍّ، فيما لم يلتفت إليه غيره من قاطني الحيّ، بينما كانت الفتاة صاحبة العصفور تخشى أن تُرى وهي تغازل المقاتل الكهل فيُفهم ذلك وكأنّها تحاول سرقته من عائلته، فآثرت هجره لكيلا تتطوّر الأنانيّة ويشعر أبناؤه لاحقاً باليتم الّذي فشى في حناياها.

ومع مرور الوقت، وحيث قد بلغ تعلّق الرّجل بالفتاة وعصفورها مبلغ النّفَس من الصّدر، والموج من البحر، أغلقت الفتاة ستائر نافذتها، وامتنعت عن الخروج إلى شرفة غرفتها  -من أجل العصفور- إلّا حينما تكون أكيدةً من أنّ عاشقها المفترض ليس في الجوار!

وفي يومٍ من تالي الأيّام، وحيث بدأ الوجد يسيطر على ملامح الرّجل المسكين، بدا على العصفور الاضطراب وكأنّه يحاول الخروج من بين القضبان أو أنّ مكروهاً أصابه، واستمرّ ذلك بتسارعٍ متزايدٍ، ما دفع الرّجل إلى تسلّق حائط البناء المقابل مع حلول سواد اللّيل، ليصل إليه خِلسةً، ويالَلمفاجأة..

ما من ماءٍ في القفص سوى بضع قطيراتٍ أوشكت على الجفاف، والمعلف شبه فارغٍ، وهنالك بضع حبيباتٍ من سمّ الفئران أرجوانيّة اللّون قد تبعثرت في أرضيّته!

أخذ الرّجل العصفور، وعاد به إلى منزله، فسقاه وأطعمه، ثم أحضر له قفصاً جديداً ووضعه على شرفته أمام ناظريه وحيث لا يستطيع أذى البشر أن يصيبه بمكروهٍ، ولكنّ العصفور توقّف عن التّغريد..

صُعقت الفتاة من اختفاء عصفورها والقفص مغلقٌ، ولا أثر لريشٍ يوحي بمجيء قطّةٍ لافتراسه!

كانت قد قرّرت مغادرة الحيّ، ولم تشأ أن تترك لعاشقها الصّامت الوغد أيّة ذكرى..

وفي صبيحة اليوم التّالي، وحيث جاءت سيارةٌ هرِمةٌ شمطاء لأخذها إلى المصير المجهول، وقد تجمهر حولها أمّها وأختاها في مشهدٍ مؤلمٍ للوداع، تقدّم منها الرّجل بوقار الأوطان، وناولها رسالةً بظرفٍ مختومٍ كتب فيها:

"عزيزتي صاحبة العصفور، عصفورك لديّ، وهو بأمانٍ ما دام عندي وبقيت حيّاً، لم أكن لأسمح لك بقتله صبراً وهو الشّاهد الوحيد النّاطق على قصّتنا، وليَ فيه حصّةٌ بحكم إنصاتي إلى شدوه ومراقبته كلّ تلك السّاعات، سامحك الله، أعتقد بأنّ النّهاية باتت الآن أكثر عدلاً".

وما أن انتهت الفتاة من قراءة الرّسالة، مزّقتها إرباً، وألقت بها من نافذة السّيارة البطيئة وهي تعضّ على ناجذيها، وتلعن ضعفها وقدرَها وسطوة الرّجال معاً!

وائل، الرّياض
أيلول الأسود ٢٠٢٠

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي